تسهيل منح القروض أم اتباع سياسة لجم السيولة؟.. مسألة المفاضلة بين التقليل وإطلاق القروض تحتاج تفكيراً ملياً د. عاصي: لا بد من الموازنة بين منح القروض والسيطرة على استخدامها في الوجهة المخصصة لها
| بارعة جمعة
«نقص السيولة القابلة للإقراض، ووجود تفاوت بين مستويات الدخل وقيمة الأقساط المترتبة على القروض، إلى جانب التضخم المستمر».. تعد أسباباً موجبة لوقف الإقراض في المصارف عامةً، التي باتت بمعظمها تعتمد على ودائع لجهات حكومية وضمن شكل حسابات جارية.. حقيقة لم يخفها المعنيون أنفسهم، ممن وجدوا في السياسات النقدية المتبعة بالفترة الأخيرة حالة من عدم الجدوى الاقتصادية لها، حيث إنه وعلى الرغم من رفع سعر الفائدة على الودائع، الذي يصل في بعض الأحيان إلى 13 بالمئة، لم يسهم في رفع معدلات الإيداع، نظراً للمخاوف المُترافقة مع معدلات التضخم، وتقييد السحوبات، وغيرها.
مؤشراتٌ لم تكن بالإيجابية لحالة العمل المصرفي في سورية، لتبدو التساؤلات الأكثر إلحاحاً اليوم، حول الأكثر جدوى لدفع العملية الإنتاجية ورفدها بما يناسب من أموال تنشط من خلالها الدورة الاقتصادية، بدءاً بالإنتاج ووصولاً للتصدير وتأمين حاجة السوق من القطع الأجنبي.
ظروف العمل
كغيرها من النشاطات الاقتصادية الأخرى، تتأثر السياسة النقدية للمصارف بالظروف المالية والاقتصادية السائدة بالبلاد، وهو ما يحكم موقفها من مسألة الإقراض، توصيف لواقع العمل قدمته الوزيرة السابقة الدكتورة لمياء عاصي في حديث خاص مع «الاقتصادية»، شرحت من خلاله العوامل الأكثر تأثيراً بحركة السيولة، ملخصة إياها بعاملين اثنين، الأول: هو الوجهة التي ستتحرك نحوها السيولة، أو كيفية استخدام السيولة الناجمة عن الإقراض؟
متسائلةً.. هل سيتم توجيهها بإقامة مشروعات إنتاجية؟ أم إنها ستوجه للاستهلاك؟!! أم سيسعى البعض لاستخدامها في عمليات المضاربة على العملة المحلية؟ معتبرةً أنه الاحتمال الأسوأ بين هذه الوجهات على الإطلاق.
أما عن توصيفها للعامل الثاني، القائم بشكل رئيس على العلاقة بين معدل التضخم وسعر الفائدة، في وقت أكدت فيه د. عاصي أنه في حال كان معدل التضخم أعلى من سعر الفائدة كما في الحالة السورية، فإن ذلك سيشجع البعض على الاقتراض، باعتبار أن تكلفة الأموال رخيصة في هذه الحالة، كما يعتبر السبيل الوحيد لتصحيح تلك المعادلة باللجوء إلى رفع سعر الفائدة، الذي بلغ في الأرجنتين مثلاً 70 بالمئة، كما أنه حالياً في تركيا 50 بالمئة كما أن سعر الفائدة على بعض العملات في الاقتصاديات التي تعاني ارتفاعاً متوسطاً بلغ 30 بالمئة وهو ما يدفع المقترضين بالفعل إلى التفكير ملياً قبل المبادرة إلى الاقتراض.
الحركة الإنتاجية
هي وجه من أوجه التشخيص المباشر لواقع القطاع المصرفي التي قدمتها د. عاصي، مبينة بالوقت ذاته حال السلطات النقدية في حال تم اللجوء إلى لجم السيولة وعدم تسهيل منح القروض، الأمر الذي سيؤدي إلى إعاقة أو إرباك الحركة التجارية والإنتاجية، وبالتالي تخفيض عدد المشروعات العاملة وتقليل حجم الإنتاج من السلع، الذي بدوره سيشكل أحد العوامل المهمة والمسببة لانكماش الناتج المحلي الإجمالي.
إلا أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، بل سيتجاوزه وصولاً لمنعكسات سلبية على قيمة العملة المحلية أيضاً برأي د. عاصي، وبالتالي ارتفاع المؤشر العام للأسعار وانخفاض المستوى المعيشي لعموم الناس، مع الإشارة إلى تضرر البنوك أيضاً من سياسة عدم الإقراض وتقييد السيولة، الأمر الذي سيجعلها تعاني من ارتفاع منسوب السيولة الضارة لديها مع انخفاض العائدات، نتيجة عدم توظيف تلك الأموال، ما يدفع السلطات النقدية إلى سياسة لجم السيولة وتعليق الإقراض في حالات معينة مثل: ارتفاع سعر الصرف الكبير ومعدل التضخم المفرط، حيث يكون سعر الفائدة أقل بكثير من التغير في سعر الصرف ومعدل التضخم، فتبرز المخاوف استخدام مبالغ القروض للمضاربة على الليرة السورية بدل استثمارها في مشروعات اقتصادية شرعية، وهو ما حصل في السنوات الأولى للأزمة في سورية.
الأمر الذي أجبر الحكومة على تعليق عمليات الإقراض، في حين كان الحل ممكناً بطرق أخرى اقترحتها د. عاصي، وفق مبدأ منح القرض على مراحل حسب تقدم إنجاز المشروع الإنتاجي، إلى جانب التأكد من السلطات النقدية بأن الأموال ستصرف حسب الوجهة المخصصة لها.
أما وبالعودة إلى السؤال الجوهري، حول أيهما الأكثر جدوى للاقتصاد تسهيل منح القروض أم لجم السيولة؟ تعود د. عاصي لتعليق الأمر بعدة عوامل اقتصادية، داعية إلى الموازنة بين منح القروض والسيطرة على استخدامات تلك القروض وتحفيز النمو الاقتصادي ورفع الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى أن يكون ربط سعر الفائدة بمعدل التضخم، تفادياً لسوء استخدام مبالغ القروض، مع مراعاة الوضع المالي والاقتصادي الحالي في سورية، الذي بات بحاجة إلى ضخ الأموال وتحريكها لتحفيز الإنتاج المحلي وردم الفجوة التنموية في جميع القطاعات.
تسهيلات نقدية
نعم هي حالة من التجانس بين نوعين من السياسة النقدية، في حال تم اعتماد إحداهما ستسقط الأخرى فورا، لكن ماذا عن تيسير القروض بشروط محددة؟!
اقتراحٌ لقي الكثير من الترحيب لدى الخبير الاقتصادي د. مجدي الجاموس، تحت ظروف الحاجة الماسة لإلغاء سياسة حبس السيولة وتجفيفها والتحول إلى القروض الموجهة، التي قدمها د. الجاموس في حديثه لـ«الاقتصادية»، تماشياً مع ما تقوم به دول العالم، باعتماد خطط طويلة الأجل، إذ إننا نملك خططاً خمسية، توجه لدعم عدد محدود من القطاعات، وعليه يقوم مصرف سورية المركزي بتوجيه سياساته لتقديم تسهيلات ائتمانية.
كما يستذكر د. الجاموس ما تم العمل به ضمن الخطة الخمسية لعام 2005، بتوجيهها لدعم القطاع العقاري والجامعات آنذاك، مع إعطاء تسهيلات كبيرة لمنح القروض العقارية، مؤيداً التوجه اليوم لمنح هذه القروض إلى القطاعات الصناعية – الإنتاجية والزراعة والطاقة، التي من الواجب توفيرها اليوم لتأمين الطاقة البديلة للعمليات الصناعية وتحقيق معدلات إنتاج عالية وبالتالي طاقة تصديرية، ما ينعكس إيجاباً على تحسن العملة المحلية.
كل ذلك، من شأنه دعم الإنتاج، الذي سيسهم بتعزيز سعر الصرف عبر الصادرات، ومن ثم تمويل العجز الموجود بإيرادات حقيقية، عكس ما يتم العمل به حالياً ضمن سياسة تمويل العجز بالعجز.
اتجاه يؤكد، وجود تحسن بالفكر والخطط الاقتصادية برأي د. الجاموس، إلا أنه لا بد من الانتباه إلى أن سياسة لجم السيولة أفقدت الثقة بالقطاع المالي، واليوم يجب العمل على إعادتها، من خلال زيادة حجم الإيداعات والمخزون المالي لديه.
تأثيرات مُحتملة
إلا أنه بالنظر إلى الحالة الاقتصادية السورية الحالية، نجد أن مسألة المفاضلة بين لجم السيولة وإطلاق القروض، تتطلب التفكير العميق بتأثير كل منهما في أمور كثيرة مثل: التضخم، الاستثمار، والقدرة الشرائية للمواطنين وفق رؤية الخبير الاقتصادي محمد السلوم، الذي قدم من خلال حديثه مع «الاقتصادية» ثلاثة اقتراحات لسيناريوهات محتملة.
وبناءً على ذلك، يجد السلوم بداية أن الهدف من لجم السيولة بشكل كامل هو خفض التضخم واستقرار العملة، الأمر الذي ينبغي أن ترافقه إجراءات عدة منها رفع أسعار الفائدة على الإيداعات، لجذب الأموال بعيداً عن السوق، إلى جانب تقليل الاعتمادات المصرفية للأفراد والشركات، والحد من تقديم القروض الجديدة، تأكيد على أهمية تشديد السياسة النقدية ومراقبة صرف الأموال، وتقليل الإنفاق الحكومي.
بهذه الطريقة، سنلمس إيجابيات كثيرة، ذكرها السلوم، تؤدي إلى استقرار قيمة الليرة على المدى القصير وتقليل التضخم، والحد من المضاربة في الأسواق والتقليل من الضغط على العملة المحلية.
محذراً بالوقت ذاته من التأثير السلبي في النمو الاقتصادي، الذي يقود إلى تراجع الإنفاق الاستثماري الاستهلاكي، وبالتالي زيادة الركود الاقتصادي والبطالة، نتيجة ضعف الطلب على المنتجات والخدمات بشكل عام.
رقابة وتحكم
ومن زاوية أخرى، يقدم السلوم اتجاهاً آخر يسمح بإطلاق القروض ضمن شروط التحفظ والمراقبة الشديدة، لغاية محددة وهي تشجيع الاستثمار ودفع عجلة الاقتصاد، من دون إغفال أهمية الحفاظ على بعض الاستقرار النقدي، وعدم الإقدام على منح القروض قبل دراستها جيداً، بحيث تستهدف مشروعات إنتاجية وصناعية وزراعية فقط، بدلاً من القروض الاستهلاكية.
عند هذه النقطة، يقف ليقول: لا بد من فرض شروط صارمة على كيفية استخدام القروض، بحيث تكون موجهة لتنمية القطاعات الإنتاجية فقط برأيه، مع تحديد سقف القروض وتقديمها بأسعار فائدة مشجعة، والحرص على المتابعة الدقيقة للأداء الاقتصادي وتأثير القروض أيضاً.
حيث إن لمثل هذه الخطوة تأثيراً إيجابياً، عبر مساهمة القروض بتحريك عجلة الإنتاج وتحفيز النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل، مع الإشارة من السلوم إلى دوره بتقليل الضغط على الليرة السورية، مقارنة بإطلاق القروض الاستهلاكية العشوائية، ناهيك عن مساهمتها الفعالة بدعم القطاعات الحيوية (كالزراعة والصناعة) وتحسين التصدير.
وفي الوجه الآخر للأمر، تبدو فكرة تقديم القروض من دون تنظيم دقيق لها، سبباً في حدوث ضغوط تضخمية معتدلة، ما يزيد من ديون الشركات، إذا لم يتم اختيار المشروعات بشكل ناجح.
تحقيق التوازن
جانبان من السياسات المصرفية، قدمها الخبير محمد السلوم، ولكل منهما محاذيره، إلا أنه وفي حال تم إطلاق القروض بتوجيه سيادي وتقييد السيولة العامة، سنجد أن الحل الأنجع، هو الوصول إلى حالة من التوازن بين دعم النمو الاقتصادي والحد من التضخم، والتي بالطبع تستوجب تقديم قروض مدعومة حكومياً بأسعار فائدة منخفضة، مع تشجيع المشروعات الإنتاجية والزراعية والصناعية، بالإضافة إلى تخفيض المعروض النقدي، من خلال تشديد الرقابة على تدفق الأموال وتقليل السيولة النقدية في الأسواق، واللجوء إلى تطبيق سياسات توجيهية للسيولة، بحيث يتم توجيهها نحو القطاعات الأكثر احتياجاً وأكثر جدوى اقتصادية من حيث المردود.
وفي استعراض إيجابيات هذا التوجه، يجد السلوم أنه يدعم الاقتصاد بشكل مستدام، مع تقليل التضخم والسيطرة على قيمة الليرة، كما أنه يحافظ على التوازن بين تحفيز النمو الاقتصادي وتقليل الضغوط التضخمية، إلى جانب توفيره دعماً مباشراً للقطاعات الإنتاجية، ما يعزز الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
كل ذلك، شرط توافر التنسيق الدقيق بين الجهات الحكومية والبنوك، وهو ما قد يكون صعب التنفيذ برأيه، مع احتمالية أن يتعرض الاقتصاد لعدد من المخاطر، في حال لم تتم عملية إدارة القروض والسيولة بشكل دقيق ومدروس.
توجيه البوصلة
وفي العودة للسيناريو الأنسب للحالة السورية، لا بد من تحديد الأولويات برأي الخبير الاقتصادي محمد السلوم، حيث إنه في حال كانت الأولوية هي استقرار الليرة والسيطرة على التضخم، لابد من الأخذ بالسيناريو الأول وهو (لجم السيولة)، لكونه الأنسب برأيه، شرط اقترانه ببرنامج لدعم الفئات الضعيفة اقتصاديا، لمواجهة الأثر السلبي في القدرة الشرائية.
أما في حالة التركيز على تحفيز الاقتصاد وتخفيف معدلات البطالة، لابد من التعاطي مع سيناريو (إطلاق القروض بتحفظ)، لكونه يسمح بتشجيع الاستثمار في المشروعات التي يمكن أن تولد قيمة مضافة وتحسين الإنتاج المحلي.
وفي حال تم العمل على تحقيق توازن بين دعم النمو والاستقرار النقدي، يبدو الخيار الأمثل هنا هو (إطلاق القروض الموجهة مع تقييد السيولة)، بصفته الأكثر شمولاً وتوازناً، ولاسيما مع توافر القدرة على إدارة السياسة النقدية بفعالية ودقة.
وعليه، يطالب الخبير الاقتصادي محمد السلوم كل من هو معني بصناعة القرار الاقتصادي في سورية، النظر في كيفية إدارة المخاطر الاقتصادية واختيار السيناريو الأمثل، الذي يراعي الواقع الاقتصادي والتحديات المالية الراهنة، مع إمكانية تعديل السيناريو بما يتوافق مع التطورات المستقبلية.