«النعومة» تتسرب إلى مهن جديدة كانت بالأمس القريب حكراً على الرجال.. «تأنيث» العمالة يزداد تحت ضغط اقتصادي..!.. 48 بالمئة من العاملين بالقطاع العام نساء.. 239 ألف امرأة مقابل 82 ألف رجل في وزارة التربية
| شادية إسبر
نزيف العمالة الذي تعرض لها الاقتصاد السوري على مدى سنوات الحرب، من أهم الأولويات التي يجب دراستها بدقة وترميمها بسرعة، فيه الكثير من الجوانب إن كان على مستوى ما خسرته البلاد من شبابها على يد الإرهاب، أو عبر موجات الهجرة الكبيرة، أو بالانزياح من مناطق إلى أخرى، في حين الخطر الأكبر في قلة الكفاءات وأعداد الشباب العامل مع ميل اجتماعي إلى انخفاض معدلات الإنجاب، ما يعني أن الاقتصاد يخسر يده العاملة الشابة الكفوءة حاضراً ومستقبلا، ويميل إلى «النعومة» مع ازدياد أعداد العاملات على حساب العاملين، ودخول المرأة إلى مهن جديدة كانت إلى الأمس القريب حكراً على الرجال، الأمر الذي يترك أثراً اقتصادياً واجتماعياً يحتاج لمواكبته وإيجاد حلول لدرء مخاطره، فما تداعيات «تأنيث العمالة» على الناتج المحلي وسوق وبيئة الأعمال؟ ماذا تقول الأرقام والنسب؟ وهل من حاجة لتشريعات؟
440 ألف عاملة في القطاع العام
وصل عدد النساء العاملات في القطاع العام خلال عام 2022 إلى 440 ألف امرأة عاملة مشكلة ما نسبته 48 بالمئة من إجمالي العاملين في القطاع العام والبالغ عددهم في السنة ذاتها نحو 912 ألف عامل، وفق الدكتور أيهم أسد عضو الهيئة التدريسية في المعهد الوطني للإدارة العامة.
الدكتور أسد قال إن وزارة التربية شهدت تركزاً كبيراً في قوة العمل النسوية فيها مقارنة بباقي الوزارات، حيث استقطبت وحدها ما نسبته 54 بالمئة من قوة العمل النسوية العاملة في القطاع العام خلال العام ذاته، إذ يعمل في الوزارة نحو 239 ألفاً من النساء مقابل نحو 82 ألف رجل، في حين استقطبت وزارة الصحة ما نسبته 13 بالمئة تقريباً من قوة العمل النسوية حيث يعمل فيها نحو 53 ألفاً من النساء مقابل نحو 31 ألفاً من الرجال، أي إن نحو 65 بالمئة من قوة العمل النسوية في القطاع العام تم استقطابها من وزارتين لوحدهما، وبالتالي فإن هناك توجهاً كبيراً من قوة العمل النسوية ورغبة كبيرة للعمل في قطاعي التعليم والصحة أكثر من بقية القطاعات التي لا تشكل قطاعات جذب للنساء مثل قطاعات الصناعة والنقل والتشييد وغيرها، موضحاً أن بعض العوامل الاجتماعية أثرت في توسيع دائرة توظيف النساء في هذين القطاعين، كقرارات توظيف ذوي الجرحى والشهداء، والقرب الجغرافي من مكان التوظيف، وتحول الكثير من النساء إلى معيلات للأسر.
من جانبه رأى الأستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة حلب الدكتور عبد الرؤوف النحاس أن النساء السوريات ما زلن بشكل عام يمارسن أعمالاً تقليدية تكرس الأدوار النمطية، وهناك بعض النساء أخذن مساراً مختلفاً باتجاه امتلاك الأعمال من خلال الحصول على منح أو انخراطهن بمشروعات صغيرة ومتوسطة، لكن يبقى عدد لا بأس به ضمن إطار المشاريع المنزلية والمهن التقليدية كالخياطة والحلاقة النسائية وصناعة الألبان وغيرها، سواء كن برغبتهن أو امتثالاً لعادات المجتمع.
وعن دخول المرأة لمهن جديدة، لفت النحاس إلى أننا أصبحنا نشاهد امرأة تقود سيارة أجرة أو وسيلة نقل عامة أو دراجة هوائية لإيصال الطلبات، وعاملات في المقاهي والمطاعم، معتبراً أن وجود المرأة في هذه الأماكن سببه ضعف الدخل وانخفاض مستوى المعيشة.
وبشأن الأجور رأى النحاس أنه من الطبيعي جداً أن تقبل النساء بأجور أقل من التي يقبل بها الرجال، لكن لم يعد الموضوع اختيارياً بالنسبة لصاحب العمل، فهجرة الشباب للبحث عن مصدر دخل أفضل من المتحقق في سورية إضافة إلى هجرتهم بسبب قانون خدمة العلم وعدم وجود دفع بدل داخلي، أدى لقبول النساء بدخل أقل من الذي يقبل به الرجال.
بالقطاع الخاص قرابة 44 بالمئة من المشتغلات
أرقام ذكرها الدكتور أسد تقول: تشير بيانات مسح قوة العمل في عام 2022 إلى أن عدد المشتغلين في الاقتصاد السوري وصل إلى نحو 4,550 ملايين مشتغل شكلت النساء منهم نحو 993 ألف مشتغل أي ما نسبته 22 بالمئة، وقد شغل القطاع الخاص نحو 437 ألف امرأة من إجمالي قوة العمل النسوية أي إنه شغل قرابة 44 بالمئة من النساء المشتغلات، وأضاف: بالتالي فإن القطاع العام شغل نحو 56 بالمئة من النساء أي أن تركز تشغيل النساء ما زال في القطاع العام أكثر منه في القطاع الخاص وأن هذا القطاع ما زال الأكثر جاذبية لعمل النساء.
وفي تركز المشتغلات حسب القطاعات، أوضح الدكتور أسد أن قطاع الخدمات بأنواعه كافة شغل نحو 651 ألف من النساء في عام 2022 أي ما نسبته 66 بالمئة من المشتغلات، تلاه قطاع الزراعة بتشغيله نحو 14 بالمئة من النساء ومن ثم قطاع التجارة والفنادق بنسبة 10 بالمئة من النساء المشتغلات، أي أن هذه القطاعات قد شغلت نحو 90 بالمئة من قوة العمل النسوية في الاقتصاد، ويعزى ذلك التركز لقوة العمل النسوية في قطاعي الخدمات التجارة إلى توسع هذين القطاعين أكثر من بقية القطاعات الأخرى كقطاعي الصناعة والزراعة وإلى مرونة انتشار وتوسع هذين القطاعين أيضاً في مناطق جغرافية أكثر من بقية القطاعات وإلى سهولة تأسيس المشروعات فيهما، وكما أنهم من القطاعات قليلة الجهد العضلي.
أهمية التنوع القطاعي
وفق الدكتور النحاس فإن التنوع القطاعي يعطي المجال لمساهمة المرأة في الناتج المحلي الإجمالي، فجميع القطاعات التي لا تحتاج إلى الجهد العضلي يمكن للمرأة أن تؤثر بها تأثيراً حقيقياً، وبتفصيل القطاعات نجعل من مساهمة المرأة في الاقتصاد مساهمة حقيقية، لاسيما أن فترة الحرب جعلت أعداد النسوة اللواتي اقتحمن سوق العمل أو أرغمن على اقتحامه أو وجدن فيه تتجاوز أعداد الشباب بثلاثة أضعاف، ولو استطعنا إعادة توزيع الأدوار ومنح قطاعات مناسبة لعمل المرأة واستثمار عملها بشكل جيد يمكن أن نحقق إضافة على مستوى الدخل القومي والناتج القومي الإجمالي.
ظاهرة إيجابية أم سلبية؟
زيادة عدد النساء العاملات في القطاعين العام والخاص هو ظاهرة إيجابية برأي الدكتور أسد الذي أوضح بالقول: كونه يعزز من دخول النساء لسوق العمل ويدعم تمكينهن الاقتصادي والاجتماعي إضافة إلى دعم الحالة الاقتصادية للأسرة، وقد ترافق ذلك التوسع في عمل المرأة إلى الظروف الكثيرة التي تدفع أغلبية الرجال إلى الابتعاد عن الوظائف الحكومية والخاصة؛ بسبب الهجرة للخارج أو بسبب خدمة العلم أو بسبب العمل في أعمال غير منظمة ومهن وحرف خاصة ذات مردود مادي أكبر من مردود الوظائف في القطاعين الخاص والعام، ما يفسح المجال أمام توسع انتشار قوة العمل النسوية في تلك القطاعات.
وجهة نظر مغايرة قدمها الدكتور النحاس الذي رأى آثار الظاهرة في الاقتصاد سلبية للغاية، وأضح بالقول: لأن النساء لم يخضعن لتدريب أو تأهيل مسبق للانخراط في الأعمال الحيوية ضمن قطاعات الدولة أو القطاع الخاص، فالمرأة كانت بأقصى حالاتها تسهم بحوالي 18- 19 بالمئة من إجمالي القوة العاملة في سورية ما قبل الحرب، والآن أصبحت مضطرة للقيام بدور اقتصادي نظراً لانخفاض مستوى المعيشة وعدم كفاية الأسرة من دخل الأب أو الزوج، معتبرا أن ذلك تسبب في ضعف على مستوى الناتج المحلي الاجمالي المتحقق نظراً لأن كفاءة المرأة غير المؤهلة مسبقاً لا يسمح لها بتقديم مستوى العمل الذي يقدمه الشباب.
وأضاف النحاس: هناك حالة من الخوف تنتاب المرأة ما يجعلها غير قادرة على تحمل مسؤولياتها ضمن الاقتصاد، هذا الخوف مبني على الفترة الزمنية الطويلة التي كان ينظر فيها إلى المرأة بأنها يجب أن تكون ربة منزل أو تقوم بمهن أو حرف بسيطة، فلو فصلنا الجهد الذي يقوم به المورد البشري بين العضلي والفكري غالباً المرأة تصلح بالجهد الفكري مقارنة بالرجل الذي يذهب للعضلي إضافة للفكري.
وتابع: بقيت المرأة متخوفة من الانخراط أو الاستفادة من برامج المنح، والسبب عدم بناء معرفتها المالية مسبقاً وعدم الوعي بأهمية العمل المنتج وجدوى المشاريع التي ستقوم بها وتأثيرها، وكيف يمكن أن يكون لها نصيب في الناتج المحلي الإجمالي المتكون، حتى عندما ندرس الدخل المتحصل من الموارد البشرية هناك عيوب في الحساب لأنه لا يأخذ بالحسبان عمل المرأة في منزلها أو بالمشاريع الصغيرة، وعليه فالإشكالية الحقيقية من ناحية تكمن في عدم تثمين الأدوار الاقتصادية التي تقوم بها حيث تبقى خارج مؤشرات النمو الاقتصادي، ومن ناحية أخرى لم تلحظ المشاريع المقدمة أو المشجعة لها الأعباء المتزايدة التي وقعت على كاهل النساء في فترة الحرب، حيث لم يُنظر إلى تغيير الهياكل الاقتصادية القائمة بل تم إقحام المرأة في سوق العمل دون النظر إلى التحديات التي تواجهها، فنرى المرأة في أعمال تحتاج لجهد عضلي لا يناسب بنيتها.
تشريعات تواكب الظاهرة
من الطبيعي والضروري جداً أن تكون هناك تشريعات تواكب ظاهرة تأنيث العمالة، شدد الدكتور النحاس، وقال: يجب أن نحافظ على المرأة من التشوهات أو من الحالات السلبية التي قد تصيبها نتيجة عملها ضمن القطاع العام أو الخاص، ونحن أمام حالة من إعادة توزيع الأدوار بين القطاعين وتمكين القطاع الخاص وبالتالي علينا تمكين المرأة بإعادة تدريبها وتأهيلها، وبإيجاد قوانين وتشريعات تضمن حقوقها وعملها، وتؤمّن البيئة المناسبة لها لتحقيق زيادة في الناتج القومي الذي نحن بحاجة له.