العناوين الرئيسيةشؤون محلية

أين سياساستنا التعليمية من سياساتنا الاقتصادية؟!.. متى نضع الحصان التعليمي أمام العربة الاقتصادية بسياسات إستراتيجية؟.. أكاديميون لـ«الاقتصادية»: لسياسة الاستيعاب الجامعي إيجابيات وسلبيات والإنفاق على التعليم استثمار مستدام الدخل

|شادية إسبر

بعد كل خطاب أو كلمة تتعلق بالوضع الداخلي؛ يمدنا السيد الرئيس بشار الأسد بمزيد من الجرأة لنناقش ملفات حساسة كان الخوض فيها قبل ذلك أشبه بتهمة من منظور شرائح مجتمعية أو مسؤولين في مفاصل حكومية.
قال سيادته خلال خطابه في مجلس الشعب للدور التشريعي الرابع: «الخيارات الصعبة لا تعني الانقلاب على سياساتنا، ولا تعني الانقلاب على التزامات الدولة تجاه المواطنين، نحن لن نخلع عباءتنا الاشتراكية، سنبقى في المكان نفسه، ولكن هذه العباءة لا يمكن أن تكون عباءة جامدة مقيدة، لا يمكن أن تكون قالباً، يجب أن تكون متحركة ومرنة بحسب الظروف، الخيارات الصعبة تعني أن الرؤى والسياسات والخطط تبنى على الحقائق لا على الأحلام الوردية».
ولأننا في مرحلة ملحة لبناء الرؤى في خدمة رسم السياسات، كان لا بد من خوض النقاش في مفصلٍ متعلق بجوهر البناء الاقتصادي وهو التعليم، حيث الدول الأعلى تعليمياً وفق موقع مؤشرات جودة التعليم في العالم هي الأعلى بالمؤشرات الاقتصادية، فأين سياساتنا التعليمية من سياساتنا الاقتصادية؟ والسؤال يصح عكسه، لماذا خططنا الاقتصادية بعيدة عن الاستثمار في رأس المال البشري لمخرجات العملية التعليمية؟ كيف نصلح الخلل الحاصل في المعادلة التي تربط تطور الاقتصاد بتطور النظام التعليمي البحثي التدريبي؟

 

شادي زهرة
شادي زهرة

رأس المال البشري استثمار رابح

بالنظر إلى اقتصاد الدول نجد أن التي تتبوأ مراتب عالية اقتصادياً ودخل الفرد فيها مرتفع هي ذاتها المتقدمة علمياً، ولا يوجد أي دولة فيها تراجع بمؤشرات التعليم واقتصادها قوي في الوقت ذاته؛ إلا إذا كان اقتصادها ريعياً، وهذا الاقتصاد يفقد بعد فترة من الزمن أسباب نموه، وبالتالي نؤكد أن التعليم الجيد يوفر قناة مستدامة للنمو إذا حافظ على مستواه الجيد… واقع ورأي قدمه عميد معهد التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الدكتور شادي زهرة في حوار مع «الاقتصادية».
وعن الفرق بين النمو والتنمية وأثر التعليم في كل منهما، أضاف الدكتور زهرة: عند الحديث عن النمو نتكلم عن المال وعندما نتكلم عن التنمية نتكلم عن الإنسان، إذا عندما نتحدث عن التنمية ننظر إلى كيف تمت الاستفادة من النمو، فجزء من التنمية يُعنى بالجانب التعليمي، فهل يعني ذلك أنه إنفاق ليس له أثر؟! بالتأكيد له أثر في المستقبل وهو استثمار سينعكس لاحقاً في نمو، أي بزيادة المال، كما سينعكس لاحقاً أيضاً في تنمية، وبالتالي الإنفاق على التعليم يحدث أثراً مستداماً على الدخل وليس أثراً طارئاً، وهذا بالطبع في حال تمتع هذا الإنفاق بالكفاءة.
من جانبه أكد الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور علي كنعان لـ«الاقتصادية» أن التعليم أحد أهم القطاعات الاجتماعية في الاقتصاد الوطني، نظراً لأنه يقوم بإعداد وتأهيل الكوادر الوطنية لكي تدخل إلى سوق العمل في كل قطاعاته وكلما تكوّن وتطور رأس المال البشري تطور الاقتصاد الوطني، لأن هذه الكوادر هي من تقود العمل في جميع قطاعات الاقتصاد، وكلما تأهلت كلما انعكس إيجاباً على مستوى النمو، لذلك توظف الدول وتنفق جزءاً من ميزانياتها على تكوين وتأهيل رأس المال البشري في كل مراحله، وتقوم بهذه العملية بشكل مجاني على نفقة الدولة.

للاستيعاب الجامعي إيجابيات وسلبيات
وعن سياسة الاستيعاب الجامعي ومخرجات العملية التعليمية؟ قال الدكتور كنعان: إن سياسة الاستيعاب الجامعي موجودة في كل دول العالم، وجميعها أخذت على عاتقها التعليم المجاني وتأهيل الكوادر كي تكون جزءا من رأس المال البشري الذي يقود العملية الإنتاجية.
من وجهة نظر كنعان أنه رغم الصعوبات فإن جامعاتنا الحكومية السبع قادرة على الاستيعاب، لكنها تعاني كما يعاني المجتمع كله، حيث عدد أعضاء الهيئة التدريسية قليل مقارنة بعدد الطلاب، ولا توجد إمكانية لفتح شعب مسائية بسبب قلة النقل وارتفاع تكاليفه، كما أن أجور كادر التعليم المتدنية تؤثر أيضا، لكن العملية التعليمية ما زالت بخير والجامعات تبذل قصارى جهدها لرفع مستوى الخريجين إلا أن الظروف العامة فرضت نفسها على مستوى المخرجات من نقص الكهرباء، الإنترنت، وعدد الكتب وعدم إمكانية اشتراك الجامعات بمكتبات عالمية بسبب الحصار والعقوبات.
بدوره الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق الدكتور منتجب صقر قال لـ«الاقتصادية»: لا شك أن للاستيعاب الجامعي سلبيات وإيجابيات، والإيجابيات ألا يتم حرمان أي طالب من متابعة التحصيل العلمي، وهذا حق كفله الدستور، لكن الدخول العشوائي والعدد الكبير للخريجين دون فحص بالمادة وبالاختصاص يجعل الاستيعاب عبئاً على الجامعة، مثلاً إذا تحدثنا عن موضوع اللغات، هل يحق لكل طالب حصل على العلامة التامة بالمادة أن يسجل في الأدب الانكليزي أو الفرنسي أو حتى في الأدب العربي؟ الفكرة أنه يجب سبر معلومات الطالب للوقوف على الأكثر تميزاً والأكثر حباً للاختصاص، لأن الطالب تعوّد أنه إذا لم يحقق رغباته أو رغبات أهله اتجه إلى كلية الآداب لأنها ذات استيعاب مفتوح، وهذا أكبر خطأ.
الدكتور صقر شدد على أن دخول الطالب لأي اختصاص وفق رغبته يحسّن كثيراً من أداء الجامعة، وليس أن يدخل ليحصل على شهادة جامعية فقط، بالتالي الاستيعاب بهذا الشكل تظهر نتائجه في مرحلة لاحقة، إذ تظهر شريحة طلاب في الكليات يتوقف تخرجها على مادة أو مادتين لعدة سنوات، فعند دخول الطالب إلى اختصاص لا يحبه أصلاً وهدفه الحصول على شهادة جامعية فقط، فإنه لن يهتم كثيراً بالدراسة بل يتجه إلى العمل في مجالات أخرى ليصبح بالمحصلة عبئاً على الجامعة كما تصبح الجامعة عبئاً عليه.
في كبريات الدول هناك عدد كبير من الجامعات قادرة على استيعاب جميع الناجحين في الثانوية العامة بكفاءة، وفق ما أكد الدكتور كنعان وأضاف: كما أنها تخصص 10 بالمئة من المقاعد للأجانب، لأن من مؤشر تصنيف الجامعات العالمي أن يزداد عدد الطلاب الأجانب كي يحصل تمازج بين ثقافات الطلاب، بالنسبة لنا ما زال عدد الجامعات الحكومية قليلا وكان يجب تأسيس جامعة في كل محافظة، وبهذا يزداد حجم الاستيعاب ويرتفع مستوى التأهيل والتدريب، وجودة الخريج ورفع كفاءته والربط مع سوق العمل.

مخرجات تعليم ضعيفة تؤدي إلى عملية إنتاجية عرجاء
بين حاملي الشهادات وحاملي المعارف فرق كبير، والأخطر هو انعكاس ذلك على سوق العمل وما يجري فيه واقعاً أبعد ما يكون عن التطور الاقتصادي، حيث يعمل أغلبية الخريجين في مجالات غير متعلقة باختصاصاتهم، والخطورة عندما تكون نسبة مدفوعة بمصالح شخصية، وأخرى بسوء إدارة للموارد البشرية ركزت على الأقل كفاءة وغيبت قسراً الجزء الجيد من مخرجات العملية التعليمية عن سوق العمل، ووضعت العربة الاقتصادية أمام الحصان التعليمي، فكيف ستسير؟!
الدكتور زهرة لفت إلى أن الجزء المهم من الإنتاج هو العمالة ويجب أن تكون مدربة ومؤهلة وهنا يأتي دور قطاع التعليم، وعند الحديث عن التنظيم ومزج مدخلات العملية الإنتاجية نجد أنه كلما كان المنظم على مستوى عال من المعرفة والتعليم والتأهيل والخبرة بالتأكيد المُخرَج الإنتاجي أفضل، والعكس صحيح، عندما يكون هناك ضعف في التعليم وبالتالي بمخرجات التعليم نصبح أمام عملية إنتاجية عرجاء، وتضيع العناصر الأخرى في عملية الإنتاج ولا تعود قادرة على إعطاء النتائج بكفاءة، لأن عنصراً مهماً جداً يدخل في العملية الإنتاجية ليس بالمستوى المطلوب.
73 ألف خريج من الجامعات والمعاهد العام 2022
الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق أضاف: في العام 2022 تخرج من جامعة دمشق 16907 طلاب من جميع الاختصاصات في كلياتها البالغ عددها 38 كلية، في حين خرجت إجمالي الجامعات السورية السبع (دمشق، حلب، تشرين، البعث، الفرات، حماة، طرطوس) 48468 طالباً وطالبة في العام 2022 لجميع الاختصاصات، وفي العام ذاته خرجت المعاهد المتوسطة بحدود 15 ألف خريج، في حين تخرج من الجامعات الخاصة ٥٠٠٠ طالب وطالبة وهناك خريجو المعاهد العليا، ليبلغ العدد الإجمالي لمن تخرج من الجامعات والمعاهد على مستوى سورية 73 ألف خريج، وهذا الرقم يعتبر قليلاً مقارنة بعدد السكان، وبحساب نسبة عدد الخريجين إلى إجمالي عدد السكان فإنه بلغ بحدود 3.6 بالألف، وقد يصل إلى 5 بالألف مقارنة بعدد السكان ضمن الأراضي السورية، في حين هذه النسبة تصل تقريباً إلى الضعف بدول أخرى وتتضاعف بالدول المتقدمة لكون الإمكانيات لديهم كبيرة.

منتجب صقر
منتجب صقر

سوق العمل بلا معايير علمية
وعن ارتباطها بسوق العمل؟ رأى الدكتور كنعان أن سياسة الاستيعاب ليست بعيد عن سوق العمل لأن المعاهد والكليات تخصصية ومتنوعة، وذهاب الخريج للعمل خارج اختصاصه في سوق العمل ليست مهمة الجامعات ولا مسؤوليتها، معتبراً أن سوق العمل لدينا ما زال يحابي الأشخاص ويستخدم العواطف، ويعتمد المعايير الاجتماعية بعيداً عن المعايير الاقتصادية، كما اعتبر أن ظاهرة العمل بغير الاختصاص تظهر في وقت الأزمات، كما أن سوق العمل أحياناً لا يمتلك إمكانية توصيف ما يحتاجه، بالتالي نعمل بأنظمة عالمية، لكن عندما يذهب الخريج إلى سوق العمل تظهر محاباة اجتماعية هي غير موجودة في الدول المتقدمة اقتصادياً.
ولفت كنعان إلى أن الاقتصاد السوري اليوم بحاجة كبيرة إلى كوادر متخصصة وهي متوافرة لكن الأجور المتدنية تدفع بالشباب للهجرة، وفي هذه الحالة نحن نقوم بالتأهيل للآخرين، لأسواق العمل الخارجية.
أما برأي الدكتور زهرة فإن سوق العمل لوحده مع الوقت سيفرز الخريجين وسيخلق أدوات طرد لمن لا يملكون الكفاءة، وبالتالي هذا سينعكس بالتبعية على المؤسسات التعليمية، وهذه الحمى باتجاه الشهادات ستتراجع، لافتاً إلى أن الكثير من الناس تهمها الشهادة لكن السؤال ما الذي يهم سوق العمل؟
حتى يتم ذلك لا تدفع البلاد ثمناً يمكننا تسميته بـ«زمن اقتصادي ضائع»؟
أكد عميد معهد التخطيط الاقتصادي والاجتماعي هذا الأمر وأضاف: من الضرورة أن يكون هناك تقييم لماذا لم تأخذ مخرجات العملية التعليمية دورها؟ وهذا واجب الجهات المسؤولة عن التعليم في كل مراحله ومستوياته، وهذا الحديث لا يعني أن كل مخرجات العملية سيئة، بالتأكيد هناك جزء من المخرجات جيد وبكفاءة عالية لكن نعود إلى السؤال لماذا لا يتم الاستفادة منه؟
الدكتور زهرة أوضح أنه يوجد في السنة الأولى بمعهد التخطيط حالياً بحدود 35 طالباً 17 منهم موفدون من الجهات الحكومية، ويتم التركيز أن يكون مجال بحث الطالب لمشروع تخرجه يتعلق بعمله، مع ملاحظة أن الطالب ملزم في نهاية بحثه أن يضع إمكانية التطبيق وإذا كانت لموضوع مطبق أن يضع إمكانية التطوير، كما نؤكد دائماً أن تكون المواضيع متناسبة مع واقع الاقتصاد السوري ومتطلبات مرحلة إعادة الإعمار، لكن السؤال المهم جداً.. بعد أن انتهى الطالب من البحث ما مدى الاستفادة منه؟.. هنا دائماً يوجد قطع.

عقلية الإدارة
من جانبه لفت الدكتور صقر وهو المدرّس سابقاً في عدد من الجامعات الفرنسية في باريس وليون إلى أن الجامعات الفرنسية تدار بطريقة لا مركزية، ويوجد أيضاً ما يسمى بالمركز الوطني للبحث العلمي، كما يوجد ما يسمونه «مختبراً» يجمع جميع الفروع، ويقيّم عملية التدريس ومستوى الطلاب، وبشكل عام هناك دائماً محاولة لفهم الطالب وفهم حاجاته لما بعد الدراسة، ولتقييم أداء الجامعات هناك تراتبية لا مركزية في اتخاذ القرارات تبدأ من الأقسام، وصولاً للوزارة أو المركز الوطني للأبحاث.
صقر أضاف: أيضاً هناك دائماً إحصائيات، مركز إحصاء في كل جامعة، وهذا مهم جداً لكونه يقيم عمل الجامعة ويقدم النسب في كل شيء يتعلق بمهنية ووظيفة الجامعة، ومن واجب مركز الإحصاء تذكير القائمين على الجامعة في حال وجود خلل معين بضرورة إصلاحه، وبالتالي مركز الإحصاء كفيل بدراسة كل ما يتعلق بتقييم أو أداء عمل الجامعة بهدف تصحيح مسارها وتفادي الأخطاء أو وضع خطط لحل أي مشكلة تواجه العملية التعليمية.

د. علي كنعان
د. علي كنعان

رفع سوق العمل
في رده على سؤال «الاقتصادية» كيف تقرؤون معادلة تطور الاقتصاد السوري رهين بتطور نظامه التعليمي البحثي التدريبي؟ أجاب الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور كنعان: هذا السؤال يطرحه دائماً الباحثون والمفكرون والمختصون، فكلما طورنا الجانب الفكري والبحثي والتخصصي كلما رفعنا من سوق العمل، وعندما نؤهل كوادر على مستوى عالٍ نحن نرفع من مستوى سوق العمل وندفعه لاستخدام كوادر أكثر تخصصاً وعالية الدقة، لذلك نلاحظ أن بعض الكوادر في سورية لا يجدون فرصة عمل لأن الشركات لا تحتاج هذه التخصصات، فيضطر الخريجون للهجرة، فنحن اليوم بحاجة ماسة لإحداث تخصصات دقيقة متطورة كما حصل في أوروبا بمجال المعلوماتية والذكاء الصنعي والفضاء والفيزياء والرياضيات لأن الأعمال الحديثة تبنى على هذه التخصصات، وبالتالي تصبح الكوادر المتطورة الحديثة والاختصاصات الحديثة هي من ترفع من مستوى سوق العمل وليس العكس.
وأشار الدكتور كنعان إلى أن الآلات والتقانات التي يستخدمها سوق العمل اليوم لا تتناسب مع مستوى الخريجين، فهو يستخدم تقانات قديمة أو متقادمة، ونلفت هنا إلى أن الحداثة تؤثر في جودة المنتج والتنافسية وبالتالي التصدير، لذلك أطرح هنا تحسين مستوى التخصصات الجامعية ورفع كفاءتها وإيجاد تخصصات حديثة ترفع من مستوى سوق العمل، فيصبح الخريج يقول لرب العمل إن هذه الآلات تنتج سلعة رديئة ونوعية غير جيدة وغير قادرة على المنافسة والتصدير وبالتالي لا تحقق أرباحاً؛ وأنت بحاجة لآلات حديثة لتواكب العصر والتطور، وهنا تؤثر الكوادر وترفع من مستوى سوق العمل ودورة الاقتصاد، ونحن لا نستطيع مواكبة العصر إذا لم نتعمق بهذه الاختصاصات الدقيقة التي أصبحت منتشرة في الدول المتقدمة وسبقتنا كثيراً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى