الصناعات الغذائية.. تراجع وتحديات.. عدم وجود سياسات زراعية وخطط انتاجية واستثمارية.. صناعيون لـ«الاقتصادية»: لدينا ١٤ معملاً للصناعات الغذائية والفرق في أسعار مواد التغليف يصل لـ 70 بالمئة بين سورية ودول أخرى
|بارعة جمعة
النجاح لا يُقاس بعدد الهكتارات المستثمرة لزراعة القمح، ولا حتى بكمية الإنتاج العام من الطحين!!.. وإنما بمردود الإنتاج الزراعي للقمح من الهكتار الواحد، ومن مردود الإنتاج الصناعي للطحين من المادة الأولية، والنسب المعيارية العلمية، هي حالةٌ من التكامل، تحملها ثقافة العمل في ميادين الاقتصاد كلها، كيف إن تعلق الأمر بصناعتنا المحلية، ولاسيما الغذائية منها!!
فاليوم ونحن البلد الزراعي الذي ما زال 60 بالمئة من مواطنيه يعملون في الزراعة، نجد أن منتجاتنا من الزراعة المحلية هي الأغلى وبأسعار فاحشة وخيالية، والسبب عدم وجود سياسات زراعية وآليات وبرامج وخطط إنتاجية واستثمارية، ناهيك عن ارتفاع كلفة المادة الأولية التي باتت بأغلبيتها مستوردة، مع صعوبة تأمينها أيضاً، ما جعل من سوقنا المحلية حجةً لارتفاع الأسعار وغياب المنافسة.
حالةٌ من التراجع يشهدها واقع الصناعات الغذائية، أكدها صناعيو مدينة حلب، ممن ما زالوا متمسكين بالعمل رغم الصعوبات التي كانت محور حديثهم مع «الاقتصادية» اليوم.
قيود العمل
من أهم القطاعات الاقتصادية وأكثرها حيوية تجارياً وتشغيلاً وتشابكاً مع القطاعات الاقتصادية الأخرى، كما أنه المسؤول عن إعداد المنتجات الغذائية المختلفة ونقلها وتجهيزها للاستهلاك، من هنا تبدو أهمية قطاع الصناعات الغذائية، الذي ما زال يحمل هوية مدينة حلب الصناعية، التي واجهت منذ بدء الحرب على سورية تحديات كبيرة، هددت صناعتها بشكل ملحوظ وفق رواية رئيس لجنة الغذائيات بغرفة صناعة حلب أسامة عجوم لـ«الاقتصادية»، مرجعاً الأمر لأسباب كثيرة، داعياً إلى النظر في واقع صناعة الشوكولا والبسكويت مثلاً، التي شكلت أساس الصناعات الغذائية لاسيما في الأسواق الداخلية، لكونها تُحاكي فئة الصغار (صناعة السعادة)، إلا أنها وبفعل الحرب وخروج أغلب المعامل والورشات عن الخدمة انحصرت وانتقلت إلى مدن أخرى، مع انحسار عدد العاملين بها أيضاً ضمن ظروف عمل صعبة.
حالةٌ من التراجع بالعمل أفرزت صعوبة أخرى في التصدير، تعود وفق رؤية عجوم لغلاء أجور الشحن إلى جانب كُلف الإنتاج، تبعاً لارتفاع سعر الكهرباء في المدينة الصناعية وارتفاع وندرة المشتقات النفطية من جهة أخرى، ما أدى إلى انحسار كبير بكمية وجودة الصناعات الغذائية المُصدرة إلى دول الجوار، لتبدو فكرة الحصول على الأقماح البلدية للدولة فقط، ممثلةً بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، السبب وراء تأثر صناعة المعجنات والبسكويت بشكل كبير، لما يرافقها من صعوبات بالحصول على الأقماح المستوردة، بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، ولكون بعض أنواع الصناعات الغذائية تعتمد على القمح القاسي الذي لا يتوافر منه المستورد إلا من أماكن بعيدة جدا، وهو أساس للحلويات والمعكرونة والبرغل حسب حديث عجوم.
أدت هذه العوامل مُجتمعةً إلى التراجع الحاد في قطاع الصناعات الغذائية، لتبقى احتمالية الحد من تأثير قانون قيصر مع توافر المشتقات النفطية والطاقة، إضافة للإصلاحات المالية والمصرفية الحل الأمثل في حال رغبنا بتنشيط هذا القطاع وفق رؤية رئيس لجنة الغذائيات بغرفة صناعة حلب، لاسيما أن الأسواق الخارجية تثق بالمنتجات السورية الغذائية.
وتيرة العمل ومُتطلبات الجودة
واقع ليس بالجديد تواجهه الصناعات الغذائية، ضمن حيثيات اقتصادنا الوطني، كما أنه نتيجة تراكمات لسنوات عمل واجهت الكثير من المتاعب والصعوبات، وظروفاً اقتصادية صعبة، عكست تراجعاً في تأمين المادة الأولية لها، القائمة على الزراعة، لتبدو محنة الصناعات القائمة على القمح، (المعكرونة الشعيرية، البرغل، والسميد)، الأكثر إلحاحاً في إيجاد حلول لها وفق رؤية الصناعي صالح محمد الصالح من حلب، واصفاً تراجع عقبة زراعة القمح وصعوبة تأمين نوع القمح المناسب لصناعته، التي لا يمكن أن يقوم لها قائمة بعيداً عن القمح القاسي، الذي بات أشبه بالعملة النادرة في يومنا هذا.
كما أن تأمين كميات كافية من هذا النوع ليس بالأمر السهل لدى أصحاب المعامل، وخاصة إنه بات حكرا على مؤسسات الدولة فقط، أي السورية للتجارة التي تستقدمه من السورية للحبوب حسب تأكيدات الصالح لـ «الاقتصادية»، مؤكداً تلقي هذه المؤسسات طلبات عدة من صناعيي حلب بغية تزويدهم بالقمح، إلا أنه لم يتم الرد أو الاستجابة لهم، ليبدو الحل البديل لهم الحبوب المغربلة، عبر تأمينها من مطاحن الدولة، التي تعرض جزء كبير منها للتلف، ومن ثم استثمار الكمية الباقية، لتبدو كمية الـ١٠٠طن منها تعادل ٧٥ بالمئة نسبة علف و٢٥ بالمئة يتم استخدامها للصناعات الغذائية، نظراً لصعوبة توفير المادة الأولية، شارحاً السبب وراء مسألة الاستمرارية بالعمل ضمن هذه الصعوبات، من باب الحفاظ على القوة العاملة، التي باتت نادرة أيضا، نتيجة الهجرة، عدا عن غياب فئة العمال من أعمار ٢٥ إلى ٣٥ سنة، وهنا بتنا نفتقد سن العطاء لليد العاملة، ناهيك عن اعتماد العنصر النسائي للقيام بهذه الأعمال.
مصاعب أنتجت تراجعا في العمل لحدود ١٠ بالمئة من الطاقة الإنتاجية للمعمل وبمعدل وردية واحدة يومياً وأحياناً يمر اليوم من دون عمل وفق الصالح، والسبب يكمن في صعوبة تأمين المادة التي من الواجب تزويد المعمل بها بحدود ٢٠٠ طن يوميا من القمح القاسي، إلا أن ما يتم عرضه ضمن مزادات الأقماح المغربلة في درعا والحسكة، بات الملجأ لأصحاب المعامل والصناعيين، في وقت لا تزال فكرة المقايضة بين الدولة والصناعيين من نوع قمح طري بمعدل ١٢٠٠ طن مقابل ١٠٠٠ طن تمنحه الدولة للصناعي وهو رهن الانتظار، من دون تفعيله على أرض الواقع، ما أثر سلبا في جودة المنتج، الذي غدا رهن توفر المادة الأولية، التي باتت مكلفة وتعكس ارتفاعاً بالتكلفة جعل من المنتج المحلي لصناعة المعكرونة خارج إطار المنافسة للخارج نتيجة ضعف التصدير، إضافة لعدم كفايته بتغطية حاجة السوق المحلية أيضا، فغدا العرض يفوق الطلب، على الرغم من توزع معامل صناعة المعكرونة بمعدل ١٤ معملاً بينهم ٥ منشآت لإنتاج البرغل في مدينة الشيخ نجار بحلب و٣ خارجها، إضافة إلى ٣ معامل سميد داخل المدينة الصناعية و٣ خارجها أيضاً، مع كثرة العمل بمجال صناعة المعكرونة والشعيرية بحدود ٤ إلى ٥ مصانع بمدينة حلب ومثلها بدمشق، ليبدو الطلب المتزايد على السميد في فصل الشتاء بمعدلات أكبر.
حالةٌ من التراجع تطغى على متطلبات عمل الصناعات الغذائية، جعلت من ضرورة دعمها أمراً واجباً برأي الصناعي صالح محمد الصالح من حلب، كيف وهي القادرة على دعم وتشغيل نحو ٢٠٠ أسرة بكل معمل، ما يعكس قوة شرائية ودعما للمنتج المحلي ورواجا له في الداخل، هنا تبدو تأكيدات الصناعيين بقبولهم معدل ربح ٥ بالمئة لقاء ارتفاع الطاقة الإنتاجية للمعامل، التي لا تزال تحتفظ بخبراتها المحلية لاسيما في صيانة الآلات وتصنيعها محلياً أيضاً، لتبدو مبادرات السورية للتجارة غير مكتملة حتى اليوم، على الرغم من توقيعها عقوداً لمدة عام مع أصحاب المنشآت الصناعية والمعامل في مدينة حلب، ضمن شروط عمل واضحة أي بمعدل ١٠٠ طن قمح للمعمل يقابله حصة السورية للتجارة منهم ٧٥ طناً من البرغل، وهامش ربح يتم تحديده من قبلها، وهو ما لم يحصل حتى اليوم.
تمويل مشروط
لم ينكر أحد من صناعيي مدينة حلب ضرورة دعم المادة الأولية لصناعاتهم، ليأتي حديث الصناعي أنس سرميني من حلب عن آلية التمويل، مكملاً لما وصفوه بصعوبات تشغيلية، ولاسيما أن صناعته في مجال السكاكر لم يسمح قانون الاستيراد باستيرادها كمنتج بل كمادة خام، وهو ما يلجأ إليه سرميني وفق حديثه لـ«الاقتصادية» لقلة وجود المادة الأولية في سورية والتي يتم استيرادها بسعر عالٍ، إلى جانب اعتماده بشكل محدود على معمل موجود في مدينة حمص حيث تأمين مادته الأولية يقارب السعر للحالتين (المستورد والمحلي) وبالتالي الكلفة ذاتها.
هنا لا ترتبط الكلفة بالمادة الأولية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى شركات الصرافة التي في حال أراد الصناعي استيراد مواد أولية من الخارج يقوم بشراء بضاعته من الخارج بتمويل منها، إلا أن الحلقة طويلة وقد تستغرق ما بين 5 إلى 6 أشهر وفق سرميني، ما يضطر الشركات لرفع نسبة الربح ومن ثم يعوض التاجر هذا الارتفاع الذي يصل مثلاً إلى 20 بالمئة برفع سعر المنتج، ما يفرض تقديم تسهيلات على استيراد المواد الأولية.
سياسة تمويلية أنتجب تراجعا في قدرة المنتج السوري على المنافسة في الدول الأخرى، نتيجة ارتفاع كلفته وسعره، على الرغم من تغطيته السوق المحلية والدليل بأن العرض يزيد على الطلب ضمن صناعته، وبروز المنافسة الشديدة في مجال الصناعات الغذائية.
تكاليف إضافية
«سعر الكهرباء أي حوامل الطاقة والفيول»، الذي تم رفع سعره بحدود 3 مرات، هو من ضمن الصعوبات الأكثر إلحاحاً بالنظر إليها برأي الصناعي أنس سرميني، لعلاقتها المباشرة بتخفيف كلفة المنتج السوري محليا، ليتم بيعه بعدها بسعر جيد، مطالباً بتسهيل إدخال المواد الأولية إلى السوق المحلية، مبدياً استغرابه أيضاً من ارتفاع مواد التغليف مثل ورق «السولفان»، الذي يعد حاجة ضرورية لكافة المعامل، الذي يباع بسعر45000 ليرة في دول الخارج في حين في سورية يباع بسعر70000 ليرة سورية، متسائلاً ما السبب وراء هذا التفاوت الذي يصل نسبة 70 بالمئة؟
وفي إشارة منه لدعم الصناعات الغذائية في سورية، بين سرميني دور المعارض بدعمها لدرجة معينة، مع التنويه بالاستعانة بالخبراء من الداخل، ومن بينهم طلاب التعليم المهني ممن يتم الاستعانة بهم لحل المشاكل، من خلال تنظيمهم بمجموعات معينة للقيام بأداء مهام مختلفة.