صيغة جديدة لإدارة القطاع العام الاقتصادي … ملاحظات أولية حول القانون رقم 3 لعام 2024 المتعلق بإحداث وإدارة القطاع العام الاقتصادي
| بقلم الدكتور نبيل سكر
يهدف القانون رقم 3 الصادر بداية عام 2024 إلى «الإسهام في تنمية القطاع العام الاقتصادي»، من خلال تقديمه صيغة تتضمن إحداث شركات عامة مساهمة وشركات قابضة عمومية وشركات مشتركة في كل القطاعات الاقتصادية وتنظيم إدارتها. وفي اعتقادي أن هذا القانون هو محاولة أخرى تضاف إلى المحاولات العديدة التي تمت خلال الثلاثين سنة الماضية لإصلاح القطاع العام الاقتصادي سعياً إلى زيادة إنتاجيته وتقليص استنزافه للمال العام، والتي باءت جميعها بالفشل. ولا أعتقد أن القانون الجديد يحمل مقومات النجاح لأسباب سأعرضها أدناه، مركزاً على القطاع العام الصناعي:
أولاً، هذه المبادرة قانونية وجزئية، ولا تشمل معالجة ضعف إدارة القطاع العام الصناعي وارتفاع تكاليف إنتاجه بسبب سوء إدارته وتعاظم الهدر والفساد فيه وتعدد مؤسساته الوسيطة، كما لا تشمل وضعه التقني المتهالك الذي يجعل من الصعب على الدولة تحمّل تكاليف إصلاحه، خاصة بعد الأزمة الأخيرة التي زادت من اهتراء آلاته ومعداته من جهة، وأضعفت من قدرة الدولة على تحمل هذه التكلفة من جهة أخرى، في ظل متطلباتها في عمليتي التعافي وإعادة الإعمار ذات الأبعاد المادية والبشرية والاجتماعية الضخمة.
ثانياً، حاول القانون ابتكار صيغة جديدة لإدارة القطاع العام الاقتصادي، تجمع بين الصيغة الاشتراكية لإدارة المشروعات العامة وصيغة اقتصاد السوق، حيث ستخضع الشركات المساهمة العامة المحدثة لقانون الشركات وقانون التجارة وقانون عمل القطاع الخاص، مع الحفاظ على شكل الإدارة السابقة لمشروعات القطاع العام.
ثالثاً، تدار الشركة المساهمة حسب القانون من مجلس إدارة ورئيس تنفيذي مجتمعين، ومن جمعية عمومية توجه مجلس الإدارة، وهذا مغاير لإدارة المشروعات المساهمة في القطاع الخاص والتي تعتمد على مدير تنفيذي وجهازه الإداري من جهة وبإشراف مجلس الإدارة من جهة أخرى.
رابعاً، يتشكل مجلس الإدارة حسب القانون الجديد من ممثلين مستقلين وقانونيين وممثلين عن العاملين في الشركة، ويتم اختيار هؤلاء بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على اقتراح الهيئة العامة التي تتألف بدورها من الجهات العامة المعنية بالقطاع الذي تمارس فيه الشركة أعمالها.
خامساً، فتح القانون الجديد مجالاً كبيراً لتدخل الحكومة في عمل الشركات المساهمة العامة المقترحة، وذلك من خلال جمعه بين الهيئة العامة ومجلس الإدارة والرئيس التنفيذي ورئاسة مجلس الوزراء في إدارة الشركة، ما سيعوق تمتع الشركة بالاستقلال المادي والإداري المنصوص عليه في القانون.
سادساً، يضم مجلس الإدارة ممثلاً عن الجهاز المركزي للرقابة المالية، في حين هذا الجهاز هو الذي سيكون المراقب المالي لحسابات الشركة العامة المساهمة حسب المادة 11 من القانون، فكيف يمكن للمراقب المالي الجمع بين الوظيفتين المتعارضتين؟
سابعاً، يتيح القانون للشركات والمؤسسات العامة القائمة (ولا يلزمها) أن تتحول إلى شركات عامة مساهمة، ويتم إعطاؤها مدة أقصاها سنتان لتوفيق أوضاعها مع أحكام هذا القانون. ومعنى هذا أنه إذا لم تتحول كل الشركات أو المؤسسات العامة القائمة إلى القانون الجديد فستكون لدينا شركات قطاع عام تعمل بنظامين مختلفين ضمن القطاع الاقتصادي الواحد. فهل هذا ممكن؟
ثامناً، يتم تحويل أرباح الشركات العامة المساهمة إلى الخزينة العامة وإلى المؤسسات العامة المشاركة في رأسمالها، بدلاً من إبقاء الجزء الأكبر من أرباحها وكل الاستهلاكات في الشركة نفسها لتستطيع تطوير ذاتها فنياً وتقنياً، وهو ما لم يحصل حتى الآن في المؤسسات والشركات العامة القائمة، ما أدى إلى تهالك آلاتها ومعداتها. وإذا حولت الشركات أرباحها إلى الخزينة العامة كما ينص القانون الجديد، فمن يضمن تحويل الخزينة العامة ما يكفي من الأموال لتطوير الشركات العامة الجديدة تقنياً، في ظل متطلبات إعادة الإعمار الضخمة المترتبة على الحكومة.
تاسعاً، لم يعط القانون الجديد مجلس الشعب أو القضاء دوراً في محاسبة ومساءلة الشركات العامة المساهمة المحدثة.
عاشراً، لا نعتقد أن الصيغة القانونية الجديدة ستعطي «مرونة كافية للقطاع العام» ليطور ذاته ويزيد من إنتاجيته، وتحسين الحوكمة والشفافية في إدارته، حتى إذا لجأنا إلى دمج بعض مؤسساته.
أحد عشر، نعتقد أن إصلاح القطاع العام سواء كان خاسراً أم مخسراً يحتاج إلى خيارات بديلة لوقف استنزافه للمال العام، متخطين الذهنية القديمة لدى البيروقراطية وأصحاب القرار، ومتخطين أيضاً معارضة المنتفعين من الوضع القائم خاصة في غياب أي محاسبة لأدائه من الصحافة أو شبكات التواصل الاجتماعي أو مجلس الشعب.
إثنا عشر، خاسراً أو مخسراً جاء في تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية الصادر في عام 2015، والمنشور في جريدة تشرين، أن خسائر القطاع العام بلغت تريليوناً و778 و151 مليون ليرة سورية خلال الخمس سنوات المالية 2007-2011، وهو ما يكافئ 27 مليار دولار حسب سعر الصرف في تلك السنوات، وليست لدينا أرقام عن الخسائر بعد ذلك. وفي اعتقادي أن الشركات الرابحة هي قليلة (وأهمها شركة التبغ).
وأخيراً، في اعتقادي أن لا هذا القانون ولا قوانين الدمج ستحل مشكلة القطاع العام، وخاصة الصناعي منه في ظل عدم إمكانية الإصلاح، ويبقى الحل الوحيد هو في الخصخصة، على أن تتم الخصخصة بتدرج وبشفافية وبمساعدة دولية، بعيداً عن الفساد، مع ضمان ألا تؤدي الخصخصة إلى ظهور احتكارات خاصة تحل محل الاحتكارات العامة، كما يجب الاستفادة من تجارب تركيا وماليزيا وغيرهما من التجارب الناجحة، وتحاشي التجربة الروسية الفاشلة، على أن تتأجل الخصخصة إلى حين استقرار الأوضاع بعد الأزمة.
ومن الجدير بالذكر أن الخصخصة إذا تمت بكفاءة وبشفافية ودون فساد، فستعطي الدولة أموالاً هي بحاجة إليها في عمليتي التعافي وإعادة الإعمار، وتزيد من القيمة المضافة الناتجة عن الاستثمارات العامة الضخمة في هذه المشروعات، كما تزيد من موارد الخزينة العامة للدولة، بدلاً من أن تكون عبئاً عليها، مع ضرورة تدريب وتأهيل أي عمالة فائضة تنتج عن عملية الخصخصة، وأن تعوّض الدولة لبعضهم حين يقتضي الأمر.