تختلف الآراء حول مفهوم رجالات الدولة، وكيف هي صفاتهم ومضامينهم وما الأسس التي تنطبق عليهم.. هل نقول كل من اشتغل في حقل السياسة رجل دولة..؟ أم كل من تقلد موقعاً ما رجل دولة..؟!
رجل الدولة ليس موقعاً، وإنما موقف تماماً مثلما أن رجل الأعمال ليس مالاً وثراء، وإنما مشروع ورؤية، فرجل الدولة من يملك معرفة تؤهله لإدارة كامل التفاصيل والمسؤوليات بشكل يحقق العدل والإنصاف ويضع مصلحة المواطن في عين الاعتبار قولاً وتطبيقاً، هو من يعمل لغيره لا لنفسه، ويعي الحقوق التي يجب أن يؤديها للغير والواجبات التي عليه أن يتحملها، هو من يجعل المؤسسات أو الإدارات الرسمية مرجعية للسلوك يرى الناس فيها انتماء وفضيلة، يملك من العلم والخبرة والتواضع ما يؤهله لإدارة دفة الأمور كاملة بلا نقصان، يبلور الرؤى ويسهر على تنفيذها ومتابعتها، يعلم الحاضر ومجرياته، ومآلات المستقبل واستشرافاته، لا يخشى على منصب ولا يخاف من رقابة ولا من تصريح لإعلام..!
ما أحوجنا فعلاً لصناعة رجالات دولة حقيقيين في هذه الظروف القاسية.
سورية اتسمت غير فترة بظهور رجالات دولة، من الأوائل الذين تقلدوا المناصب مع فترة ظهور اشتداد الأزمات المعيشية والاقتصادية الصعبة في سنوات مضت، وامتازوا بالحدة والحزم في جميع شؤون أعمالهم وتدخلاتهم، فكانوا أصحاب قرار، وكأن الواحد منهم باستطاعته إدارة بلد بالكامل على الرغم من محدودية ثقافته مقارنة ببعض رجالات اليوم الذين يتغنون بحرف الدال وغيرها! لم يكترثوا بموقعهم ولا بكم سيجنون منه، بقدر ما كانوا يسعون إلى تحقيق المعجزات وصنع الإنجازات، وكان ذلك ببعض المواقع شواهد على تدخلات بعض رجالات الدولة في سابق السنوات..!
لماذا غاب عنا أمثال هؤلاء السابقين من رجال الدولة الأصحاء..؟ فما السر إذاً وراء هذه الصناعة الأصيلة التي سرعان ما ذابت وتلاشت والمتمثلة في إنتاج كوكبة من الرجالات في زمن سابق، والذين تميزوا في كل المجالات الحياتية وظلت ذكراهم خالدة إلى يومنا هذا؟!!
دون أدنى شك هناك عوامل عدة ساهمت في صنع مثل هؤلاء الرجال وأهمها وجود سياسات صارمة في حسن الاختيار وعمق الفكر مع توافر ضوابط اقتصادية واجتماعية منضبطة ومحكمة ترمي إلى فرض سلوكيات إنجاز أعمال ومهام على أكمل وجه.
فعندما تكون المحددات والنواظم سليمة وقادرة على فرض الإيقاع وتنفيذ القانون بكل تفاصيله ومجرياته بلا تهاون، وفرض هيبته تجاه كل من تسوّل له نفسه القيام بعمل مشين، بل إن ذياع صيت مثل هذه الأفعال المشينة في مجتمع محافظ يدفع بقوة إلى لفظ فاعله ونبذه، والتدخل لحسم أي خرق ما قد يحصل، تكون النتائج نافعة والثمار تعطي أوكلها!
كما كانت السياسات تراعي بدورها الاقتصاد في كل جوانبه لأنه عصب الحياة في أي دولة ترغب في النهوض فكانت الإدارات الرسمية تتجنب تضارب المصالح وكانت بعيدة كل البعد عن التجارة وتدخلاتها واستفراد البعض دون الآخر وإعطائه ميزات قد تشكل باباً ليس محموداً أو محبوباً عند الآخرين!
وفي الجانب المجتمعي نتذكر أنه كان كل فرد يسهم من جانبه في تحريك عجلة التنمية، كانت الأجواء والعلاقات أصفى وأنقى، نفوس وصدور بريئة، لا هم لها سوى المصلحة العامة، والمحافظة على سلوكيات المجتمع الراقية والتقاليد المشجعة على التعاون والإخاء، عكس ما غزانا اليوم من بشاعات وفظاعات وسرقات، فاختلط الحابل بالنابل، وضاع النظيف تحت قصص اللص، بعد أن كانت تتشابك أيدي الجميع معاً لعمل الخير، وغرس الإصلاح والتطوير، نجدها اليوم تتسابق إلى حصد أي منفعة خاصة بعيداً عن الأخرى.
إني لأعزو ما وصلنا إليه من تردٍ إلى أن الكل يطمح للوصول إلى كراسي الحكومة ومجلس الشعب، ولكن منذ سنوات ونحن نراهما يتنافسان فلا هما نجحا في مسيرة عملهما، ولا هما نجحا في خلق نظام اقتصادي عادل ولا حتى في إرساء أسس صحيحة لنعود إلى إتقان صناعة رجالات دولتنا.
وأختم بالقول: لن ينصلح حال إلا بما صلح به أوائلها، وإذا استمررنا بالنمطية نفسها فإننا سنبقى طويلاً رهن متغيرات وحسابات وإصلاحات تتم ببطء شديد في عالم يتسم بالسرعة، ولن ينتج لنا رجالات دولة تقود المشهد المتسارع بمتغيراته ومتطلباته إلى بر الأمان..!