أصبح الإنتاج الفني الدراميّ والسينمائيّ قوة اقتصادية تتمتع بها الدول، إذ يسهم بنسب كبيرة في الناتج المحلي لأي دولة وهذا ما جعل بعض الدول تهتم وتشجع وتطور هذه الصناعة الفنية وجعلها اقتصاداً قائماً بحد ذاته، بعيداً عن جوانبه الثقافية والاجتماعية، لما يحققه أي عمل فني من إيرادات ضخمة ونسب أرباح خيالية، الأمر الذي يتطلب توظيف مئات وآلاف العاملين في هذا الإنتاج وبالتالي يعتبر القطاع الفني محركاً لنمو الاقتصاد المحلي ومن أقوى دعائمه وركائزه الأساسية.
وبعيداً عن المتعة والتسلية التي تحققها الأعمال الفنية، تحولت لسلعة تباع وتشترى، فلا يمكن عزل هذه الأعمال عن الاقتصاد، وبما أن هذا المنتج يرتبط بالمهن الأخرى ويؤدي لتنشيطها كصناعة الملابس والديكور والصوت والتصوير والمونتاج، فإنه حتماً يحفز ويدعم الاقتصاد بشتى الوسائل ومن كل الجوانب، فلا أحد ينكر أن الصناعة الفنية- الإبداعيّة- داعم حقيقي وأساسي في الاقتصاد الوطني لأي دولة، كما هو الحال في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، وعربياً تتمثل مصر الدولة الأولى عربياً في تحقيق أعلى الإيرادات الفنية الدرامية والسينمائية والتي تحقق انتعاشاً كبيراً للاقتصاد المصري وتأمين مردود جيد لخزينة الدولة المصرية.
وفي سورية، يتمتع الإنتاج الفني الدراميّ بشهرة عربية واسعة من خلال نسب التوزيع العربية العالية، ما جعلها حاضرة في أغلبية شاشات الوطن العربي، ورغم صعوبة الحصول على نسب الأرباح والإيرادات التي يحققها العمل الدراميّ الواحد، إلا أنه يساعد في تأمين دخل لمئات العوائل وتنشيط كل المهن التي تحتاج هذه الأعمال مستلزماتها، كإيجار مواقع للتصوير وتأمين التجهيزات والمعدات التصويرية، بالإضافة لشراء كميات كبيرة من الملابس للفنانين وتنشيط المطاعم والمحال التجارية القريبة من هذه المواقع، فضلاً عن تشغيل كادر كبير من الفنيين والفنانين.
الأمر الذي يفرض جدلية استغلال هذه الدراما في إنعاش وتحسين الاقتصاد السوري المنهك، لما تؤمنه من توفير آلاف فرص العمل وتأمين كمية جيدة من القطع الأجنبي لكونها صناعة تصدر منتجاتها للخارج، وهذا قادر على تأمين كميات كبيرة من القطع الأجنبي، بالإضافة لإحداث عجلة اقتصادية ضمن مكان تصوير العمل الواحد في الفنادق والمطاعم والمحال ومقاصد السياحة وبالتالي يسهم في الحد من نسب البطالة، فكيف تسهم الدراما السورية في تحسين الاقتصاد الوطني؟ وكيف يجب استغلالها وتوظيفها لإنعاش الاقتصاد؟
دوران العجلة الاقتصادية
وفي حوار خاص مع «الاقتصادية»، كشف رئيس لجنة صناعة السينما والتلفزيون علي عنيز أن بلدان العالم الكبرى تعتمد على الصناعات الإبداعيّة بجزء من اقتصادها الوطني، ومثال على ذلك، الولايات المتحدة (هوليود) تعتمد على الصناعات الإبداعية بنسبة 13 بالمئة من قيمة إيرادات الخزينة العامة للدولة.
وتابع: سورية بلد متقدم فنياً ودرامياً ومصدّر للإبداع، بكل تأكيد تسهم الدراما -الحراك الفني- في سورية بدوران العجلة الاقتصادية الكبرى، بما أنه يضم مستثمرين يصنّعون داخلياً ويصدرون، وتتكرر هذه العملية، وهذا ما يؤدي لإنعاش الاقتصاد المحلي، وعجلة الاقتصاد ليست فقط على مستوى الفنانين والفنيين العاملين في هذا القطاع، وإنما دوران عجلة حياة ثانية، فعندما يكون موقع تصوير في مكان معين، فيؤثر إيجاباً في المواقع المجاورة له، كالمطاعم والكافيهات والفنادق وغيرها.
مؤامرة لسحبه خارجياً!
وأضاف عنيز: قطاع الدراما، كغيره من القطاعات تعرض للحرب وللأزمة، وكان هناك مؤامرات لسحبه للخارج، وبوعي عدد كبير من صنّاع هذا القطاع وبدعم من الحكومة، تمركز القطاع الفني أكثر وتوطّن بمحله، والهدف اليوم يكمن في توطين القطاع الفني وهوية الدراما السوريّة، واليوم الدراما السورية ليست بظرف مثالي نتيجة الحرب التي تعرضت لها سورية.
إعفاء من الضرائب
وعن الضرائب التي توجه للصناعة الفنية، يوجد مرسوم رقم 15 صادر عن السيد رئيس الجمهورية بتاريخ 2001، والمتضمن إعفاء عدد من صادرات القطاعات الصناعية من الضرائب والرسوم، وتم شمل صناعة الإنتاج التلفزيوني والسينمائي بهذا المرسوم، ويوجد عدد من الإعفاءات تتمتع بها شركات الإنتاج من باب الدعم والتحفيز والتشجيع لهذا القطاع، فالشركات المنتجة تصنّع وتصدّر، بالتالي لا ضرائب على هذه الصناعة، وبكل تأكيد عليها رواتب وأجور للعاملين وتأمينات اجتماعية وتفاصيل أخرى تعتبر من البديهيات الموجودة بأي مهنة أخرى، بحسب ما أشار إليه عنيز.
استغلال الدراما
وبرأي عنيز، يجب اليوم استغلال الدراما لتنشيط الاقتصاد من خلال الاعتماد على الصناعات الإبداعية لقادم الأيام، على أنها صناعات داعمة ورافدة للاقتصاد الوطني، ولا يمكن أن تبقى جزءاً محدوداً من الصناعات أو المهن الداعمة للاقتصاد، ويجب منحها اهتماماً واضحاً لأنه قطاع نشط وينمو ويتطور بشكل سريع سواء على مستوى المعدات التجهيزات لكوننا نمتلك الخبرات الفنية والفنانين ورؤوس الأموال والبيئة الحاضنة لصناعة الدراما، فالقطاع الدرامي يحمل وجهين، وجه ثقافي وحضاري ولنقل رسالة وصورة المجتمع للخارج، والثاني تحقيق إيرادات تسهم برفد الاقتصاد الوطني بالقطع الأجنبي وتحسين الليرة السورية كالصناعات الأخرى.
وأكمل: نحتاج إلى مزيد من القرارات الداعمة لهذا القطاع، على سبيل المثال استيراد المعدات والتجهيزات الفنية المساعدة لعملية صناعة الدراما، لتبقى الدراما تساير وتواكب التطور الجاري على مستوى العالم، فلكي تنافس بالجودة والصورة فإنك تحتاج لمعدات جديدة ومتطورة، واليوم نتيجة الحصار الجائر والعقوبات المجحفة فقد ساهما بتأخير موضوع المعدات، وهدفنا بالأيام القادمة محاولة تسريع عدد من القرارات لدعم هذا القطاع.
لا نتدخل بنسب الأرباح
وعن نسبة الأرباح والإيرادات من الصناعة الفنية، بيّن عنيز قائلاً: اليوم نحن كجهات موجودة وصائية أو مشرفة لا نتدخل بموضوع الأرباح أو الإيرادات للمنتج، فهذا قطاع خاص من حقه الربح والبحث عن فرص عمل مواتية له وتحقق له نسبة أرباح عالية، نحن مشجعون وداعمون له ونسعى لتحقيق الربح وإعادة لرأس ماله ليكرر العملية الصناعية هذه، فإذاً لا ندخل بهذه التفاصيل ولا تقدير لدينا عن هذه الأرباح والإيرادات.
الفائدة للكل
وختم حديثه موضحاً أن خزينة الدولة تدعم قطاع الإنتاج الفني بطريقة أو بأخرى من خلال شرائها للأعمال الفنية وعرضها على التلفزيون السوري، والمنتج يعود للخزينة من خلال ما يقدمه ويحققه من مصاريف وإنتاج لعمله الفني والتي تعود بالفائدة ككل على المجتمع وليس فقط على الخزينة.
تحول لمفهوم سياساتي
بدوره، اعتبر الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور أحمد صالح في حديثه مع «الاقتصادية» أن الصناعة الإبداعية قطاع واسع جداً، والمفهوم تعزز بشكل كبير وتحول لمفهوم سياساتي من خلال تعزيز المدخل الاستثماري لكل الأنشطة، وكل الشعوب لديها ميزة تنافسية في مجال معين ضمن الصناعة الإبداعية، ويعتبر ركيزة من ركائز التنمية المستدامة، واليوم في أوروبا الصناعة الإبداعية هي صناعة أساسية وجوهرية، معتبراً مفهوم الصناعة الإبداعية طيفاً واسعاً جداً يقوم على فكرة تعزيز الموهبة والملكات الفكرية الإنسانية ووضعها في مجال استثماري إيجابي بحاجة للمؤسسات.
وأردف د. صالح: نهضة أوروبا «نهضة الرأسمالية الحديثة» قامت على فكرة حماية الملكية الفكرية، ونحن في سورية نمتلك الحماية الفكرية كأسس وتشريعات، ولكن تحتاج لتعزيز وممارسة من هذه المؤسسات، واليوم نقابة الفنانين واتحاد الصحفيين دورهما كبير في تعزيز رأس المال الفكري وحمايته، واللبنة الأساسية لتطوير قطاع الصناعات الإبداعية هي قانون حماية الملكية الفكرية وتعزيز قانون الشركات.
متطلبات
الصناعة الإبداعية بمفهوم السياسة الصناعية بحاجة إلى تنظيم وتمويل وإدارة فعالة على المستوى الجزئي، أما على المستوى الوطني فهي بحاجة إلى سياسات كلية متكاملة ومتناسقة ومتناغمة مع الإستراتيجية التنموية، وبالتالي لا بدّ من اعتماد مدخل المؤسسات في عملية تطور الصناعة الإبداعية، وهي بحاجة للتمويل الذي يؤدي إلى «المُتاجرة»، والثقافة بحد ذاتها هي سلعة عامة، أي من الوجهات الأساسية للدولة كالتعليم والدفاع، لكن لا يمنع أن نتعامل معها بعقلية اقتصادية حسب طبيعتها والإمكانية، بحسب د. صالح.
عائداته ضخمة جداً
وتابع: الفن هو أحد فروع القطاع الثقافي، وبالتالي يكون أحد فروع الصناعة الإبداعية، ودائماً أي منتج له قيمتان، قيمة ظاهرة مباشرة وقيمة غير ظاهرة وغير مباشرة، فالفن عدا فائدته الاقتصادية الكبيرة إلا أنه يحمل رسالة وقيمة ويمكن أن يكون له دور في إضافة قيم تجارية واقتصادية، وبالتالي توجد شركات إنتاج كبرى توفر آلاف فرص العمل للعاملين من كلّ المستويات، فاليوم العمل السينمائي أو الدرامي تفوق تكلفته مئات الملايين وأكثر وعائداته تكون ضخمة جداً، واليوم هذا القطاع لا تقتصر ماهيته على المال فقط، وإنما على تعزيز الروح الجمالية والثقافية وحسّ الانتماء.
احتضان هؤلاء الرواد
وأشار د. صالح إلى أن هذا القطاع قادر على تشغيل وخلق عشرات آلاف فرص العمل وخصوصاً في العصر الرقمي الحالي، والإنتاج الدرامي هو جزء من الإنتاج الثقافي الإبداعي، والتاريخ الحضاري لسورية ممتلئ بالمواهب والمفكرين والمبدعين، فهو قادر على إنتاج دراما أصيلة وحقيقية، والنقطة الجوهرية الأساسية هي محاربة الغزو الثقافي كالأعمال المدبلجة، ويوجد في سورية قدرة هائلة في قيادة القطاع الإبداعي، ومن هنا يأتي دور الدولة في حماية واحتضان هؤلاء الرواد على المستوى العربي والإقليمي والعالمي، واليوم يطلق على الصناعة الإبداعية مفهوم «الاقتصاد الخلّاق».
يتطلب إستراتيجية تنمية
وحسب رأيه، لاستغلال هذه الصناعة في تنشيط وإنعاش الاقتصاد فإنه يتطلب إستراتيجية تنمية تميل لتطوير الاقتصاد الإبداعي، وهناك جهود فردية ومؤسساتية كثيرة ولكن بحاجة لإطار مؤسساتي متكامل تقوده الحكومة ومنظور علم الاقتصاد في رسم هذه الإستراتيجية، وتعزيز دور المؤسسات الرسمية والخاصة، وبالتالي ينتعش الاقتصاد من خلال توفير عشرات آلاف فرص العمل ويفتح آفاقاً كبيرة جداً، والأهم يعزز الحالة الثقافية والفكرية والتربوية والتعليمية لدى الأفراد.
مصدر لجذب الاستثمار
واعتبر د. صالح أنه عندما تتطور هذه الصناعات والتي بدورها خلق عشرات الآلاف من فرص العمل وتعزيز دخل الأفراد، ففي البداية يحتاج هذا القطاع من الحكومة لدعم انتقائي مدروس وموجه وهادف كالرعاية والحماية والإعانات، وبعدها يتحول لمصدر إيرادي ضخم من خلال فرض الضرائب، وأيضاً لمصدر كبير لجذب الاستثمارات.
يشغل عدداً ضخماً من المهن
الصناعي عاطف طيفور أكد لـ«الاقتصادية» أن صناعة الدراما أحد أهم الموارد للاقتصاد السوري وأهم مادة تصديرية، والمنتج الصناعي الوحيد الذي لا يحتاج إلى مواد أولية ومستوردات في حين جميع مكونات إنتاجه هي المال فقط، وأكثر منتج يسهم بتشغيل عدد ضخم من المهن المتعددة وفئة ضخمة من المجتمع.
ورأى طيفور أن هجرة صناعة الدراما السورية للخارج كارثة اقتصادية، انعكس ذلك على هجرة كادر الممثلين المحترفين للخارج وعلى فقر الممثلين البسطاء، ما يسهم بتخفيض نسبة هذه الكوادر بالمستقبل واندثار هذه المهنة.
الدعم يختلف
وبيّن طيفور أن دعم صناعة الدراما لا يقل أهمية عن دعم أي منتج صناعي، في حين يتركز هذا الدعم فقط بالمال والقروض والتسهيلات، بعيد جداً عن دعم الصناعة التقليدية بالمواد الأولية المستوردة والمحروقات المستوردة والتسهيلات الجمركية والضريبية وغيرها، وهذا الدعم ينعكس على تحويل الليرات السورية إلى قطع أجنبي من دون عناء الترويج والتسويق للخارج ومن دون عناء الالتفاف على العقوبات من دون عناء المنافسة.
علينا استغلال هذا المنتج
وأكمل شارحاً: بظل العقوبات وارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعي التقليدي والكساد الداخلي وصعوبات التصدير والشحن وغيرها، علينا التركيز على هذا المنتج الصناعي الذي قد يكون أهم مورد للاقتصاد السوري وأهم مورد للقطع الأجنبي، وعلينا استغلال هذا المنتج المرغوب بشكل مطلق إقليمياً والتوسع بالإنتاج وجذب شركات الإنتاج للداخل وجذب الدراما المشتركة وإعادة الألق للإنتاج.
وأخيراً، يمكننا القول إن الإنتاج الفني الدراميّ يعد دعامة أساسية من دعائم الاقتصاد، وركيزة مهمة في الاقتصاد الوطني، لما يحدثه من تحريك دوران عجلة الاقتصاد المحلي، لأن هذه الصناعة الفنيّة لا تتطلب استيراد المواد الأولية كغيرها من الصناعات، بل تحتاج فقط لرؤوس الأموال لتشجيع ونمو وتطور هذه الصناعات والتي بشكل أو بآخر تحقق تحسناً اقتصادياً محلياً ونوعياً، فلا تخفى أهمية هذه الصناعة في توفير الفرص في سوق العمل لقطاع كبير من الكوادر العاملة في الإخراج والتمثيل والكتابة، بالإضافة لكوادر الإضاءة والتصوير والديكور والملابس وغيرها من الأعمال والمهام الفنية المرتبطة بصناعة الدراما.
فاليوم يجب على الحكومة السوريّة أن تولي القطاع الفني اهتماماً كبيراً، وتقدم له كل التسهيلات والدعم والرعاية والحث على التحفيز والتشجيع لكل طواقمه الأدبية والفكرية والفنية والراعية والممولة والمنتجة، للمساهمة في تطور هذا القطاع وتأمين كل المتطلبات التي تحتاجها شركات الإنتاج الفني، بالتوازي مع الحث على جذب المستثمرين ورجال الأعمال للاستثمار في هذه الصناعة الفنية، لما يمثله الاستثمار من أهمية اقتصادية كبرى، وإحداث القرارات والقوانين التي تسهم بتطور هذه الصناعة وخاصة السينمائية التي تفتقر سورية لها عكس الدرامية، ولا ينكر أحد أن الصناعة السينمائية تحقق إيرادات ضخمة أكثر من إيرادات الأعمال الدرامية.