السياسات الاقتصادية على طاولة التشريح..العقلاء هم من يراجعون سياساتهم … توزيع الدخل العام أولوية و«سياسة التطفيش» مقتل الاقتصاد … إعادة توزيع الثروات والدخول بدءاً من الرواتب والأجور
| شادية إسبر
تتسع الهوة بين الدخل والإنفاق، وبحثاً عن تعدد مصادر الدخل، كل يجهد على طريقته، فالدخل هو عماد الاقتصاد، وهدف سياساته وإستراتيجياته، ولكلٍ اقتصاده الذي يبنيه بآلياته وأدواته منطلقاً من واقعه، فالاقتصاد بنية متكاملة فكرية تخطيطية وإجرائية عملية تنفيذية، فيها مكامن ضعف وقوة، كما فيها مخاطر إخفاقات كثيرة تهدد كل مرحلة في طريق النجاح، لكنه الشيء الوحيد ربما الذي لا يحتمل «حالة الإنكار»، فلا يمكن بأي منطق اقتصادي اجتماعي تنموي، إن كان على مستوى سياسات الفرد أم الأسرة وتدرجاً إلى الحكومة فالعامة، أن يتم إنكار الحالة الاقتصادية المتردية، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم عدم الاعتراف بأي إخفاق أو خطأ في مكان ما أو سياسة هنا أو إجراء هناك، وتصحيحه، فالإنكار مقتل أي قادم، وتعويم الأخطاء الاقتصادية جريمة بحق مجتمع بأكمله، والبحث في أسباب الفشل والنجاح أيضاً لتقييم الأداء وتقويمه أول خطوة في الطريق الصحيح؛ لبناء اقتصاد سليم ومجتمع صحيّ.
(يخطئ الطبيب فيقتل شخصاً، ويخطئ الاقتصادي فيقتل مجتمعاً)، العبارة التي نسمعها كثيراً في أوساط عدة اقتصادية وشعبية هي الأكثر تعبيراً عن حجم المسؤولية، ومن الأهمية ومنطلق التشاركية الفكرية والنقد الهادف بمفهومه الإيجابي، وُضِعَت السياسات الاقتصادية في سورية على طاولة التشريح بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق عبر سلسلة (ندوات الحوار الاقتصادي) التي بدأها قسم الاقتصاد في الكلية بندوة (الأحد 30 حزيران 2024) حملت عنوان: «السياسات الاقتصادية في سورية مراجعة شاملة» والتي كانت مدخلاً عاماً للدخول في التفاصيل بحوارات قادمة.
إجرائيات أكثر منها سياسات
أخطاء تراكمية على مستوى السياسات والإجراءات، دفع المواطن السوري بسببها ثمناً باهظاً من لقمة أطفاله وراحة باله، والخوف على المستقبل بات أكبر مع العجز عن تمرير الحاضر، فسلامة المجتمع مرتبطة بسلامة الاقتصاد الوطني، وسلامة الاقتصاد من سلامة سياساته.
من السلامة انطلق الأستاذ الدكتور في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق رسلان خضور في ورقة العمل التي قدمها للنقاش بقوله: سلامة الاقتصاد الوطني عملياً مرتبطة بسلامة السياسات الاقتصادية، ودون سلامة السياسات لا يوجد نمو اقتصادي سليم ومستدام ولا أي مؤشر من مؤشرات التنمية الاقتصادية يتحرك، لافتاً إلى أنه «ليس دائماً الاقتصاد يمضي في الطريق الذي يتمناه الاقتصاديون كأكاديميين وحتى كصانعي السياسات»، وبدأ بسؤال عما تعنيه السياسات الاقتصادية؟ موضحاً أنها المبادئ والتوجهات، محددات ملزمة تسترشد بها الحكومات لبناء خطط أو برامج، وتتم ترجمة السياسات عملياً من الحكومات على شكل خطط وبرامج متكاملة متسقة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية، ومن خلال السياسات نقوم بتقييم أداء الحكومات، مشدداً على أن وضع السياسات ضمانة مهمة جداً كي لا نتصرف بردّات الأفعال أو بالارتجال، وأن ظروف الحرب لم تكن تساعد، لكن هذا لا يعفينا بالمطلق أن نذهب باتجاه الإجرائيات كثيراً.
وصنّف الأستاذ الجامعي السياسات الاقتصادية بمستويات أربعة (عامة، كلية، قطاعية، وخطط وبرامج إجرائية)، موضحاً أن العامة من صلاحيات سلطات الدولة العليا وتعبر عملياً عن توجهاتها ومصلحتها العليا، ومن الأمثلة: دور الدولة في الاقتصاد، سياسات الدعم، السياسات التعليمية والصحية، ما يتعلق بالأمان الاجتماعي… في حين الكلية تقوم بها الحكومات وفق توجهات السياسات العامة كالمالية والنقدية، التجارة الخارجية، سوق العمل.. إلخ، كما أن الحكومة تنفذ أيضاً السياسات القطاعية في إطار السياسات العامة كالزراعية، الصناعية…
لتكون كل وزارة معنية بوضع سياستها وخططها وبرامجها لتنفيذ وتحقيق أهداف السياسات الثلاث.
في سؤاله الثاني «لماذا نراجع السياسات؟» أكد الدكتور خضور أنه من حيث المبدأ فقط الحكماء والعقلاء هم من يراجعون سياساتهم، والهدف من المراجعة هو الاستفادة لمعالجة الخلل والمشاكل، مشدداً على أن المراجعة تتم للسياسات الفاشلة والناجحة أيضاً لفهم أسباب الفشل والنجاح.
الشباب غاضبون..
يرى الدكتور خضور وجوب المراجعة لأن الأغلبية اليوم من الشباب، ليسوا «قلقين فقط بل غاضبون» لأن السياسات الاقتصادية لا تأخذ مصلحتهم ولا طموحاتهم، وفي هذه السياسات الاقتصادية التي تنفذ إشكالية يجب مراجعتها، لتقييم الأداء والنتائج وفقاً لمعايير محددة، يتم التأكد عبرها من التوازنات على المستوى الكلي سواء الاقتصادية أم الاجتماعية أو التوازنات الكلية الأخرى، والأهم مراجعة السياسات لاستخلاص الدروس والعِبَر لنبني عليها سياساتنا القادمة.
يغيب الرصد والتقييم الذي يُعتبر الخطوة الأولى بمراجعة السياسات، والرصد والتقييم أمر في غاية الأهمية لإعطاء المصداقية للحكومات وصنّاع القرار، ووفق الدكتور خضور فإن التقييم بشكل أساسي يساعدنا على توقع المشاكل المهددة للاستقرار الاقتصادي لاحقاً، مضيفاً إن مراجعة السياسات تعني أيضاً تحديد مدى التداخل في المسؤوليات والصلاحيات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يوجد وزارة التنمية الإدارية وأخرى وزارة العمل، فكيف تُجري الأولى مسابقة وتدخل بسوق العمل وبما يتعلق بالتعيين والتوظيف وهذا ليس من مهامها، وغير موجود في فلسفة إحداثها وإنشائها؟، فالمراجعة تكشف وجود تداخل بالصلاحيات والمسؤوليات، وهذا التداخل أو التكرار بالتأكيد ليس لمصلحة أي سياسات اقتصادية.
ودون الغوص في التفاصيل التي تحتاج إلى الكثير من الوقت من وجهة نظر الدكتور خضور فإن كل السياسات تحتاج للمراجعة لتحديد أسباب الفشل والنجاح، مقدماً بعض العينات للمستويات الأربعة.
لم نلمس ماذا نفذ من مشروع مكافحة الفساد..!
توزيع الدخل ومكافحة الفساد أولوية
بالسياسات العامة توجد مشكلة كبرى تتعلق بتوزيع الدخل القومي وتقاسم عوائد النمو على نطاق واسع، وبالتالي السياسات التي هي أولى بالمراجعة والتقييم هي سياسة توزيع وإعادة توزيع الثروات أو الدخول، فمسألة التوزيع والإنصاف والعدالة في التوزيع والنمو المستدام، لا تنفصل على الإطلاق، يؤكد الدكتور خضور، ويوضح أنه في إطار سياسات إعادة توزيع الثروات والدخول في مجالات كثيرة بدءاً من الرواتب والأجور، والسياسات المالية والنقدية بشكل عام، حتى نعيد التوزيع الأولي والثانوي، كما تحتاج لمراجعة سياسة مكافحة الفساد، حيث يوجد مشروع إداري إصلاحي ضخم، وقد تبنى مجلس الوزراء منذ سنوات إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد ولم نلحظ ماذا نُفّذ منها حتى الآن، ولم نلمس كمواطنين شيئاً، أفلا يجب أن يكون هناك مراجعة وتقييماً؟
كما يرى الدكتور خضور أنه في السياسات العامة يوجد موضوع الدعم والإنفاق الاجتماعي الذي يحتاج بالتأكيد لمراجعة، لافتاً إلى أن هذا الموضوع مطروح حالياً على كل المستويات وفي الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية.
وركّز الدكتور خضور على جانب بغاية الأهمية وهو دور الدولة في الاقتصاد، وتوزيع الأدوار بين القطاعين العام والخاص والتشاركية بينهما، موضحاً أن المشكلة بشكل عام ليست حجم كل قطاع (عام، خاص) بل هي كيف تكون الدولة صاحبة السلطات قوية بما فيه الكفاية؛ وقادرة على قيادة وإدارة مشروع تنموي بشكل عام على مستوى الدولة كلها، وطبعاً هذا المشروع في السياسات الاقتصادية ينفذه قطاعا الأعمال الخاص والعام بغض النظر عن حجم كل منهما، مشدداً على أهمية أن تكون الدولة هي من تقود وتدير هذا المشروع التنموي وفق سياسات وإستراتيجيات واضحة.
القطاع الخاص غير مؤهل..!
يرى الأستاذ في قسم الاقتصاد أن القطاع الخاص غير مؤهل على الإطلاق ليقود مشروعاً تنموياً، فهو مؤهل للقيام بالتجارة، الاستثمار، الصناعة.. ويمكن أن يكون أفضل من القطاع العام بكثير، لكنه غير مؤهل لقيادة مشروع تنموي، فمن يقود المشروع التنموي هي الدولة صاحبة السلطات، بهذا الإطار توزيع الأدوار بين العام والخاص، لافتاً إلى أن موضوع التشاركية مطروح منذ زمن، ويوجد المشروع قبل 8 سنوات (العام 2016) وفق قانون التشاركية، بقي دون تقييم، وأن سورية سبقت الكثير بهذا الموضوع، وأوائل القرن الماضي نُفذ أول مشروع تشاركي واضح وكان ناجحاً جداً؛ وهو مشروع جر مياه عين الفيجة إلى دمشق، وأضاف: إذا استطعنا أن نعيد روح هذا المشروع فسنكون قد حققنا إنجازاً كبيراً في هذا المجال، لكن حتى الآن لا يوجد أي تقييم في موضوع التشاركية لما جرى سابقاً.
كما ساق الدكتور خضور مثالاً آخر بأن عدة شركات زراعية مشتركة تم إنشاؤها خلال الـ 38 عاماً الماضية فكيف تتم مناقشة وإقرار آلية تنفيذية لتأسيس شركات مشتركة من دون أي مراجعة لتلك التي أنشئت؟
وعن السياسات الكلية اعتبر الدكتور خضور أن السياسات المالية بحاجة للمراجعة، وما يتعلق بالإنفاق العام، وكفاءته، ودور السياسات المالية تحديداً في إعادة توزيع الدخل القومي والثروات والدخول بشكل عام، كما تساءل بأي قدر استطاعت السياسات النقدية أن تحقق الاستقرار المالي خلال السنوات الماضية رغم ظروف الحرب كهدف أساسي لها، إضافة لحجم التضخم واستقرار الأسعار إلى حد ما؟ مضيفاً: يجب أن نرى لماذا لم ننجح، مؤكداً على وجوب التنسيق بين السياسات وهذا ما نفتقده أيضاً.
وبشأن السياسات القطاعية والخطط والبرامج على المستوى الوزاري أكد أن التفاوت التنموي مرعب وفظيع وزاد خلال الحرب ويحتاج أيضاً إلى مراجعة، كما تحتاج ذلك السياسات والقوانين الزراعية، مشدداً على وجوب أن يكون الهدف زراعة كل متر مربع صالح للزراعة في سورية حتى نحقق الأمن الغذائي الذي هو جزء من الأمن القومي، في حين تساءل بالشق الصناعي عن وجود سياسات صناعية؟ لافتاً في الوقت ذاته إلى أن السياسات الاقتصادية لكوريا والصين أعطت مثالاً حتى للأميركيين بوجوب أن تكون هناك سياسات صناعية واضحة.
بعض الأفكار لنجاح السياسات
«ضعنا في متاهات الإجرائيات التي كانت سمة الفترة الماضية» من وجهة نظر الدكتور خضور، الذي شدد على وجوب أن تكون هناك أهداف واضحة، وهي ثلاثة رئيسية عامة (خلق فرص العمل المولدة للدخول، تعزيز النمو الاقتصادي، العدالة والإنصاف)، وقال: بديهيات نعرفها جميعاً أنه يصعب أن تنجح السياسات الاقتصادية والمالية من دون تسوية القضايا السياسية والأمنية، ولكي تنجح السياسات يجب أن تكون قابلة للتطبيق، فمثلاً يتم العمل منذ فترة على سياسات التحول الرقمي فهل البنية التحتية الرقمية مؤهلة لنجاح سياسة كهذه حالياً؟ كما يجب أن تصمم السياسات بما يتناسب مع القدرات المالية والإدارية، والموارد البشرية المتوفرة، وعندما نريد تصميم سياسات قطاعية تحديداً يجب التركيز على المزايا النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد السوري، دون إهمال الميزات المطلقة.
كما شدد: عندما نريد أن نتحول لبعض السياسات الجديدة كما يجري حالياً في التحول من الدعم العيني إلى النقدي من المهم جداً ألا يكون التحول على شكل صدمات، إنما التدرج والتحضير الجيد، فالتحضير لتنفيذ السياسات أهم من السياسات بحد ذاتها، معيداً تأكيد أهمية التنسيق والتكامل بين مستويات السياسات، وأن تكون آليات التنفيذ حزمة متكاملة من حيث المبدأ وليس بشكل انتقائي، فمن خلال التنسيق نضمن الأهداف، بمعنى أن تكون القرارات المتخذة في إحدى السياسات لا تؤثر بشكل سلبي في السياسات الأخرى، وهذا يحدث وخاصة بالسياسات المالية والنقدية.
رأس المال مغامر وقيدناه بالضرائب فهرب!
سياسات الاستثمار، محرك وداعم ورافع اقتصادي تسعى جميع الحكومات إلى تنميته، بآليات وضمانات وتسهيلات وعوامل جذب أخرى، وعن الأولويات فيها أكد الدكتور خضور أن أولاها البنية التحتية بما فيها الرقمية وما يتعلق بالكهرباء والطاقة، وثانياً الاستثمار برأس المال البشري بالتعليم والصحة وشبكات الأمان الاجتماعي.
ولفت إلى هروب المستثمرين لعدم وجود إيرادات وبالوقت ذاته يُثقل كاهل من يعمل في هذه الظروف الصعبة عبر الضرائب، فهذه السياسات لا تشجع الاستثمار بل هي طاردة لرأس المال، لذلك يهاجر رأس مالنا إلى دول أخرى، متسائلاً لماذا أعطى رأس المال السوري نتائج باهرة في الخارج (مصر والأردن) ولا يعطي هنا؟ مؤكداً أن ذلك يعني وجود نقاط لا يتم تطبيقها بالشكل الصحيح تسببت بهروب رأس المال، فرأس المال ليس جباناً بل مغامر، وقد أصبح جباناً بسبب تقييده بالضرائب العالية جداً في الوقت الذي يجب على الحكومة أن تنفق.
وفي السياق أكد الدكتور أحمد صالح الأستاذ في قسم الاقتصاد بجامعة دمشق خلال مداخلته بأن كل السياسات تنشأ من الإنسان، وهو عامل التنمية الحقيقية، وما ذكر حول التركيز على سياسة رأس المال البشري ذو أولوية قصوى، وقال: إن سورية تاريخياً كانت موفقة إلى حد كبير لناحية بناء رأس المال البشري من جهة التعليم والبحث والتطوير، لكن الحرب آتت أوكلها على ما يبدو في تدمير هذا الرأسمال، مشدداً على وجوب أن يكون الإنسان هو محور الانطلاق لبناء أي سياسة مهما كان موضوعها.
وتحدث الدكتور صالح أيضاً عن وجود مفاهيم جديدة للاقتصاد المعاصر للسياسة الصناعية، وهي أي سياسة تستهدف رفع الإنتاجية وكفاءة استخدام الموارد في أي قطاع مهما كان تصنيفه، فاليوم لم يعد موجوداً هذا التصنيف بين قطاع اقتصادي وآخر وباتت العملية تكاملية.
رفع الأجور ومضاعفتها سنوياً
موضوع تقييم السياسات الاقتصادية في وقت الحرب ماذا تحقق منها وماذا لم يتحقق؟ طرحه الدكتور علي كنعان، واعتبر أنها نجحت نجاحاً باهراً بأنها حافظت على وضع البلد وعلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لافتاً إلى أن المواطنين تعاونوا كثيراً مع الدولة وخاصة الموظفين الذين يدامون حتى الآن «دون أجور»، وأضاف: إذا أتينا إلى تقييم السياسات الاقتصادية خلال مرحلة الحرب نأخذ أول هدف هو التوازن بين الأجور والأسعار، وهذا أسمى هدف للسياسة الاقتصادية، وما نلاحظه اليوم أن الأجور متدنية جداً والهوة باتت واسعة جداً والسياسة الاقتصادية هي المسؤولة، معتبراً أن الحل على المجالين بأن يتم تحسين مستوى الأجور وتخفيض الأسعار الذي لا يمكن أن يحدث إلا بالمنافسة، فمنع القطاع الخاص من الاستيراد والسماح لعدد محدد كما يجري اليوم أدى لرفع الأسعار، لذا على الدولة إعادة النظر، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 700 ألف ليرة سورية وزيادته سنوياً بنسبة 100 بالمئة، وبالوقت ذاته أن يتم السماح للقطاع الخاص بالاستيراد حتى تهدأ الأسعار وتبدأ بالانخفاض، وبهذا تكون السياسة الاقتصادية تسير باتجاه تحقيق هذا التوازن.
الدكتور كنعان شدد أيضاً على تحقيق التوازن بين الاستيراد والتصدير، والذي لم تحققه السياسة الاقتصادية، وقال: إذا أردت أن تصدر فعليك أن تستورد، والسياسة الاقتصادية التي تقول أن نصدر ما لدينا هي سياسة قديمة خاطئة، وللأسف يتم شبه منع للاستيراد حيث انخفض من 8 مليارات دولار إلى 3,8 مليارات دولار، وبهذه المواد التي يتم استيرادها لا نملك قدرة على التصدير ما يعني أن السياسة الاقتصادية المتبعة تتراجع ولا تحقق هدف تشجيع التصدير.
السياسة النقدية حمت سعر الصرف!
بالنسبة لسعر الصرف أوضح الدكتور كنعان أن سعر الصرف في كل دول العالم هو وسيلة وليس هدفاً، والقيام بتحديده تسبب بأضرار للقطاعات الاقتصادية، وأضاف: السؤال الذي يطرح نفسه أيهما أفضل أن يكون سعر الصرف 50 ألفاً أو 100 ألف والاقتصاد يعمل بكل كفاءته وفعاليته، أم نبقي على سعر الصرف 10 آلاف ليرة والاقتصاد مجمّد؟ّ ما يعني وجود خطأ كبير في السياسة النقدية لأنها دعمت سعر الصرف ولم تدعم الاستثمار والاستيراد لتأمين مواد أولية لتشغيل الاقتصاد الوطني ليقوم بدوره بدعم سعر الصرف.
بينما رأى الدكتور عدنان سليمان أنه لم يتم في أي يوم من الأيام أثناء الحرب تطويع السياسات النقدية بما ينسجم مع مفهوم الأزمة (الحرب)، وقال: لذلك لن تحدث نقلات ملحوظة على مستوى الأداء الاقتصادي لأنه لم يكن هناك اجتهاد في تطويع السياسات بما ينسجم مع المتغيرات، فسعر الفائدة والتضخم وسعر الصرف هي أدوات لم تستخدم بفاعلية.
وتحدث عن التجربة اليابانية ففي إدارة أزمتي (2020، و2022) وسياسة اقتصادات آبي التي تنطلق من تحرير الأجور بما ينسجم مع معدل التضخم، وأن الرفع النسبي سيؤدي إلى زيادة الاستهلاك الإنتاجي وبالتالي تحفيز الاستثمار، والتي خالفت كل الاقتصادات الغربية التي ذهبت إلى مفهوم رفع الفائدة، وتساءل: لماذا لم نستطع اجتراح سياسات اقتصادية غير تقليدية ليس لها علاقة بالمفهوم الكلاسيكي؟ وأضاف: اشتغلوا طوال السنوات السابقة وفق بيانات الحكومة على أداة واحدة وهي سعر الصرف، وتمت التضحية بالإنتاج والاستثمار والنمو مقابل الحفاظ على سعر الصرف، ما زاد الركود والانكماش والبطالة وانعدام معدل النمو الاقتصادي.
الطبقة الوسطى حاجة اقتصادية
باستغراب نابع من وجع علّق الدكتور غسان إبراهيم على فقدان الدول النامية لأي سياسات اقتصادية، مؤكداً ضرورة إجراء التقييم والمراجعات العامة التي هي من بديهيات الدول الصناعية المتقدمة التي تعتمد على الطبقة الوسطى كقوة اقتصادية مستهلكة ومنتجة.
وحول هذه النقطة بالتحديد أوضح الدكتور إبراهيم في دردشة مع «الاقتصادية» على هامش الجلسة الحوارية أهمية موقع الطبقة الوسطى في سورية وغير سورية، ودورها في الاقتصاد بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة، وقال: في كل دول الشمال (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، وأوروبا، واليابان) الطبقة الوسطى هي عماد الاقتصادات المتقدمة على الإطلاق ودون استثناء، لأنها أكبر الشرائح والفئات المستهلكة في هذه المجتمعات، ففي أميركا تعادل من 40 إلى 50 مليون شخص، إذاً هي الحامل الاجتماعي للاقتصاد من حيث الاستهلاك والإنتاج – الاستهلاك أكثر – فالأغلبية الساحقة من المنتجين في العالم هم من الطبقة الوسطى وليسوا من الطبقة الثرية ولا من الطبقة الفقيرة، فالطبقة الوسطى تجمع ما بين كونها أكبر طبقة تنتج (صاحبة مصانع) وتستهلك، وهي عماد الاقتصادات المتقدمة من دون استثناء؛ فمن باب أولى أن تكون هذه الطبقة الاجتماعية حاصلة على ما يسد رمقها وحاجاتها في أي اقتصاد أو في أي دولة، لأنها «إذا تأثرت سلباً فعلى الاقتصاديات السلام»، مشدداً على أن بناء طبقة وسطى واسعة هو حاجة اقتصادية.
وكان الدكتور إبراهيم تحدث في مداخلته عن أهمية الجانب الاجتماعي في بناء السياسات الاقتصادية، وقال: يجب أن يستفيد من أي إجراء اقتصادي أفقر وأبسط مواطن والأقل دخلاً، عندها يمكن القول إن السياسة ناجحة أم غير ناجحة، فإذا لم يستفد منها المواطن فهي ليست سياسة اقتصادية ولا إستراتيجيات، والسؤال هل نهدف إلى مؤشرات اقتصادية إيجابية بحد ذاتها أم نريد أن يكون لها أثر على المواطن؟ فما الفائدة إذا وفرت الحكومة وقلصت عجز الموازنة والدين العام لكن الأسعار ارتفعت وتردى الوضع المعيشي للمواطن؟
وعلى هامش الندوة أيضاً وبمناقشة أجرتها «الاقتصادية» مع الدكتور خضور رد على سؤال حول الأولويات التي يجب أن تكون في السياسات الاقتصادية بمستوياتها الأربع؟ بأن كل السياسات مرتبطة ببعضها، لكن الأولوية في كل منها يجب أن تنطلق من المشاكل الموجودة، وأوضح أنه في السياسة العامة من الضرورة البحث في كيفية إعادة توزيع الدخل القومي من خلال الأدوات الموجودة حيث «التفاوت المرعب وكان السبب الأول لهجرة الشباب».
وعن كيفية توطين رأس المال البشري، لفت د. خضور أن أخطر ما نقوم به أننا نؤهل إلى الخارج، فنحن نتكلف على تأهيل الشباب ليصبح جاهزاً ومن ثم يستفيد منه الخارج، وهذه كارثة، فلو كان الشباب السوري قادراً على تأمين دخل يوفر له حياة كريمة هنا لا يفكر بالسفر، مشدداً على أهمية الاهتمام برأس المال البشري عبر التأهيل والتدريب والصحة وشبكات الأمان الاجتماعي كي يعمل داخل البلاد، وأن كل ما يقال عما يأتي من تحويلات لا يقارن بالخسائر، فهي تكّون عائداً، لكن لا يمكن أبداً التعويل عليها، لافتاً إلى ما تقوم به البلدان الأخرى من استقطاب للسوريين لأنهم قوة عمل شابة مؤهلة ومدربة، حيث 33 بالمئة من السوريين في ألمانيا يحملون شهادة جامعية وما فوق بعكس كل الجاليات الأخرى الموجودة هناك.