طبيعي عندما تكون جهود الجهاز المركزي للرقابة المالية أكثر عمقاً وكفاءة في مواجهة ومكافحة قضايا الفساد والحد من انتشارها، وبكل احترافية عالية ونزاهة وتطبيق للأسس الناظمة، سينعكس ذلك إيجاباً على مخرجاتها في حماية المال العام، واستعادة الحقوق الحكومية التي تشوبها أحياناً شوائب الفساد والإهمال!
للجهاز المالي دور مهم وفعال في مكافحة كل أنواع الاعوجاج في ميزانيات وصرفيات كل الدوائر والمؤسسات العامة، قوة مستمدة من القانون الناظم لتحييد أموال الدولة قدر الإمكان بعيداً عن أيدي العابثين والمتلاعبين، وتوجيهها لأهداف محددة جاءت من أجلها، على أن تكشف كل المؤسسات والإدارات أوراقها وتقاريرها بهدف منع التلاعبات والتجاوزات في صرفيات الأموال، والطلب إلى تقديم أي متجاوز للعدالة بغض النظر عن المكانة «مدير مدعوم» أو «مسؤول ما»، وذلك للجم أي اعوجاجات وتصحيحها..هكذا يجب وهكذا هو الدور المنوط به.!
وهنا السؤال: هل ما كشفه الجهاز المالي من تجاوزات وانحرافات مالية كبير جداً…؟ أم مازال الجهاز لحد الآن يعمل وفق مبدأ «الحبية» وغض البصر عن بعض المسائل والسكوت عن بعضها الآخر..؟! بمعنى أكثر وضوحاً..هل يمارس عليه نوع ما من الضغوط تكبله وتمنعه من أن يشير للأخطاء والتجاوزات بوقتها مثلاً..؟!
وإذا كان يعمل بكل جدية، وهنا لسنا «بوارد التشكيك» وبعيداً عن أي ضغوطات وتحت أي من التسميات.. فلماذا نسمع ونفاجأ بين الحين والآخر بطبخة فساد «بايتة» بجهة ما أو بوزارة ما..؟
من هنا جاءت أهمية توجيه رئيس الحكومة لأعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية أهمية العمل الرقابي والتفتيشي من منطلق الحرص على الالتزام بحسن إدارة المال العام وكفاءة إنفاقه ووضع حد لأي تجاوزات مقصودة أو غير مقصودة قد تحدث، وهذا يحتم على الجهاز المالي مسؤوليات كبيرة تفرض استخدام كامل الإمكانيات الممنوحة ليقوم بدوره بالشكل الأمثل في ضبط المالية العامة وضبط السلوك المالي لمؤسسات وأجهزة الدولة وطريقة الإنفاق، وتصويب الرقابة على كفاءة الإنفاق وجودته وأولويته، وتنفيذ المهام والمسؤوليات من أجل ضمان عدم استغلال الظروف الاستثنائية لتمرير أي سلوكيات أو انحرافات تترافق بفساد أو بشبهات فساد تضر بالمال العام.
المأمول اليوم أن يمارس الجهاز المالي دوره وبدقة عالية، يستخدم كل صلاحياته وسلطته لكشف أي تلاعبات مالية وما أكثرها، ويشير للتجاوزات أينما كانت ورأس من ستطول.. تمويه بعض المسائل والتغاضي عن تجاوز أو تقصير لم يعد مبرراً.. وهذا مطلب عام.
دول كثيرة كانت تعاني من وخم الفساد، لكن استطاعت مكافحته ونجحت عبر نشر ثقافة النزاهة التي نحتاجها، ولتحقيق متطلبات النزاهة، وتحويلها إلى ثقافة عامة تحكم المجتمع وهو أمر لا يمكن الوصول له إلا من خلال جهود الرقابة المالية وغيرها من الجهات المعنية بالرقابة والمحاسبة في مكافحة الفساد أولاً، ثم تعزيز الحوكمة، وتصحيح علاقة المسؤولين والموظفين بجهات عملهم ومسؤولياتهم وحدود صلاحياتهم، ونشر ثقافة النزاهة في المجتمع، ومنظومة التعليم وبما يسهم في بناء جيل جديد يؤمن بضرورتها في التعاملات المالية والإدارية والعلاقات الإنسانية.
ظهور قضايا فساد في جهات حكومية بأشكال وألوان متنوعة يزيد من تحديات نشر ثقافة النزاهة، كما أنه يطرح تساؤلاً حول قدرة الفساد على التغلغل العمودي والأفقي، وبما يسهم في خلق شبكة منظمة قادرة على تجاوز حدود منظومة العمل الرئيسة إلى منظومات أخرى، تحقيقاً لأهدافها الخاصة المتعارضة مع الأنظمة والقوانين. عدوى الفساد من معوقات النزاهة، ويفترض ألا تحدث مع وجود الأنظمة الشفافة، والرقابة المشددة الواجب تطبيقها، والحزم والمساءلة والبحث الدقيق، الذي يفترض أن يعطي صك النزاهة المطلوبة لتحمل المسؤوليات الجسام.
نشر ثقافة النزاهة هو الهدف الواجب الوصول إليه، وبما يحد من عمليات الفساد، وهو هدف يحتاج إلى كثير من العمل الإستراتيجي بدءاً من التعليم بمراحله المختلفة، مروراً بالمجتمع الذي يقع عليه العبء الأكبر في نبذ الفاسدين لا الاحتفاء بهم، والإبلاغ عنهم وعن المخالفات بأنواعها، إضافة إلى الإعلام بوسائله الحديثة والتقليدية، والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني. توحيد الجهود لمحاربة الفساد ونبذ الفاسدين هو القاعدة التي تنطلق منها ثقافة النزاهة، فهل سنعمل وفق هذه القواعد..؟!!