هل يوجد فقر أبيض وفقر أسود ؟.. لا يوجد بيت في سورية إلا ولديه إمكانية إنجاز مشروع صغير ناجح.. الحكومة تركز على التنظيم والاستراتيجية والاستدامة.. وجوب تماشي خريطة استثمارها مع خريطة المشاريع الكبرى
|شادية إسبر
تحت دائرة الضوء الحكومي فُتحت مجدداً ملفات تتعلق باستراتيجية تنمية المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وبشكل معمق نوقش الدور المطلوب من الهيئة المعنية ومسارات العمل المنوطة بها وبالشركاء الوطنيين كافة، حيث رأى بعض المشاركين في الاجتماع الذي ترأسه رئيس مجلس الوزراء الدكتور محمد غازي الجلالي يوم الأحد 27/10/2024 لفريق العمل الحكومي المعني باستراتيجية تنمية هذه المشروعات، أن دور الهيئة يجب أن يدخل في تفاصيل المشروعات بدءاً من الإعلان عن المشروع والترخيص وصولاً إلى التنفيذ، باعتبار أن لديها أدوات فاعلة (الفروع في المحافظات).
وفق الخبر لم يكن هذا الرأي محط اتفاق الجميع، حيث وجهة نظر البعض أن ينحصر دور الهيئة في الإطار الإشرافي التوجيهي من دون الدخول في تفاصيل المشاريع، ولاسيما أن الحكومة تنظر إلى هذه المؤسسة برؤية جديدة توصّف دورها ومهامها بدقة.
دور الحكومة
تؤكد الحكومة استعدادها لتقديم كل ما يلزم لتنظيم هذا القطاع وتنشيطه والتوسع به، وترى دورها في توفير الضوابط وخلق البيئة المساعدة والمحفّزة بحيث تكون هذه المشروعات قادرة على الاستمرار والتطور وتحقيق الهدف منها في توفير مردود مادي جيد لأصحابها وتأمين المزيد من فرص العمل، والمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني الكلي، بمعنى يُراد لها التطور والتوسع، مع ملاحظة أهمية تشجيع خريجي الجامعات على إطلاق مشاريعهم واتخاذ إجراءات محددة لإنجاحها كالمعارض للترويج والتسويق داخلياً أو للتصدير، بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات ووضوح آليات التمويل.
الخطوات المنجزة والآليات المناسبة للخروج برؤية متكاملة وواضحة لتنظيم هذا القطاع باعتباره نواة أساسية لتطوير وتعزيز الاقتصاد الوطني، أخذت حيزاً كبيراً من النقاشات، وكان في الأهم ضرورة تجاوز حالة الفوضى المؤسسية والتنظيمية التي يعيشها، فكيف سيتم تنظيمه وتنسيق الجهود؟ وما ضوابط ومعايير الدعم والجذب؟ وما المطلوب للاستمرارية والتوسع؟ وكيف نترجم كل هذا إلى عمل فعلي على أرض الواقع يعطي هذا القطاع حقه ليأخذ دوره؟
منظومة دعم واستكشاف
لنجعل أصحاب المشاريع قادرين على الإلمام بريادة الأعمال، نحن اليوم بحاجة إلى منظومة دعم على مستوى سورية من خلال استراتيجية كاملة، تنبثق عنها في النهاية حاضنات ومسرّعات الأعمال ومراكز الابتكار والإبداع والحدائق المعرفية، وفق رؤية المستشار والباحث الاقتصادي الدكتور عامر خربوطلي، الذي لفت إلى أننا نشهد جهوداً كبيرة جداً لإنتاج هذا الشيء، كي يستفيد منها أصحاب المشاريع من خلال الدورات أو التدريب عن طريق الفعل والدخول مباشرة للتشبيك مع خبرات العمل ومع المنظمات الداعمة للأعمال، وفي النهاية نجاح المشروع يحتاج إلى بيئة ودعم ومتابعة.
في استكشاف مجالات الاستثمار، يوضح خربوطلي الحاجة لخريطة تتماشى مع مجالات وخريطة الاستثمار للمشاريع الكبرى وتكون داعمة لها، وبالوقت ذاته لديها خصوصية معينة، حيث كل منطقة في سورية لها خصائص يمكن التركيز عليها بعد دراستها ومعرفة مراكز القوة فيها، والإمكانيات المالية والمادية والبشرية، مشدداً على أهمية إدخال التحول الرقمي والبرمجيات والتقانات الجديدة التكنولوجية والقطاعية التي تعطي قيماً مضافة كبيرة، يحتاجها الاقتصاد السوري اليوم في كل القطاعات.
يشير الدكتور خربوطلي وهو محاضر ومدرب في مواضيع ريادة الأعمال والمشروعات الصغيرة ودراسات الجدوى في عدد من الجامعات، إلى أهمية النظر إلى الجامعات التي لها طابع مهني، كالهندسات والاقتصاد بفروعه والزراعة والصيدلة وغيرها التي يمكن أن تتحول أبحاثها إلى مشاريع، وفي حال جرى التركيز على هذه النقطة يمكن أن تعطي نتائج كبيرة جداً، وفرصة لتكوين هؤلاء الطلاب مشاريعهم الحرة الخاصة، بحيث لا يكونون عبئاً على عمليات التوظيف، كما أنها تقوي السوق المحلية وتربط شريحة الشباب الطلابية بالاقتصاد الوطني وبالمجتمع وتخفف من حالات السفر.
تشكل 97 بالمئة
من مشاريع القطاع الخاص
مؤسس مبادرة «المشاريع الأسرية التنموية السورية» الخبير التنموي أكرم عفيف تحفّظ على التسمية المتداولة، مشدداً على أن تسميها الأنسب «المشاريع الأسرية»، وقال: يمكننا تغيير واقع سورية الاقتصادي إلى أفضل حال، و«إذا» هي المفتاح، بمعنى إذا استطعنا زج طاقات وإمكانات وإبداعات وأفكار وعلوم واختراعات وقيم السوريين في عملية تنموية شاملة.
ولتحقيق ذلك نحتاج إلى إطار والإطار الجامع هو الأسرة السورية، يؤكد عفيف، وبتعريف واقعي نجد أن كل الأسر السورية منتجة بشكل أو بآخر، لكن هناك من ينتج بشكل احترافي وآخر بأقل احترافية، لذا كان التوجه إلى الإنتاج بشكل احترافي وبدأت فكرة «مجموعة المشاريع الأسرية السورية».
يوضح عفيف سبب إصراره على تسميته «مشروع أسري» وليس مشروعاً صغيراً بأنه لا يحتاج إلى يد عاملة، فهو يستثمر الجهد الضائع للأسرة، كما لا يحتاج تكاليف إضافية من كهرباء ومياه واتصالات وغيرها، لأن المشروع في المنزل، ويمكن التحكم بوقت العمل حيث باستطاعة صاحب المشروع الإنتاج بأي وقت حتى ليلاً.
المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وإذا أضفنا إليها متناهية الصغر، تشكل اليوم بحدود 97 بالمئة من مشاريع القطاع الخاص السوري، لفت الدكتور خربوطلي وأضاف: هي بالتأكيد مهمة جداً ومن نسيج المجتمع السوري الذي يرغب بمشاريع ليست على مستوى شركات مساهمة كبرى أو شركات تضم صناعات كبيرة، وهذه المشاريع فعلياً تدعم الاقتصاد ومطلوب منها أكثر من خلال مساهمتها بالتشغيل، بالاستثمار، بالقيمة المضافة، بالناتج المحلي، وبالاستهلاك ودعم المبادرة والعوامل التي تؤدي للنمو، وكلما ازدادت هذه المشاريع وتناولت كل القطاعات تسهم بشكل أكبر بالناتج المحلي.
ما القطاعات ذات الأولوية؟
الاقتصاد السوري له طبيعة زراعية نوعاً ما، وأيضاً زراعية صناعية تجارية، وهذا تركيب الناتج المحلي السوري، وفق الدكتور خربوطي: نحن بحاجة إلى مشاريع في قطاعات تخلق قيماً مضافة أكبر، وإذا أدخلنا التقانات والبرمجيات والمعلوماتية مع القطاعات التقليدية تعطي نتائج هائلة وقيماً مضافة كبيرة، ونحن بالتحديد بحاجة إلى هذا الشيء.
من جانبه قال عفيف: لدينا ما بين 4،5 إلى 5 ملايين أسرة سورية، معظمهم يعاني حالات العوز والفقر، فإذا استهدفنا مليوني أسرة بين ريف ومدينة وقمنا بتحويلهم إلى منتجين، وأنتجت الأسرة ما يعادل 10 أطنان في السنة، يعني إنتاج 20 مليار كيلو غرام، وهي كمية تطعم سكان الكرة الأرضية بمعدل 3 كيلو غرامات لكل شخص، وهذا الشيء غير متاح إلا في سورية لأنها بلد منتج وأرضها خيّرة.
الخبير التنموي يرى أن ما يجعل المشروع الأسري أو «متناهي الصغر» ناجحاً عوامل أبرزها قيم السوريين وملكاتهم، حيث لا يوجد بيت في سورية إلا وفيه شهادة جامعية، ما يجعل أي مشروع قصة نجاح بحد ذاته، إضافة للموارد المتوافرة في الأرض السورية المملوءة بالخيرات، فإذا أضفنا إلى كل هذه المقومات عملية إنتاجية نشكل حاضنة رائعة.
بين الواقع والمأمول
يقول الباحث الاقتصادي خربوطلي: عملياً نحتاج إلى منظومة كاملة أو استراتيجية للدعم بأهداف واضحة وبرامج ومشاريع تؤدي إلى وضع هذا القطاع ضمن بيئة عمل ناجحة جاذبة للشباب، ومن المهم العمل على البيئة والتسهيلات من ناحية الترخيص، وممارسة الأعمال، السجلات، سهولة العمل يكون من ضمن البيت أحياناً، حيث توجد مشاريع كثيرة بالتقانة والأعمال الفكرية يمكن ممارستها من المنزل كتطبيقات الموبايل، المنصات، المواقع، الصفحات، وهذه يمكن أن تكون ضمن استهداف الشريحة الشبابية.
بينما يؤكد الخبير التنموي عفيف أن كل المشاريع الأسرية السورية غائبة عن الخريطة الاستثمارية، لذا نحتاج إلى تغيير العقلية وتطوير أبسط الأفكار والمنتجات وتعديلها والعمل عليها وصولاً إلى النجاح وتحقيق الكفاية، ليكون هذا الموضوع جاذباً وقادراً على تشغيل أعداد كبيرة من الشباب أو الأسر وتحويل المعوزة منها إلى منتجة.
ولضمان الاستمرار يؤكد عفيف وجوب ضبط الجودة لتكون منافسة ولإعطائها هوية منتج وتسويقها في أسواق مناسبة، لافتاً إلى أن أحد الفروق الأساسية بين الاقتصادي والتنموي أن الاقتصادي يرى في الفقر كارثة، بينما التنموي يرى فيه فرصة، حيث لا شيء يدفع للعمل كالفقر وخاصة أن فقر السوريين أبيض.
التمويل والإجراءات
يفترض إدخال منظومة التمويل من خلال الفكرة أو دراسة الجدوى الحقيقية على أرض الواقع أكثر من الضمانات العقارية التي تشكل اليوم عبئاً وخصوصاً على الشريحة الشبابية وهم غير قادرين على تأمينها وفق رؤية خربوطلي، حيث في تبسيط الإجراءات نحتاج إلى تفعيل الدور التنموي للإدارات والسلطات المحلية، وكلما بسطنا الإجراءات وكانت هي عبارة عن علم وخبرة بما يتناسب مع البيئة المحلية ومع الخريطة الاستثمارية حققت هذه المشاريع نجاحاً، وبالنهاية يفترض أن تكون الإجراءات سهلة واضحة غير مكلفة، وأن يكون هناك ربط بين الإدارات المحلية على مستوى كل المناطق.
في أهمية تبسيط الإجراءات يقول عفيف: على الوحدات الإدارية تسهيل التراخيص والتدريب ومواءمة المشروع وضبط الجودة.. بمعنى عليها العمل على مبدأ المكاملة، وليس على مبدأ شرطي ومجرم، مشدداً على ضرورة تغيير عقلية صانع القرار في التعامل مع هذه المشاريع الأسرية.