هل التشاركية هي خصخصة مستترة؟.. لا يمكن أن تنجح التشاركية من دون الالتزام بالشفافية وتكافؤ الفرص القطاع الخاص يساهم بـ70 بالمئة بالاقتصاد السوري
| غزل إبراهيم
أثار مصطلح التشاركية الاقتصادية الكثير من النقاش والجدل في سورية على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، وتباينت الآراء وتضاربت التوجهات الفكرية حول ذلك منذ طرح هذا المفهوم للمرة الأولى عام 2003 وصولاً إلى انتهاج مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي 2005، مروراً بالمؤتمر الأول للتشاركية 2009، وصولاً إلى الحرب على سورية ونتائجها الكارثية، ومرحلة إعادة الإعمار والبناء ومتطلباتها.
واليوم في ظل التوجه الحكومي نحو التشاركية مع القطاع الخاص ومنحه فرصة حقيقية لإنقاذ الاقتصاد المتعثر، تبقى المخاوف قائمة من تمرير مجلس التشاركية لأي من المشروعات التي يمكن أن تتحول إلى خصخصة، على اعتباره المسؤول عن ذلك، ولهذا نجد من الضرورة بمكان خضوع قرارات مجلس التشاركية إلى رقابة السلطة التشريعية.
التشاركية والخصخصة
هناك فرق كبير بين المصطلحين، فالتشاركية هي قيام القطاع الخاص بإبرام علاقة تعاقدية لمدة زمنية متفق عليها مسبقاً مع جهة عامة حكومية، يقوم بموجبها الشريك الخاص بالاستثمار في تصميم أو إنشاء أو بناء أو تنفيذ أو صيانة أو إعادة تأهيل أو تطوير أو إدارة أو تشكيل مرفق عام أو مشروع لدى الجهة العامة، بهدف المساهمة في تقديم خدمة عامة أو أي خدمة توفر المصلحة العامة المباشرة.
في حين أن الخصخصة تعني نقل ملكية أصول من القطاع العام إلى القطاع الخاص بشكل مباشر ونهائي، وهذا ما لا يسمح به قانون التشاركية ولا الدستور.
ولتجنب الخلط بين المصطلحين والتفريق بينهما استطاع المشرع أن يفرض بعض القيود على تشاركية القطاع الخاص والتي ترتبط بالحكومة مباشرةً من خلال فرضه سلطة (مجلس التشاركية) والذي يعد السلطة العليا فيما يتعلق بشؤون التشاركية، وبالتالي أعاد هذا القانون السلطة والتحكم وفرض السياسات من خلال هذا المجلس وبتركيبته الحكومية، بل على العكس استطاع أن يحسن من واردات الدولة من المبالغ التي سوف يدفعها القطاع الخاص.
بالتالي وفقاً للخبير الاقتصادي والإداري الدكتور فادي عياش: لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار التشاركية شكلاً من أشكال الخصخصة المستترة، لأنها تضمن حق الملكية الجماعية، أي ملكية الشعب من خلال الدولة من جهة، واتخذت الصيغ القانونية اللازمة لمنع أي تجاوز من خلال مجلس التشاركية من جهة ثانية.
التشاركية والشراكة والقطاع المشترك
التشاركية أيضاً لا تعني الشراكة، وهذه نقطة مهمة، لأن معظم الانتقادات لقانون التشاركية كانت تخلط بين مفهوم التشاركية من جهة، وبين مفاهيم الشراكة أو المشاركة أو القطاع المشترك من جهة ثانية، على اعتبار أن لهذه الأشكال قوانين متاحة للتطبيق، ولا تحتاج لقانون التشاركية.
فالشراكة تقوم على المشاركة بين القطاعين العام والخاص، من خلال المساهمة في رأس المال وتنفيذ المشروع وتقاسم إدارته ونتائجه، بينما التشاركية تقوم على الاستفادة من إمكانات القطاع الخاص لإنشاء وتشغيل المشاريع المقترحة من دون المساهمة في رأس المال أو الإدارة.
من جانب آخر تستهدف التشاركية جذب الاستثمار الأجنبي (القطاع الخاص الخارجي) بينما الشراكة تعتمد على القطاع الخاص المحلي بشكل أكبر.
ويتعلق مفهوم الشراكة بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة ومشاريع الخدمات، بينما يرتبط مفهوم التشاركية بالمشاريع الكبيرة ومشاريع البنى الأساسية والبنى التحتية، وهذا بحد ذاته أحد المآخذ على قانون التشاركية على اعتبار البنى التحتية والخدمات المرتبطة بها وإدارتها تعتبر من مقومات السيادة للدولة، وبالتالي لا يجوز التضحية بهذه السيادة لمصلحة القطاع الخاص سواء المحلي أم الخارجي.
ويؤكد عياش أن التشاركية لا تتعارض مع مفهوم السيادة لأنها تحافظ على رقابة الدولة على حسن التنفيذ والاستثمار، وتضمن عودة الأصول إليها جاهزة للاستثمار بانتهاء مدة الاستثمار.
أما من الجانب القانوني، فإن مشاريع الشراكة والقطاع المشترك تخضع للقوانين المحلية أما مشاريع التشاركية فغالباً تعتمد مبدأ التحكيم، ولاسيما عندما يكون المستثمر أجنبياً.
أهلية وكفاءة القطاع الخاص
ساهم القطاع الخاص المحلي قبل الحرب بقرابة 70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في سورية، وهيمن بشكل تام تقريباً على القطاع الزراعي وقطاع الخدمات وقطاع الصناعات التحويلية.
أما فيما يتعلق بالقطاع الخاص الخارجي، فمن المعروف أن أحد أهم حوامل التنمية وروافع النمو الاقتصادي هو الاستثمار الأجنبي، وهو يعتبر أحد أهم معايير جاذبية وتنافسية الاقتصاد سواء في البلدان المتقدمة أم النامية، وحتى المتخلفة حسب رؤية عياش.
ومن المعروف أن القطاع الخاص يمتلك المؤهلات البشرية والمرونة الإدارية والتقنيات المتطورة والأساليب الحديثة في تصميم وتنفيذ مشاريعه بما يفوق إمكانات العديد من الدول حتى المتقدمة منها، وبالتالي لا نجد في التشكيك بمدى أهلية وكفاءة القطاع الخاص أي معنى.
أما المخاوف المتعلقة بتوجهات القطاع الخاص، فنجد أن المشرع ومن خلال مجلس التشاركية قادر على توجيه القطاع الخاص المحلي والخارجي إلى القطاعات المطلوبة والتحكم بذلك، مع أهمية تأكيد ضرورة تحديد أولويات تنموية وتوجيه كل الإمكانات الاستثمارية إليها وتهيئة البيئة الاستثمارية التفضيلية لها، ولا سيما في مجال البنى التحتية والقطاعات الإنتاجية للإنتاج السلعي المادي الحقيقي.
توزيع الأدوار
ويؤكد عياش أن هناك قطاعات لا يجب على القطاع العام الخوض فيها كالصناعات التحويلية الصغيرة، والصناعات المتأثرة بتغيرات الأذواق السريع كالألبسة والأحذية وما شابه ذلك، بل التركيز على الخدمات الحكومية والقطاعات الاستراتيجية، ولا سيما مشاريع البنى التحتية والخدمات الضرورية كالصحة والتعليم، والقطاعات الاستراتيجية كالطاقة والمياه، وهذه القطاعات الاستراتيجية حكر على القطاع العام، لكن يمكن وضمن شروط محددة بدقة السماح في التشاركية فيها كشكل من أشكال الاستفادة من المزايا والقدرات المتاحة للقطاع الخاص، لكن بكل تأكيد من دون السماح له بالعمل فيها منفرداً، كأن يسمح للقطاع الخاص العمل وفق التشاركية على إنتاج الطاقة من دون السماح له بتوزيعها على اعتبار أن عملية التوزيع تتضمن أبعاداً اجتماعية وسياسية وأهدافاً تنموية وطنية.
ضرورات التشاركية
تعبئة واستثمار جميع الطاقات والموارد والإمكانات المتاحة وحشدها بشكل فعال لتحقيق التعافي الاقتصادي ولخدمة مرحلة التعافي وإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المتوازنة للمجتمع، والمساهمة في تأمين التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار والبناء، حيث لا تكفي مصادر التمويل المحلية (عام وخاص مقيم ومغترب)، بما يساعد الدولة على عدم الاقتراض الخارجي إلا بالحدود الآمنة ومن دون اللجوء إلى المؤسسات المالية الدولية المسيسة.
إضافة إلى الاستفادة من قدرة القطاع الخاص المحلي والخارجي على نقل وتوطين التكنولوجيا المتطورة وتعزيز المحتوى المعرفي من خلال استثمار أرقى التقنيات في تنفيذ مشاريع التشاركية، وتعتبر التشاركية عامل تشجيع وجذب فعال للاستثمار الأجنبي والاستفادة من قدراته التمويلية والتكنولوجية والمعرفية.
كما قد تساهم مشاريع التشاركية مع الرساميل الخارجية بالالتفاف على الإجراءات الاقتصادية أحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري حسب عياش.
لذا فإن رؤية القانون رقم 5 للتشاركية تهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يبرز دور الدولة في اتخاذ القرار ورسم السياسات، أما دور القطاع الخاص فيبرز في تنفيذ المشاريع والمشاركة في أدائها بناء على فكرة عدم كفاءة تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية إذا ما اقتصرت على أي من الدولة وأجهزتها فقط، أو القطاع الخاص بشكل منفرد.
مرحلة جديدة
في التشاركية يصبح القطاع الخاص شريكاً أساسياً في تحقيق التنمية، ويشير هنا عياش إلى أن التجارب أثبتت أنه بالتشاركية تمتلك الدولة قاعدة اقتصادية قوية ومتينة تكون أكثر قدرة على تحمّل الصعوبات وتجاوز الأزمات، وهي مرحلة جديدة في تاريخ الاقتصاد السوري بعد أن تصبح جميع المجالات مفتوحة للاستثمار بما فيها قطاعات سيادية (وهذا من أهم المآخذ على قانون التشاركية)، كالماء والكهرباء والنفط والغاز، وسيفتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص للحصول على قروض من المصارف العامة لتمويل مشاريعهم التشاركية، ويحقق مشروع قانون التشاركية انطلاقة في سورية إلى فضاءات التنمية والبناء والإعمار، بما يحقق تأمين الموارد ومعالجة البطالة والحدّ من المديونية وترميم البعد الاجتماعي، وتنمية الأرياف وإطلاق المشاريع السورية المتنوعة.
وهناك حاجة لرفع مستوى البنى التحتية الاستراتيجية في سورية، (وتحديداً الكهرباء والنقل والمرافق البلدية) من أجل دعم التنمية الاقتصادية الشاملة، كما أن ضخامة حجم مشروعات البنى التحتية من حيث التكلفة، وبشكل يفوق ما هو مخصّص للإنفاق الاستثماري في الموازنة العامة للدولة، وعدم رغبة الحكومة في الاقتراض الخارجي المكثّف لتمويل المشروعات الكبرى لما لذلك من آثار وتبعات سلبية.
التجارب الحالية غير مرضية
نهج التشاركية هو الأنسب في حالتنا والأقدر على المساعدة في سرعة التعافي، ولكن معظم تجارب التشاركية المطبقة حالياً غير مرضية تماماً، وحولها الكثير من الملاحظات، وهنا ينصح عياش بالاعتماد على مفهوم التشاركية المحلية كلما أمكن ذلك، من خلال تطبيق مفاهيم الشركات المساهمة العامة بمختلف أشكالها، والتي يمكنها حشد الإمكانات والموارد المتاحة لمكونات المجتمع كافة، وبالتالي تأمين التمويل المناسب والقيام بالمشاريع ذات الطابع المحلي على الأقل و بمساهمة القطاعات كافة.
ولكون التشاركية مرتبطة باحتياجات ومتطلبات وضرورات سورية، فهي قد تكون مفتوحة على نماذج من العقود المبتكرة غير المسبوقة، وهذا بحد ذاته يتطلب تدقيقاً ودراية كاملة بما نريده ووسائل الوصول إليها من دون أن يكون على حساب عقود من المكتسبات، نأمل ألا نجد أنفسنا في محشر الضرورات التي تبيح المحظورات، وهنا يتساءل عياش حول مبدأ «التشغيل لمصلحة الغير» الذي وقعته وزارة الصناعة مع الخاص، في أي خانة يصنف؟!
ومن اشتراطات نجاح التشاركية، استبعادها من كل القطاعات التي ترتبط بالمواطن بشكل مباشر، كأن تطبق على إنتاج الطاقة كالكهرباء مثلاً، ولكن يبقى توزيع الطاقة حكراً للقطاع العام، لأنه يتضمن مفاهيم وأعباء اجتماعية لا يهتم لها القطاع الخاص، و استبعادها عن جميع القطاعات السيادية ذات التأثير في مفهوم الأمن الوطني، والتي يجب أن تبقى بيد الدولة، إضافة إلى حصرها في مشاريع البنى التحتية والإنتاجية، وليس الريعية، لتحقيق المساهمة المرجوة في التعافي والتنمية.
مخاطر ومحاذير التشاركية
ما سبق لا ينفي وجود مخاطر لهذه التشاركية مثل فقدان السيطرة من جانب ممثلي القطاع العام على مجريات العمل، وزيادة التكاليف، والمخاطر السياسية، وضعف مستوى المراقبة والمساءلة، والإنتاج غير المطابق للمواصفات والمقاييس، وضعف مستوى التنافس بين الشركاء، والتحيز في اختيار الشركاء، ورفض المجتمع للمشروع، إضافة إلى تعدد الموافقات والتراخيص اللازمة بشكل مبالغ فيه، وضعف الوعي العام بأهمية ومزايا المشاركة الخاصة في تمويل وتطوير وتشغيل مثل هذه المشروعات وما لها من آثار إيجابية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف الوعي العام بالأشكال المختلفة للمشاركة الخاصة في مثل هذه المشروعات والاعتقاد السائد لدى العامة بأن المشاركة الخاصة تقتصر فقط على الخصخصة، ووجود فرصة للتنافس بين الشركاء الخاصين المحتملين ما يقلل تكلفة تقديم الخدمات العامة، ومشاركة القطاع الخاص في الخدمات تتيح فرصة الابتكار والاختراع وتوطين التكنولوجيا وتعزيز المحتوى المعرفي.
بيئة قانونية مناسبة
وهنا يوضح عياش أهم النقاط التي يجب الحذر منها عند تطبيق التشاركية ومنها قلة الخبرة في التعامل مع عقود التشاركية شديدة التعقيد، ولا سيما التي تتضمن مخاطر الخصخصة مثل عقود BOO – ROO – DBFO مثلاً، والعقود ذات الصيغ الدولية وما يمكن أن يؤدي ذلك من نتائج سلبية، ومخاطر عدم التزام المستثمر الخاص بالشروط التعاقدية، ما يؤدي إلى توقف المشروع وخسارة الوقت والخدمة، والمخاطر المرتبطة بمفهوم السيادة الوطنية ولا سيما فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي.
وهنا نحن بحاجة إلى بيئة عمل مناسبة تشريعياً، فلا يمكن أن تنجح التشاركية من دون تطبيق مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص.