العناوين الرئيسيةشؤون محلية

هوية الاقتصاد السوري.. الآن خليط غير معروف والمستقبل مجهول حتى اللحظة!… المطلوب اقتصاد يتقن الإنتاج… أكاديميون لـ«الاقتصادية»: يتطلب وعياً اقتصادياً وقوننة اقتصاد السوق واستقلالية السلطات النقدية وفعالية السياسات المالية

| أمير حقوق

في ظل ما يعانيه الاقتصاد السوري من تخبطات ومعوقات وتحديات، وعدم تحديد هوية واضحة له ترسم معالمه وتحدد ماهية عمله، يزيد طلب الأكاديميين والمختصين والخبراء بتحديد هوية الاقتصاد واتباع اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يسعف الواقع الاقتصادي الحالي، لأنه هو الحل الأمثل بحسبهم.
«الاقتصادية» طرحت ملف «اقتصاد السوق الاجتماعي» لتحديد مفهومه وماهيته، ومعرفة ميزاته وخصائصه التي تميزه عن غيره ومتطلباته لاعتماده وكيفية إسعافه الواقع الاقتصادي الحالي.

د. علي ميا
د. علي ميا

قراءة في الاقتصاد الحالي
إن الاقتصاد السوري هو اقتصاد تعددي مختلط يعمل فيه القطاع الخاص والمشترك جنباً إلى جنب مع القطاع العام، وبنفس المزايا والتسهيلات، وقد شهد منذ فترة التسعينيات وحتى بداية الأزمة عام ٢٠١١ نمواً كبيراً، غير أن الحرب الجائرة التي مازالت تشن على سورية منذ نحو ١٣ عاماً ونيف، وما نجم عنها من دمار وتخريب حولته من اقتصاد نام إلى اقتصاد هش وضعيف يعاني اختلالات واضطرابات وتشوهات كبيرة نتيجة الخسائر الكبيرة التي تكبدها، وفق ما أشار إليه عميد كلية الاقتصاد بجامعة تشرين سابقاً الدكتور علي ميا.
ونتيجة لذلك تحول بلدنا من بلد منتج إلى بلد مستورد وأصبح اقتصادنا الوطني في حالة انكماش وركود تضخمي كبير، وبدأ الاقتصاد يتحول من اقتصاد موجه إلى اقتصاد هجين يفتقر إلى هوية واضحة جراء اعتماده على إستراتيجيات وسياسات متضاربة لم تسهم في حماية الاقتصاد الوطني، لأنها كانت مجرد تحركات محدودة أو معالجات وقتية تفتقر إلى إستراتيجية واضحة تحدد الهوية الحقيقية للاقتصاد السوري ومساره المستقبلي تضمن للمستثمر المحلي والأجنبي الأمان لاستثماراته المرجوة، وفقاً للدكتور ميا.

تبني سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي
وانطلاقاً من عدم جدوى سياسات الترقيع في الحد والتخفيف من آثار الاختلالات والتشوهات التي لحقت باقتصادنا الوطني، نتيجة الحرب والحصار الاقتصادي الجائر وعدم وضوح التوجه العام للسياسة الاقتصادية في النمو، فقد أكد السيد الرئيس بشار الأسد في اجتماعه الأخير مع أعضاء اللجنة المركزية للحزب في أيار الماضي صوابية الخيار الذي اعتمده المؤتمر القطري العاشر للحزب عام ٢٠٠٥والذي أعلن تبني سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي، وبذلك يكون سيادته قد حسم النقاش الدائر حول هوية الاقتصاد السوري، منطلقاً من أنه لابد من أجل إعادة ما دمرته الحرب وإنعاش الاقتصاد السوري من الاعتماد على نموذج للتنمية يمزج بين الاقتصادي والاجتماعي، وفق رؤية الدكتور ميا.

صفة اجتماعية ليست ليبرالية
وأكمل شارحاً: أي إن صفة هذا النموذج صفة اجتماعية بالدرجة الأولى وليس صفة ليبرالية جديدة وما تعنيه من سوق حرة منفلتة وسيطرة مطلقة لرأس المال الخاص وما تخلفه من مشاكل اجتماعية وتراجع مستويات الخدمات التي تقدمها الدولة، وخاصة خلال هذه المرحلة الصعبة التي تقتضي وجود الدولة كراعية وضابطة لخلق وتوفير بيئة تشريعية وتنظيمية، لخلق منافسة شريفة ومحفزة لكل رأسمال وطني شريف راغب بالمشاركة الفعالة في بناء بلده وتطويره، بعيداً عن كل ما يعوق النمو الاقتصادي، حيث تتحقق الكفاءة في الإنتاج والعدالة في التوزيع التي ينشدها هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن اقتصاد السوق الاجتماعي لا يهدف بالدرجة الأولى إلى تغليب الجانب الاجتماعي على الجانب الاقتصادي، بل يهدف إلى جعل النمو الاقتصادي في خدمة الهدف الاجتماعي وجعل التقدم الاجتماعي في خدمة النمو الاقتصادي.
تثبيت الدعائم الأساسية
ووفق توصيفه، فإن اقتصاد السوق الاجتماعي هو شكل خاص من أشكال اقتصاد السوق، غير أن الدولة لا تتخلى فيه عن مهامها الاقتصادية والاجتماعية، وإنما تمارس هذا الدور لتوفير البيئة المناسبة لتشجيع القطاع الخاص والمبادرة الذاتية للاستثمار والدخول إلى كل الأنشطة والقطاعات لزيادة وتحسين معدلات النمو الاقتصادي والإسهام في حل المشاكل الاجتماعية، وعليه نرى أن الهدف من تبني نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي خياراً وتوجهاً عاماً للسياسة الاقتصادية للدولة السورية في المرحلة المستقبلية، هو تثبيت الدعائم الأساسية لبناء اقتصاد مستقر قادر على المنافسة وزيادة الإنتاج مع توفير آلية عادلة لإعادة توزيع الثروة والدخول، غير أن تحقيق التوازن بين الجانبين الاجتماعي والاقتصادي ليس بالأمر السهل، بل إنه يحتاج إلى درجة عالية من الوعي الاقتصادي من القيادات الإدارية والاحساس بالمسؤولية الوطنية العالية، لوضع السياسات والبرامج والإجراءات الضامنة إلى عدم السماح بتغليب نزعة الاقتصاد الحر المتوحشة على التطلعات والأهداف الاجتماعية للاقتصاد.

ما متطلباته؟
غير أن الانتقال إلى تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي ليس بالأمر اليسير ولكنه ليس مستحيلاً، إذ إنه يتطلب من المعنيين وأصحاب القرار القيام باتخاذ إجراءات جادة وسريعة لضبط وقوننة اقتصاد السوق القائم حالياً وتنظيمه اجتماعياً، حيث تتحدد فيه حقوق وواجبات كل الفعاليات الاقتصادية على نحو واضح وصريح، وسد كل ثغرات السوق وتحقيق العدالة الاجتماعية، بإعادة توزيع الدخل بما يوفر استمرار النمو وتمكين ذوي الدخول المنخفضة من الانتفاع من برامج الدعم الاجتماعي وتحسين أوضاعهم المعيشية، حسبما ختم الدكتور ميا حديثه لـ«الاقتصادية».

اقتصاد حرب
بدوره، اعتقد عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة ايبلا الخاصة الدكتور صبري حسن

د.صبري حسن
د.صبري حسن

في حديثه لـ«الاقتصادية»، أنه لا توصيف واضح المعالم للاقتصاد السوري الحالي، ولا يمكن لأي اقتصادي أن يحدد نوع الاقتصاد المطبق في سورية اليوم، فلا سياسة نقدية محددة واضحة وفاعلة ولا سياسة مالية محددة واضحة وفاعلة، لذلك يمكن توصيفه بأنه اقتصاد حرب.

معاناة الاقتصاد حالياً
قوضت الحرب المدمرة والمستمرة لـ14 عاماً، وجائحة كورونا عامي 2021 و2022، والزلزال المدمر 2023، آفاق الاقتصاد وفاقمت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية، بناءً على ما سبق يمكننا القول بأن الاقتصاد السوري حالياً يعاني: المعدلات العالية من البطالة والتشرد، وطول أمد الحرب الداخلية العنيفة بكل ما حملته وما زالت تحمله من القتل والتدمير الشامل، ومن الاستنزاف غير المسؤول للموارد الطبيعية، وضياعها بين الجهات المتصارعة، وخاصة القوى الخارجية المنخرطة في الصراع، وأيضاً من استنزاف الاحتياطيات من القطع الأجنبي والتضخم الجامح ومن التدهور الكبير في أسعار صرف الليرة، إضافة إلى الارتفاع الكبير في المستوى العام للأسعار، وانهيار هائل في الدخول الحقيقية، والقدرة الشرائية للأفراد، كما يضاف الزيادة المرعبة في معدلات الفقر التي تجاوزت الـ90 بالمئة، وما لها من نتائج كارثية (اجتماعية، واقتصادية، وسياسية) على المدى البعيد، ومن العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة، والبنية التحتية المدمرة بشكل شبه كامل من شبكات الطرق والجسور وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وأخيراً يعاني الدمار الهائل والمستمر في الغابات الطبيعية والحراجية والأشجار المثمرة، وتلوث المياه والمسطحات المائية، وتلوث التربة وتدمير الأراضي الزراعية نتيجة العمليات الحربية والقنابل والمتفجرات التي انفجرت والتي لم تنفجر، وفقاً للدكتور حسن.
ومفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام اقتصادي يتبنى اقتصاد السوق لكنه يرفض الشكل الرأسمالي المطلق، كما يرفض أيضاً الاشتراكية الثورية، حيث يجمع القبول بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والشركات الخاصة مع ضوابط حكومية تحاول تحقيق منافسة عادلة، وتقليل التضخم، وخفض معدلات البطالة، ووضع معايير لظروف العمل، وتوفير الخدمات الاجتماعية، وفق الدكتور حسن.

مبادئ
وأردف شارحاً: ومن أهم مبادئه، أولاً: مبدأ الملكية الخاصة: وحرية امتلاك وسائل الإنتاج، ثانياً: مبدأ تفادي الاحتكارات: التي يمكن أن تؤدي إلى تشويه الأسعار، ثالثاً: مبدأ حرية التعاقد: الذي يدعم ويزيد من المنافسة، رابعاً: مبدأ إعادة توزيع الدخل: بهدف ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.

دور الحكومة فيه
ووفقه، تلعب ﺍﻟﺤﻜﻭﻤﺎﺕ دوراً إنمائياً ﻓﻲ ﺘﻭﺴﻴﻊ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ، ﻭﻓـﻲ ﻅل ﻫﺫﺍ النظام ﺃﺨﺫﺕ كثير ﻤﻥ ﺍﻟﺤﻜﻭﻤﺎﺕ ﻤﺴﺅﻭﻟﻴﺔ ﺘﺠﺎﻩ ﻤﻭﺍﻁﻨﻴﻬﺎ ﺘﺠﺴـﺩﺕ ﻫـﺫﻩ ﺍﻟﻤﺴﺅﻭﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺘﺤﻘﻴﻕ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﻭﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻤﻥ خلال تحفيز النشاط الاقتصادي، وضع سياسات تضمن منافسة شريفة وسليمة، وسياسات اجتماعية تخص العاملين والمواطنين.

اقتصاد ديمقراطي تشاركي
ويمتاز اقتصاد السوق الاجتماعي بتكريس اللامركزية الاقتصادية وضمان أكبر نسبة لمشاركة كل الفئات (العرقية والطائفية، والدينية)، الفئات الهشة وإدماج الجهات الداخلية والمناطق الريفية في الدورة الاقتصادية بما يحقق التوازن والمساواة، ومن أهم خصائصه، أولاً: اقتصاد ديمقراطي تشاركي: يقوم الاقتصاد الاجتماعي على العمل المشترك والمشاركة في الإدارة على أساس الكفاءة وبغض النظر عن العرق أو الطائفة، أو الدين، أو المنطقة، كما أنه اقتصاد ديمقراطي يتسم بالحوكمة والشفافية في العمل والإدارة، ويتحمل فيه الجميع المسؤولية بصفة مشتركة وجماعية كما يثمن دور المجتمع المدني ويكرس الديمقراطية المحلية، ثانياً: اقتصاد الإنسان أو أنسنة الاقتصاد: أي يعطي الاقتصاد الاجتماعي الأولوية القصوى للإنسان باعتباره القيمة الأعلى في تحقيق النهضة، وهو الهدف من كل عملية تنموية أو اقتصادية، ونشر روح الأخوة في العلاقات الاجتماعية ما يؤثر إيجاباً في الابتكار والعمل والإنتاج، وفق رؤية الدكتور حسن.

متطلبات الاعتماد
وبرأي الدكتور حسن، يجب تأمين المتطلبات الأساسية لاعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي وهي: تأمين مناخ الوضوح والشفافية، وسيادة القانون والاستقلالية التامة للسلطات القضائية، ومكافحة فعالة وجادة للفساد، إضافة لكل من استقلالية السلطات النقدية (البنك المركزي) وفعالية السياسات المالية وزيادة الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية، وتحسين وتطوير البنية التحتية من نقل وكهرباء ومياه وتكنولوجيا ويتطلب تطوير الإدارة، وسيادة وأولوية القطاع الخاص.

لتحقيق تنمية اقتصادية
وختم الدكتور حسن حديثه مع «الاقتصادية» قائلاً: في حال تأمين المتطلبات السابقة يمكن حكماً تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي، في الحقيقة هو النظام الأفضل والأكثر كفاءة لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، وخاصة بعد الحرب، لكن مع اتساع عمق فجوة الدخل بين فئات المجتمع، والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) الخاطئة المتبعة، ومع تفاوت الخدمات في مجال التعليم والصحة، وبنية تحتية شبه مدمرة وعجز متزايد في الميزان التجاري وميزان المدفوعات والتضخم الجامح، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين. ضمن هذه المعطيات هل يمكن الحديث عن توازن اقتصادي معقول أو تنمية اقتصادية حقيقية، وعدالة اجتماعية ولو بحدها الأدنى للفئات المختلفة محلياً؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى