صناعة القرار… السياسة الغائبة.. تخبط إداري وعدم اتباع سياسة للتشخيص وتداخل بالاختصاصات خبراء يشرحون لـ«الاقتصادية» مكامن الضعف ويُطالبون بتحديد المسؤوليات.. ضمن أُفق الأولويات وضرورة تحسين نوعية الخدمات المقدمة للمجتمع
|بارعة جمعة
«مع تغير المنطقة والعالم وتبدل قواعد الاقتصاد والسياسة والأمن والثقافة وغيرها، هل من الممكن لسياسة ما أن تكون صحيحة طول الزمن!!.. علينا مناقشة سياساتنا»، ربما ليست المرة الأولى التي تتم الإشارة بها إلى ضرورة تعديل السياسات التي تحكم العمل المؤسساتي في كل جهة، ليأتي خطاب سيادة الرئيس بشار الأسد حاملاً معه التلميح الأكبر بضرورة التشخيص الصحيح لسياساتنا، بمعرفة صلاحية كل مؤسسة منها، ومن ثم اتخاذ القرار الصحيح، الذي يناسب المرحلة التي يتم تطبيق السياسة فيها.
والمطلوب اليوم وفق رؤية السيد الرئيس، هو التفريق بين أن تكون السياسات الكبرى والتوجهات الصحيحة شيئاً، وأن تكون مقدسات ممنوع نقاشها شيئاً آخر، فالمشكلة قد تكون في تعاطينا الخاطئ الذي يحول السياسة الجيدة إلى خاطئة، وما علينا فعله اليوم هو تحديد الحلول الأكثر مناسبة والأقل ضرراً لنا في سورية، وكل حلاً يحمل في طياته سلبيات وإيجابيات، طبقاً للتوجيهات الأخيرة، التي كانت ضمن قراءات الخبراء الاقتصاديين في تشخيصهم لـ«الاقتصادية» واقع العمل المؤسساتي، وآليات تطويره، بما يخدم عملية التنمية الاقتصادية.
أدوار مؤسسات الدولة
لم يقتصر هدف المؤسسات يوماً على الربح، بقدر تأمين فرص عمل للقوى العاملة، ما يفرض تحديد المسؤولية فيما بينها، بما يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، حالةٌ من التقييم للعمل انطلق منها الدكتور عبدالرحمن شعبان محمد عضو هيئة تدريسية في قسم التمويل والمصارف بكلية الاقتصاد في جامعة حماة ونائب العميد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب ضمن توصيفه لأهمية الدور المؤسساتي، انطلاقاً من التركيز على المسؤولية الاجتماعية لشركات القطاع الخاص، من خلال الجهود التي تقوم بها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، للتعريف بقانون العمل وقانون التأمينات الاجتماعية، وتأكيد الدور الذي تقوم به شركات ومنشآت القطاع الخاص تجاه البلاد والعمال، عبر اعترافها بالمسؤولية الاجتماعية المُلقاة على عاتقها، لابتعاد التقييم اليوم لشركات القطاع الخاص عن معيار الربحية، واعتمادها في بناء سمعتها على مفاهيم حديثة، تساعد على خلق بيئة عمل قادرة على التعامل مع التطورات المتسارعة في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية والإدارية عبر أنحاء العالم، بعيدة كل البعد عن الاكتفاء بمراكزها المالية فحسب.
هنا لا بد من الإشارة برأي د. محمد إلى الدور المحوري لمؤسسات القطاع الخاص في عملية التنمية، وهو ما أثبتته النجاحات التي تحققها الاقتصادات المُتقدمة في هذا المجال، والسبب بالطبع يعود لإدراك هذه المؤسسات بأنواعها كافة أنها غير معزولة عن المجتمع، وبأن العالم تحول إلى قرية صغيرة، إلى جانب التنبه إلى ضرورة توسيع نشاطاتها لتشمل ما هو أكثر من النشاطات الإنتاجية اجتماعياً وإنسانياً، مثل هموم المجتمع والبيئة، وأهمية الأخذ بعين الاعتبار الأضلاع الثلاثة التي عرّفها مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة وهي وفق حديث د. محمد مع «الاقتصادية» النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة.
المسؤولية الاجتماعية
نعم هي مسؤوليات لا بد أن تضطلع بها المؤسسات، وعلى رأسها المسؤولية الاجتماعية، لكونها ضمن مسؤوليات المؤسسة، وذلك بالمُقارنة مع آثار قراراتها وأنشطتها (منتج أو خدمة) على المجتمع والبيئة وفق توصيف د. محمد لأهميتها، ما يفرض برأيه الأخذ بها بوساطة سلوك أخلاقي وشفاف، يتلاءم مع التنمية المستدامة ورفاهية المجتمع، ويأخذ في الاعتبار تطلعات الأطراف ذات المصلحة، وأن يتطابق مع القانون المطبق والمعايير الدولية للسلوك، وهنا تتجلى أهمية هذه المسؤولية برأيه، من خلال الفوائد التي تعود على الشركات وعلى المجتمع الذي يحتضنها، والتي تتلخص بالمساهمة في تحسين ظروف الحياة في مجتمعاتها، وفي الاستقرار الاجتماعي نتيجة لتوافر نوع من العدالة، وسيادة مبدأ تكافؤ الفرص، وتحسين نوعية الخدمات المقدمة للمجتمع، لكونها تعمل بالأساس على الارتقاء بالتنمية، انطلاقاً من زيادة التثقيف أو الوعي الاجتماعي على مستوى الأفراد، ما يسهم في تحقيق الاستقرار والشعور بالعدالة الاجتماعية.
لكن السؤال الأبرز هنا. هل تسهم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات بتحسين صورتها وسمعتها؟
نعم، هي حالةٌ من المساهمة في تعزيز صورة وسمعة العلامة التجارية، فالمعروف عن المؤسسات المسؤولة اجتماعياً سعيها لتعزيز سمعتها أمام الجمهور، وفي إطار عمل مجتمع الأعمال التجارية وفق رؤية د. محمد، بالتالي ستعزز قدرتها على جذب رأس المال والشركاء التجاريين، كما ستجد مجالاً واسعاً في سوق المنافسة العالمية، إلى جانب دعم وتطوير المجتمع، من خلال المساهمات التنموية والاجتماعية للمؤسسات في مجتمعاتها الحاضنة لها، بصيغ متنوعة، منها التبرعات التي تقدمها لبناء المساجد والمدارس والمراكز الطبية وآبار المياه ودعم المشاريع التنموية، مع تأكيد أن المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات يجب ألا تقف عند هذا النوع فقط، التي يتم تقديمها للمشاريع والبرامج التنموية والخيرية برأي د. محمد، فثمة مجالات للعمل ومبادئ يجب أن تلتزمها، والتي ستعود بالفائدة على المجتمعات والدول التي تتبنى هذا النهج.
زيادة الإنتاجية والجودة
لتبني مفهوم المسؤولية الاجتماعية دور في ارتفاع الإنتاجية وتحقيق معايير الجودة أيضاً، أي إن هنالك ارتباطاً وثيقاً بين الحالتين وفق رؤية د. محمد، يعود إلى الجهود المبذولة من المؤسسات في سبيل الاضطلاع بهذه المسؤولية، استناداً إلى القوة العاملة والعمليات التي تقوم بها، والتي تؤدي في الأغلب إلى زيادة الإنتاجية وتخفيض معدل وقوع الأخطاء، بما يُعزز الفاعلية والكفاءة، عن طريق تحسين ظروف العمل وزيادة مشاركة الموظفين في صنع القرار، وما ينجم عنه من أمور إيجابية مثمرة، تساعد بدورها على زيادة الإنتاجية والجودة، وزيادة القدرة على جذب الموظفين والاحتفاظ بهم أيضاً.
كذلك المؤسسات المسؤولة اجتماعياً، يسهل عليها تعيين موظفين ذوي كفاءة عالية والمحافظة عليهم، ويؤدي ذلك إلى خفض تكاليف التوظيف والتدريب، لما يرافقه في الأغلب من تعيين الموظفين من المجتمع الذي تعمل فيه المؤسسة، وهنا يبرر د. محمد السبب وراء اتساق القيم المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات مع قيم الموظفين، الشيء الذي يستبعد أي تعارض من حيث القيم ويعزز بيئة العمل ويساعد على نجاحها وتحقيق مزيد الاستقرار المهني.
من هنا يبرز التعدد في صور المبادرات والفعاليات بحسب طبيعة البيئة المحيطة، ونطاق نشاط الشركة وأشكاله، وما تتمتع به كل شركة من قدرة مالية وبشرية، لكون هذه المسؤولية ليست جامدة بطبيعتها، بل لها الصفة الديناميكية والواقعية كما تتصف بالتطور المستمر، لكي تتواءم بسرعة وفق مصالحها وبحسب المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
لا بد من التأكيد هنا، على أن نجاح قيام الشركات بدورها في المسؤولية الاجتماعية، يعتمد أساساً على التزامها ثلاثة معايير، أولها الاحترام والمسؤولية، يليها دعم المجتمع ومساندته، إضافة إلى حماية البيئة، سواءً من حيث التزام توافق المنتج الذي تقدمه الشركة للمجتمع مع البيئة، أم من حيث المبادرة بتقديم ما يخدم البيئة، اتجاهات تفرض نفسها في عمل أي شركة برأي د. محمد، تأتي ضمن توصيات الرئيس الأسد في تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، التي لا بد أن ترتبط بتوزيع العمال وتوجيههم بما يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية والعملية وكفاءتهم، ويحقق مصلحة العمل، وضمان حقوق العامل من حيث البيئة المناسبة وبرامج التدريب والرعاية الصحية ووو… إلخ.
الفساد المؤسساتي
إذا ما أردنا البحث في أسباب عدم نجاح مؤسساتنا، فسنجد حتماً أن ثمة الكثير من الأسباب البنيوية والإدارية، إضافة إلى عدم قدرته على التدخل بالمعايير السوقية التي تحدد الكفاءة الإنتاجية، من هنا انطلق الخبير الاقتصادي فاخر قربي في تشخيصه للواقع، الذي يعاني أخطر أشكال الفساد، المتمثل بعدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وافتقاد المرونة المطلوبة، ولا سيما في مجال القطاع الصناعي، باعتباره واحداً من أهم القطاعات الإنتاجية للاقتصاد السوري، ويمثل نحو 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعد محركاً للاقتصاد السوري، لارتباطه بمختلف القطاعات الأخرى، مثل: الزراعة، النقل، التأمين، المال، والتجارة، عدا الحرب الأخيرة، التي أثرت بشكل مباشر فيه، وأدت لافتقاد القطاع الصناعي المؤسسات المختصة والدعم اللازم لتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات الصناعية محلية الصنع، وتدني المستوى المهني والمهارات داخل قوة العمل الصناعي، إضافة إلى وجود مستوى عال من البيروقراطية والروتين والمركزية الشديدة في الإدارة والتخطيط والتمويل، التي كثيراً ما تعطل سير العملية الإنتاجية لهذه الشركات، ناهيك عن الفساد الإداري والمالي وضعف الاهتمام بالخبرات العلمية والبحث العلمي وعدم توفير التسهيلات العلمية وعدم الاهتمام بالكوادر الفنية.
تراجع معدلات التنمية
بينما نشهد اليوم حالة من التراجع، ظهرت بشكل واضح في عمل المؤسسات وفق تأكيدات قربي، أمام فقدان الموارد البشرية إمكانات كبيرة عرفت بقدرتها على تأهيل قوى بشرية وتدريبها لبناء مفهوم تنمية مستدامة للموارد البشرية، ناهيك عن تزايد التكاليف الناشئة عن هجرة الكفاءات بين فئات القوى العاملة الأفضل تدريباً، مقابل زيادة تكلفة الإنتاج، ما أفقد الصناعة الوطنية تنافسيتها أمام المنتجات الواردة وهجرة رؤوس الأموال، وسط انخفاض حجم القروض التي تُمنح للصناعيين، وغياب الحوافز ودعم للمصانع الوطنية المصدرة، يُضاف إلى ذلك، صعوبة عملية الاستيراد للآلات وقطع الغيار، وكذلك المواد الخام اللازمة للتصنيع، والإجراءات اللازمة لذلك، حيث تستغرق الوقت والجهد لكل ما يراد استيراده، ما يزيد التكلفة على أصحاب المصانع المتوسطة والصغيرة، بالتوازي مع جهل بعض المستثمرين وعدم وضوح الرؤية لديهم في مجال صناعتهم، وطلب الربح السريع وعدم القدرة على التطوير، وغياب الفكر الصناعي لدى بعض المستثمرين.
صناعة القرار المؤسساتي
هذه الأمور تفرض تضافر الجهود كافة من أجل قيام شركات القطاع الخاص بدورها الاجتماعي، ولا سيما ضمن الظروف الراهنة، بما يساعد في صنع القرار الذي جاء وفق مفهوم د. محمد بأنه سلسلة الخطوات المنطقية التي تسبق القرار وتكون أحد مدخلاته قبل تنفيذه على الواقع، كما عده عملية تنظيمية مركبة تتداخل ضمنها عوامل متعددة، نفسية، اقتصادية، اجتماعية، والظروف غير المتوقعة… إلخ، كما يمكن القول عنها إنها عملية ديناميكية تفاعلية تمر بعدة مراحل، بداية من تحديد المشكلة وانتهاء بالتوصل إلى القرار أو البديل الصائب بما يتناسب مع الأهداف المنشودة.
إلا أنه وفي سورية تحديداً، تتم عملية اتخاذ القرار الاقتصادي سواء أكان مالياً أم نقدياً أو تجارياً أو غير ذلك، وفق دراسات تفصيلية وبمستويات مختلفة، إذ إنه وفق رؤية الدكتور عبد الرحمن شعبان محمد نائب العميد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب في جامعة حماة، لا بد من دراستها بداية على مستوى الوزارة المعنية أو الجهة صاحبة العلاقة، وبحضور ممثلين عن بقية الوزارات والجهات ذات الصلة بالموضوع، وغالباً تتم بحضور القطاع الخاص، وكل من يقدم البيانات والمعلومات اللازمة، لمناقشتها خلال الاجتماعات وبناء مشاريع القرارات أو المقترحات على أساسها، ليتم بعدها رفع النتائج والمقترحات إلى لجنة اقتصادية مُتخصصة، تقوم بدورها بدراسة الموضوعات أو القرارات المزمع إصدارها وأيضاً بحضور ومناقشة الوزارات والجهات المعنية، ومن ثم رفع التوصية المتفق عليها أو المقترحات المتعلقة بأي موضوع معين إلى رئاسة مجلس الوزراء، والذي يقوم بدوره أيضاً في مناقشة الحيثيات واتخاذ القرار أو التوجيه المناسب بشأنه.
هنا يعود الدكتور محمد للتذكير بأنه على اللجنة الاقتصادية تبني النهج متعدد التخصصات، عبر تحليل القضايا ذات الصلة من زوايا مختلفة لتتكامل فيما بينها، لمساهمة هذا النهج في التعاطي مع القضايا بدرجة عالية من الكفاءة، إلى جانب إسهامه بالبحث عن حلول جديدة، وإثراء مسارات النقاش، وبالتالي فإن منهجية العمل التي جرى ترسيخها على مدى عقود من الزمن، القائمة على الاستئناس بآراء جميع الجهات المعنية، سواء الحكومية أم غير الحكومية ذات العلاقة، وتوسيع نطاق المشاركة واستمزاج الآراء لتشمل القطاع الخاص أيضاً عند الحاجة، وحتى الجهات العلمية والبحثية حينما يستدعي الأمر، ليبقى الهدف النهائي هو ضمان التوصل إلى القرار الاقتصادي الأمثل.
تشاركية القرار
ما نحتاجه اليوم في سبيل تطوير الاقتصاد الوطني وبشكل خاص القطاع الصناعي هو إعطاء محفزات للصناعيين المنتجين، عبر إشراكهم في صنع القرار الصناعي-الاقتصادي-الوطني وتعميق التعاون معهم، بهدف حماية المنتج الوطني، وفق رؤية الخبير الاقتصادي فاخر قُربي، داعياً بالوقت ذاته إلى إيجاد حلول لمشكلة القروض المتعثرة للصناعيين المتضررين، ومنح كل مؤسسة حكومية شيئاً من الصلاحيات التي تقضي باتخاذ قرارات عاجلة هادفة ومهمة، بما يخص عمل المؤسسة، بتخفيف المركزية والسرعة في اتخاذ القرارات والإجراءات، من أشخاص أكفاء لتسهيل وتسريع إنجاز الأعمال، وإنشاء بنك المعلومات الصناعي وترسيخ ثقافة اقتناء المنتج الوطني في ذهنية الجميع، إضافة إلى اتباع سياسة البحث والتطوير الصناعي بين القطاعين الصناعي والأكاديمي.
هذه الرؤى لم تأتِ من فراغ برأي قربي، بل نتيجة الرصد المُباشر لنماذج لدى المؤسسات التي كانت تعيش حالة تخبط إداري وتخصصي وتداخل الاختصاصات فيما بينها وارتفاع في أسعار المواد التي تختص بها، مثل المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء التابعة لوزارة الصناعة، والمؤسسة العامة للتجارة الداخلية للمعادن ومواد البناء التابعة لوزارة التجارة الداخلية وإحلال الشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء من خلال المرسوم رقم ٣ لعام 2024، ما يسهم بتخفيض التكلفة، وبالتالي انعكاسها على المواطن بشكل مباشر.