ألف – باء العمل الحكومي الجديد ضمن رؤية موضوعية أساسها الواقعية.. خبراء لـ«الاقتصادية»: التغيير الجذري ضرورة حقيقية والمواطن البوصلة الحقيقية للعمل
|بارعة جمعة
«أول خطوة لتسهيل الطريق أمام أي حكومة هو ألا ترفع سقف التوقعات فوق الممكن.. إلا تقدم وعوداً غير قابلة للتنفيذ»، دعوةٌ إصلاحية حملت الكثير من متطلبات العمل وفق منظور العمل الحكومي، كانت محور حديث سيادة الرئيس بشار الأسد للحكومة الجديدة، بعد أدائها اليمين الدستورية أمامه، وإعلان الجاهزية للخوض في غمار المرحلة القادمة، التي لا بُد أن تحمل الكثير من الحلول، لمشكلات كثيرة نشأت بفعل الحكومات المُتعاقبة.
حقائق كثيرة أكدها سيادة الرئيس، أشار من خلالها إلى مكامن الضعف والقوة في الأداء، ولاسيما صعوبة الوصول إلى حلول تُرضي المواطن، مقابل إطلاق الوعود فقط، ما يجعل من أي مبادرة حكومية محط خوف من عقبات جديدة، قد تنشأ بفعل تراكمات التقصير في الأداء، داعياً الفريق الحكومي الجديد إلى مواجهة ثقافة رفض التغيير، التي أنتجت واقعنا الحالي، ضمن مبررات القوانين والسياسات، التي تناولها الخبراء اليوم، ضمن أُفق التحليل المنطقي لما ستحمله الأيام القادمة لنا.
نهوض اقتصادي
ركائز أساسية لعملية النهوض يضعها السيد الرئيس، بعدما أثبتت التجربة لعقود مضت بأن الإجراءات الترقيعية لم تعد تنفع مع ملفات اقتصادية معقدة وشائكة، من هنا انطلقت الدكتورة لمياء عاصي (وزيرة سابقة)، في تحليلها لـ«الاقتصادية» لما تناوله السيد الرئيس من إشارات إلى خطوط عمل مستقبلية كان على رأسها ضرورة إعادة الثقة بين المواطن والحكومة، الذي لا بد أن تكون مرجعيته الأساسية للتصريحات والوعود الحكومية هو البيان الوزاري، الذي عُرف بدوره في نقل الواقع كما هو، أي من حيث المعوقات أو الإمكانات المتاحة، إلا أنه ولوقت طويل مضى، شكل البيان الوزاري لائحة أمنيات وورقة بروتوكولية لا أكثر برأي د. عاصي، يتم تقديمها لمجلس الشعب، مؤكدةً أهمية ربط الوعود الحكومية به كخطوة رئيسية لترميم الثقة.
كما حدّد الخطاب الموجه للحكومة الجديدة خطوات عدة، تهدف لتحقيق الانسجام بين المفاهيم والسياسات المبنية على هذه المفاهيم، لكونه الضامن من عدم الوقوع في التناقض، ولاسيما في المجال الاقتصادي، الذي يتطلب المزيد من الوضوح والشفافية في العمل الحكومي برأي د. عاصي، مؤكدةً ضرورة قبول مبدأ التغيير، المحرك الأساس والدافع لعملية الإصلاح، والهدف يكمن في أن التغيير هو السبيل الوحيد للنهوض الاقتصادي، وأي محاولة لتأخيره سيزيد من تكلفة الإصلاح.
المستوى المؤسساتي
ليس بإمكان أحد إنكار واقع عمل المؤسسات لدينا، التي باتت السمة الغالبة لها بين المؤسسات هو التشابك في المهام والصلاحيات، نوع من الواقعية في الطرح والتحليل حملتها د. عاصي في شرحٍ منها لسبل تصحيح البُنى المؤسساتية، التي تحتاج إلى الكثير من بذل الجهود في إعادة دراسة واقعها البنيوي، إذ أن البداية لكل مؤسسة من وظائفها ومهامها والعلاقات فيما بينها وارتباطاتها، إضافة إلى العوامل التي تحقق التنسيق فيما بينها، تمهيداً لإزالة التشابك فيما بينها، الذي بدوره يعمل كقوة معاكسة لرفع كفاءتها.
هنا تبدو لنا أهمية مبدأ صناعة القرار، الذي وإن تم لا بد أن تبنى آليته على المشاركة فيما بين الجهات المختلفة المُنخرطة في صنع القرار والجهات المستفيدة منه، وهو ما يتطلب برأي د. عاصي حواراً فاعلاً ودائماً بين الحكومة كمؤسسات، وبين المؤسسات الأهلية وقوى المجتمع متعددة الأطراف والمستويات، بصفته السبيل الوحيد لإحراز النهوض الاقتصادي الملموس.
دعم الإنتاج
لطالما كانت سورية المورد الأول لمتطلبات عمل أي مؤسسة، ولاسيما الصناعية منها، بالاعتماد على الموارد الذاتية لا الاستثمارات الأجنبية، إشارة إلى ضرورة الاعتماد على الذات أرسلها سيادة الرئيس بشار الأسد معلناً بكل وضوح، أنه وبالنظر إلى التجارب السابقة، نجد أن التعويل عليها غير مجدٍ وغير فعال، لتبدو عملية البناء وتحقيق النهوض الاقتصادي قائمة على مواردنا الوطنية برأي د. عاصي، وهو ما يحتم على الحكومة العمل بكل طاقاتها وبكفاءة عالية لاستثمار الموارد المحلية الراهنة، ومن ثم البحث عن موارد كامنة لتطويرها مستقبلاً.
هي غايةٌ اقتصادية تحمل مفهوم الاتجاه نحو اللامركزية الإدارية والاقتصادية، الذي لطالما شكل البوصلة في عمل المجالس المحلية ضمن البلدات والقرى، كما يعتبر مدخلاً قوياً لتحقيق التنمية الشاملة بمشاركة المجتمعات المحلية برأي عاصي، مبينة تأكيد السيد الرئيس سابقاً على هذا الدور الاقتصادي في كلمته السابقة أمام مجلس الشعب، بشرحه عدم توافق مبدأ المركزية الشديدة مع موضوع المشاريع الصغيرة والصغيرة جداً.
توجيه البوصلة
معانٍ كثيرة، ترسم مسارات عديدة، طرحها السيد الرئيس خلال الاجتماع التوجيهي مع الوزارة الجديدة، ويمكن أن نميز من خلالها ثلاثة محاور رئيسية، بهذا التوصيف الدقيق لتفاصيل الخطاب، افتتحت الباحثة الاقتصادية والدكتورة في كلية الاقتصاد رشا سيروب في توصيفها لما ينبغي العمل به ضمن منظور الحكومة الجديدة، عبر الإشارة إلى مكامن الخلل في المرحلة السابقة، التي برزت في أفق الإصلاح ضمن اتجاهين، الأول: أن يتم اعتبار المواطن أولوية الفريق الحكومي بمختلف مستوياته ومؤسساته، ليس فقط عند صياغة السياسات، وإنما في لغة خطابه مع المواطن، فلا يمكن للحكومة أن تنجح في تحقيق هدفها الأول بتخفيف وطأة الظروف عن المواطن، في ظل إطلاق وعود غير قابلة للتنفيذ برأي د. سيروب، فالنتيجة هنا هي أن الآمال ترتفع لقاء المزيد من الإحباط.
من هنا تبدو أهمية أن تكون الحكومة حريصة عند إعلان البيان الوزاري، وكذلك التصريحات في السياسات المعلنة، فهي مرجعية المواطن، وهو ما يتطلب أن تكون الحكومة الراهنة حكومة واقع لا حكومة آمال، فضلاً عن التعامل بشفافية مع المواطن، من خلال شرح السياسات بشكل واضح وشرح النتائج المتوقعة سلباً أو إيجاباً، وبيان إمكانية حل المشكلات سواء أكان كاملاً أو جزئياً أو عدم إمكانية حل مشكلة ما على حد تعبيرها.
أما الاتجاه الآخر فيتعلق بعدم نجاعة السياسات السابقة، بسبب آليات اتخاذ القرار في مجلس الوزراء والبنى الإدارية المتشابكة وتداخل الصلاحيات وفق رؤية د. سيروب، هنا تبدو الضرورة في تعديل آليات اتخاذ القرار من قبل الحكومة المقبلة، من حيث التخطيط وأدوات التنفيذ والأخذ بعين الاعتبار التداخلات عبر السياسات القطاعية قبل صياغة أي قرار، وأن يتم التنسيق بين المؤسسات عبر السياسات وليس الأشخاص، داعية إلى ضرورة إدراك الحكومة أن تكون هذه السياسات سياسات تغيير وليست سياسات ترقيع كما كان يتم في السابق.
رؤية واقعية
تنطلق هذه الرؤية من حقيقة مفادها أن إمكانيات سورية محدودة، لكن تكمن الإشكالية الحقيقية ليس في محدوديتها، بل في إدارتها، وفي هذا إشارة واضحة إلى ضرورة أن ترتكز السياسات المستقبلية في كيفية الاستغلال الأمثل لهذه الموارد سواء المادية أم البشرية وفق توصيف د. رشا سيروب لـ»الاقتصادية»، وعدم وضع اللوم على محدودية الموارد، وعدم التعويل على الانفتاح السياسي في جذب الاستثمارات الأجنبية، الذي يحمل إشارة أخرى واضحة بأن إنقاذ الاقتصاد السوري وتنميته لن يكونا إلا باستثمارات وجهود محلية، ما يحمل الحكومة مسؤولية إعادة صياغة سياساتها بما يمكن من تنمية القطاع الخاص المحلي وإصلاح القطاع العام الاقتصادي، وتهيئة البيئة المناسبة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.
النهوض بالقطاع العام
وبطبيعة الحال، لن يتم ذلك من دون إعطاء الإصلاح الإداري حيزاً مهماً في البيان الوزاري للحكومة الجديدة، هنا تعود الباحثة الاقتصادية د. رشا سيروب لتأكيد ما يجب تقديمه وفعله بأن واحد، لتطوير القطاع العام الاقتصادي، الذي لا بد أن يشمل إعادة النظر في قانون العاملين الأساسي ومن ثم تعديله، بحيث يواكب التغيرات في بيئة الأعمال والتمايز بين القطاعات، وهو ما يمكن قراءته، بأنه علينا إعادة تفعيل قانون الخدمة العامة الذي طُرح منذ مدة ولم يبصر النور حتى اليوم، على الرغم من الاجتماعات والملتقيات والندوات والورشات التي تولت مهمة طرحه.
يلي ذلك، تمكين المديريات في المحافظات ومؤسسات الإدارة المحلية كخطوة أولى قبل عملية نقل الصلاحيات، وهو ما يمكن أن نفهمه بتأهيل الأرضية الإدارية والمؤسساتية، ليصار بعدها إلى تطبيق اللامركزية بأقل المشكلات الممكنة، ما يعني وفق رؤية د. سيروب أن عملية الإصلاح الإداري هي سياسة دولة، وهي مسؤولية الجميع وليس فقط وزارة التنمية الإدارية، وهذا يتطلب التنسيق بين جميع الوزارات والمؤسسات لإنجاز هذه العملية وتجاوز الثغرات السابقة، واصفة البيان الوزاري للحكومة الجديدة بالفرصة الذهبية لإعادة بناء الثقة مع الشعب، التي لا بد أن يقترن نجاحها بالاعتماد على قدرتها في تحقيق وعودها للشعب، وهو ما يفرض أن يكون البيان الوزاري واضحاً ومحدداً مرتكزاً على أسس علمية وواقعية في تحديد الأهداف ورسم السياسات، من دون إغفال تضمين آليات فعالة للمتابعة وتقييم الأداء والمساءلة، وهو ما يعكس مدى جدية الحكومة في الإصلاح والتغيير خلال السنوات الأربع المقبلة.
مؤشرات إيجابية
إن التزام النقاط السابقة وإحداث تغيير كبير يشمل النهج الاقتصادي والنظام الإداري، هو بمنزلة المؤشر إلى ولادة ذهنية مختلفة، تمكن الحكومة من القيام بعملية الإصلاح الاقتصادي الشاقة، هو ما عبرت عنه د. لمياء عاصي في حديثها لـ«الاقتصادية» عن النتائج المرجوة من التغيير، التي ستكون أولى الأولويات للحكومة في تطوير الموارد المادية والبشرية، من خلال معالجة ملفات شائكة بقيت من دون معالجة لعقود طويلة، وهو ما تسبب بخسائر ضخمة في الاقتصاد السوري، وأهم هذه الملفات معالجة وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة أو ما يطلق عليه القطاع العام الاقتصادي، وإعادة دراسة أملاك الدولة المبعثرة باتجاه استثمارها بالشكل الأفضل وإنهاء التعديات عليها، ولعل من أكثر الملفات الساخنة والملحة اليوم برأي د. عاصي هو كسر العلاقة بين ضعف الاستهلاك بسبب تدني القدرة الشرائية والدوران في دوامة العجز والتضخم، إضافة إلى الحفاظ على جدوى الإنتاج المحلي ودعمه وتشجيعه.
وفي الخلاصة، لا بد من التذكير بأن رفع الإيرادات العامة من خلال معالجة الملفات السابقة، يمكن الدولة من زيادة الإنفاق العام، وبالتالي إعطاء جرعة انتعاش للاقتصاد ورفع جودة التعليم والخدمات الصحية وتمكين الناس من الوصول إليهما بشكل أفضل، يليه العمل على سياسة اقتصادية متوازنة تضمن انخفاض مؤشر البطالة وارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي وضمان التوازن بين مستوى التنمية في المحافظات، إلى جانب تنمية وتطوير شبكة الحماية الاجتماعية وتوزيع الدعم أيا كان شكله لحماية الفئات الفقيرة والأقل دخلاً من الفقر والمرض.