ظروف التشغيل.. معضلة الإنتاج الصناعي الكبرى!… نقص اليد العاملة والتمويل غائب لاشتراطات الضمانات الصعبة صناعات تحتاج إلى تكنولوجيا وتقنيات أكثر والتجديد مؤجل إجراءات وقرارات صعبة أبعدت المستثمرين الصناعيين عن ممارسة التجارة والصناعة
|بارعة جمعة
أزمةٌ مركبة، وضعت الصناعة السورية بمواجهة صعوبات كبيرة، هددت وجودها ومستقبلها، لعلها الحالة الأكثر تعبيراً عن واقع المُنشآت الصناعية، التي لا تزال محط جدلٍ كبير، وسط الحاجة الكبيرة لعودة المنتج المحلي إلى أوجه، وأخذ مكانه في السوق السورية، ما يتطلب اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمعالجة آثار ونتائج هذه الأزمة بمجملها وبشكل شامل ومتكامل، والاستفادة منها كفرصة متاحة لإعادة هيكلة وتوطين الصناعة السورية وتحديثها وتمكينها من القيام بدورها، بوصفها القاطرة الرئيسية للتقدم والنمو والتشغيل، بشكل خاص في مرحلة إعادة البناء، وهو ما يتطلب -قبل أي شيء آخر- فهم وتحليل الأسباب التي أدت إلى وصول الصناعة إلى هذه الأوضاع الصعبة والوقوف على نتائجها بموضوعية وشفافية، ومن ثم تحديد الأولويات الملحة، بما يسهم في اختصار الوقت والجهد والتكلفة لتنفيذها.
حقيقة أجمع عليها الخبراء والصناعيون في حديثهم لـ«الاقتصادية» حول الصعوبات التشغيلية التي تُواجه الشركات والمُنشآت الصناعية.
قِدَم الآلات
لم يكن لمرور الحرب الأخيرة على سورية وقعها البسيط على قطاع الصناعة السورية، المحرك الأول لعجلة الإنتاج المحلي والقائم بشكل رئيس على دعم الاقتصاد المحلي، لتبدو معوقات العمل وصعوبات التشغيل للمعامل الأبرز في حديث الصناعي تيسر دركلت من غرفة صناعة حلب، متناولاً في بداية حديثه ما تعانيه الآلات من عدم مواءمتها لظروف العمل الحالية نتيجة قدمها، فيما لا تزال مسألة استيرادها صعبة للغاية، والسبب لم يعد مخفياً على أحد، إثر ارتفاع أسعارها عدا العقوبات الاقتصادية، وما تفرضه من قيود باتت الأكثر حضوراً في ثقافة العمل الاقتصادي لقطاع الصناعة بصورة خاصة، وقطاع الأعمال بشكل عام، إضافة إلى كونها حجر العثرة في طريق أي محاولة للنهوض بالمعامل والشركات الصناعية من جديد.
حالةٌ من اليوم الممانعة تُواجه صاحب أي معمل صناعي يرغب في العمل برأي دركلت، في وقت لا يزال البعض منهم مستمراً بالعمل لغايتين، الأولى تأمين أجرة ومعيشة عماله، والثانية الحصول على متطلبات معيشته أيضاً.
صورٌ من الأزمات، تتجسد في حالات عدة أهمها خطوط الإنتاج، التي حسبما ذكر الصناعي دركلت بأن معظمها محلي الصُنع، وفي حال وجود خطوط إنتاج فهي مُخصصة لصناعات بعينها، التي بدت في أغلبيتها صناعات (تحويلية أو غذائية)، أما في النظر لواقع الصناعات الهندسية، التي تحتاج تكنولوجيا وتقنيات أكثر، فسنجد أن آخر تحديث للآلات المتعلقة بها منذ 10سنوات على الأقل.
التمويل التشغيلي
لم تنته القصة بعد، فالمعوقات تتجاوز الآلات وخطوط الإنتاج وصولاً إلى التمويل، التي جاءت حسب توصيف دركلت المُعضلة الأكبر، آخذاً من التقرير الأخير لمصرف سورية المركزي الذي يبين نسبة القروض الاستثمارية البالغة 22 بالمئة فقط، الدليل الأكبر على عزوف المستثمرين عن هذه القروض، التي وجدت أساساً بقصد التشغيل، ويعود السبب برأيه لارتفاع الفوائد، العامل الأكبر الذي يحد من رغبة أي مستثمر يرغب في الاقتراض، وسط عدم استقرار الأسواق وارتفاع مستوى الخطورة لقاء هذه الخطوة، ما أفضى لابتعاد الجميع عن دخول البنوك، ناهيك عن الإجراءات المطلوب اتخاذها والمتعلقة بضمانات المصرف، التي تعد متشددة جداً بنظره، ما استدعى مطالبات عدة لإعادة النظر بها، ولا تزال الوعود حتى اليوم بتعديلها قائمة، يقابل ذلك، ارتباط أي قرض تشغيلي بتقديم ضمان عقاري قد تصل نسبته بين 150-200 بالمئة من العقار، في وقت من الواجب أن تمثل المنشأة الكفيل والضامن لقرض المستثمر ولاسيما أنه بادر بتقديم دراسة جدوى للمنشأة، إضافة إلى اسمه المعروف لهم، من دون الحاجة لرهن عقاري، الذي يدفع الكثير للتخلي عن مدخراتهم من العقارات والذهب لتوفير هذا الضمان.
اليد العاملة
كل ذلك لا يمنع من أن ثمة عائقاً مهماً جداً، ويجب النظر إليه بجدية هو نقص اليد العاملة بسبب الهجرة، ولاسيما من فئة الشباب، فالواقع يظهر اقتصارها على أعمار إما تحت 20 عاماً وإما فوق 45 عاماً، ما يجبر بعض أرباب العمل اللجوء لاستخدام العنصر النسائي أحياناً، وهو ما لا يصلح للصناعات كافة وفق رؤية دركلت.
حاجة ملحة دفعت أصحاب المعامل والمنشآت إلى التنسيق مع وزارة الصناعة ومعاهد التدريب المهني وثانويات ومعاهد التعليم المهني وبالاتفاق مع وزارة التربية، إلى جانب الجامعات من اختصاص الهندسة (ميكانيك، كهرباء، إلكترون) لتدريب الطلاب في هذه المنشآت، عبر برامج تدريب تستهدف السنوات الأخيرة، بالإضافة لاعتماد نظام التعليم المزدوج الخاص بالتعليم التقني والمهني، إلى جانب اتفاقية بين غرفة صناعة حلب ومديرية التربية ووزارة التربية، ضمن نظام التعليم المزدوج أيضاً، الذي وضعت أسسه عام 2005 وعرقلته الحرب، ليأتي اهتمام غرفة صناعة حلب نوعاً من الاستقطاب لهؤلاء الطلاب، بالإضافة إلى برنامج آخر مع جامعة حلب، لتدريب 800 طالب من الجامعات يتم العمل بها للسنة السابعة ضمن هذا البرنامج، القائم على التدريب والاطلاع على المعامل وخطوط الإنتاج وطريقة الصناعة، إضافة لفرصة لقاء أصحاب المصانع لتأمين فرصة لهم مباشرة في أثناء دراستهم أو بعد التخرج، مع الإشارة إلى وجود مركز التدريب المهني في كل المحافظات، يشرف على توظيف الخريجين مباشرة بعد إخضاعهم لدورة 5 شهور، حيث بلغت نسبة التوظيف 100 بالمئة.
ما ذكر آنفاً هو خطوة في سبيل ضمان عدم انقطاع العمالة من البلاد، وبالرغم من ذلك نجد أن الواقع وظروف البلاد لا تزال تدفعهم إلى السفر، ما عده الصناعي تيسير دركلت نذير شؤم بفقدان اليد العاملة، حتى وإن عادت الأسواق لنشاطها السابق.
شروط تعجيزية
تحت هذا العنوان، الذي يرافق أي خطوة يتوجه من خلالها الصناعي للعمل، بدأ الصناعي عصام تيزيني حديثه عن واقع الصناعة السورية، وما تواجهه من تحديات اختصرت بمصطلح قسوة الإجراءات والشروط التي يفرضها مسؤولو الملف الاقتصادي، والتي تشكل العامل الأكثر تأثيراً في نفور الصناعيين والتجار، لمواجهتهم هذه الشروط في أي مبادرة لإحداث مصنع خاص بهم، والحجج باتت معروفة لديهم والتي مفادها قرار منع إقامة أي مصنع خارج المدن الصناعية، يُضاف إليها مشكلات السياسة النقدية التي وصفها تيزيني بالقاسية والمرعبة لمجمل مجتمع الأعمال الموجود، ولا يزال يرغب بالعمل، مُتسائلاً: ما قراءتكم للقادم الجديد؟!! ولاسيما تعرض كل من يتداول العملة الأجنبية – الدولار – لعقوبات قاسية، ما يعوق حركة التجارة، إلى جانب أحكام المرسوم رقم 8 الخاص بحماية المستهلك، الذي يفرض عقوبة السجن لأي تاجر أو صناعي ارتكب خطأ إدارياً… ما أبعد الناس عن ممارسة التجارة والصناعة، علماً أن الوعود الحكومة حتى اليوم ما زالت ضمن هدف تعديله لكنها لم تفعل.
هنا يبدو لنا الأمر الأكثر خطورة، وخاصة فيما يتعلق بشروط الاستيراد أيضاً، فهي مضنية، ولاسيما المرتبط منها بتمويل المستوردات عبر المنصة وفق حديث الصناعي تيزيني، مرجعاً العرقلة الحاصلة بالعمل بشكل واضح وصريح لهذا الأمر، الذي أودى بأصحاب المال للنفور والهجرة، وسط الأخطاء الكبيرة ضمن سياسة معالجة ملف الدعم التي وفق تيزيني خاطئة، لدورها في استبعاد أي من أصحاب السجلات التجارية أو الصناعية، وإن كان لا يعمل من دائرة الدعم، ما تسبب بشطب آلاف السجلات التجارية أو الصناعية من أصحابها، رغبة بالعودة إلى دائرة الدعم وهذا أيضاً، وهو ما تسبب بتراجع التجارة والصناعة.
أمام كل هذه الصعوبات، يقف الصناعي عصام تيزيني متناولاً الحلول لهذه المعوقات ضمن جانب واحد، وهو الابتعاد عن قاعدة (دعه يعمل دعه يمر)، تلك القاعدة الذهبية التي تعتبر برأيه مفيدة بوصفها وسيلة للتشجيع على العمل والإنتاج من دون شروط، ولو لمرحلة مؤقتة، ريثما تبدأ مرحلة التعافي.
تراجع القوة الشرائية
هذه الرؤى وغيرها مما ذكره الصناعيون، أخذ بما تبقى من مراحل العمل للركود والتضخم، ومن ثم تراجع القوة الشرائية وارتفاع التكاليف، التي عدها الخبير الاقتصادي جورج خزام في حديثه لـ«الاقتصادية» من أسوأ ما تعانيه الشركات الصناعية، أمام ارتفاع تكلفة الكهرباء والمحروقات، بالإضافة لارتفاع التكاليف المباشرة وغير المباشرة للتشغيل بشكل أكبر بكثير قياساً إلى دول الجوار، ما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المنتجات وغياب المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية.
هي نتائج تحمل الكثير من الأسباب التي أوردها خزام تباعاً، وعلى رأسها منصة تمويل المستوردات بالمصرف المركزي، التي تساهم برفع تكاليف الاستيراد إلى ما يزيد على 35 بالمئة، عدا تحكمها بكمية المستوردات من المواد الأولية، التي تفرض أيضاً على المستورد الانتظار لوقت قد يصل إلى شهور لحين وصول دوره بالتمويل، بالمقابل نجد تراجعاً في كمية البضائع المعروضة للبيع وارتفاع بسعرها، من دون تزامن ذلك مع انخفاض سعر صرف الدولار.
إلا أنه وعلى الرغم من كل ذلك، يبقى لتراجع القوة الشرائية للدخل بشكل عام، سبب مباشر في جعل التوسع بالإنتاج ينطوي على مخاطر الكساد برأي خزام، لنجد أنه وفي الوقت ذاته لا يمكن تصريف البضائع بالأسواق الخارجية لارتفاع تكاليف الإنتاج، من هنا تبدو سياسة المصرف المركزي القائمة على تقييد حركة الأموال والبضائع، بهدف تخفيض الاستهلاك بحجة تخفيض الطلب على الدولار السبب وراء انهيار الإنتاج والدخل بشكل عام، ومعه تراجع الطلب وزيادة الكساد والبطالة، ليأتي الإجراء الأخير له بتخفيض سقف السحب اليومي بالمصرف التجاري من 25 مليوناً إلى 10 ملايين مكملاً لذلك.
كما تجدر الإشارة برأي الخبير الاقتصادي خزام إلى أن الارتفاع الكبير بالضرائب والرسوم المالية التي يجري دفعها جعلت الصناعي، تجعله يرى في وزارة المالية شريكاً له بالربح، بسبب الزيادات الأخيرة خلال السنوات السابقة، عدا دخول بعض البضائع بطريقة التهريب من دول الجوار وهي منخفضة التكاليف بسبب عدم تقييد حركة الأموال والبضائع في تلك الدول وتحريرها من القيود، ما ساهمت بجعل المنتج الوطني الأعلى من حيث السعر والأقل من حيث الجودة ومعه تراجع المبيعات وزيادة الكساد.
يذكر أنه سبق لوزارة الصناعة تقدير خسائر القطاع الصناعي الخاص لغاية شهر شباط الماضي بنحو 254 مليار ليرة سورية، ليصبح المجموع نحو 442 مليار ليرة سورية، في حين بلغ عدد المنشآت المتوقفة عن البناء 3360 منشأة، وعدد المنشآت المتوقفة عن الإنتاج 548 منشأة، كما تعطل قرابة 87484 عاملاً عن العمل في هذه المدن.