المشروعات الصغيرة… آمال كبيرة وحقائق مريرة!… إعادة هيكلة عمل هيئة تنمية المشروعات الصغيرة ضرورة ملحة… 114 مشروعاً فقط في دمشق وريفها منذ بداية العام …الابتعاد عن العقلية الخشبية في التعامل واستعاضة القروض بالمنح
|غزل إبراهيم
رغم الاهتمام والتعويل الكبير عليها في الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، لا تزال المشروعات الصغيرة والمتوسطة تعاني مشاكل كثيرة منها شح التمويل والتفضيل بعدم الدخول في متاهة من الإجراءات الحكومية وضعف البنية التحتية، الأمر الذي حد من تطورها وتسبب في إحجام الكثيرين عنها، إذ لا يتجاوز عددها في دمشق وريفها على سبيل المثال ٦٠٠ مشروع فقط لحد الآن.
ما يدعو إلى تغيير الإستراتيجيات المتبعة في تأسيسها ودعمها، نظراً لأهميتها ودورها المحوري في الإنتاج والتشغيل وتحقيق الدخل وخلق القيم المضافة والابتكار والتقدم التكنولوجي، علاوة على دورها في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية وتلبية الاحتياجات الاستهلاكية في الأسواق الداخلية، والمساهمة في زيادة حجم الصادرات إلى الأسواق الخارجية..
فهي تشكل اليوم محور السياسات الصناعية الهادفة إلى تخفيض معدلات البطالة في جميع الدول النامية والمتقدمة، بغض النظر عن الفلسفة الاقتصادية المتبعة وأسلوب إدارة الاقتصاد فيها، كما تتميز بعدد من المزايا التي تؤهلها لتتبوأ مكانة اقتصادية مهمة في جميع خطط وبرامج الغد الاقتصادي.
بعثرة الجهود الحكومية
رغم مزاياها الكثيرة وحاجة اقتصادنا لها، إلا أن الخطوات لتحفيزها ما تزال خجولة ودون المأمول بكثير، إذ يبلغ إجمالي المشروعات في دمشق وريفها 600 مشروع منها 114 مشروعاً منذ بداية هذا العام وحتى الشهر التاسع، أغلبها مواد غذائية، منظفات، خياطة، صالونات حلاقة، وكونسروة، ومواد العناية بالبشرة، حسب مدير فرع الهيئة في دمشق وريفها خلدون جيرودي.
كما أن هناك تبعثراً في الجهود الحكومية في هذا الاتجاه، بسبب توجه بعض المستفيدين للتسجيل لدى جهات ووزارات أخرى، في وقت يجب أن تكون فيه الهيئة هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن تنظيم وتأسيس هذه المشروعات، ضمن سجل وطني للمشروعات، يجمع كل البيانات المتعلقة بهذه المشروعات، ويربط بينها، حيث يكون المستفيد قادراً على تحديد الجهة التي سيذهب إليها، لأن تعدد الجهات قد يشتت المستفيد ولا يوجهه إلى الطريق الصحيح.
90 بالمئة في اقتصاد الظل
ويعود سبب إحجام أصحاب المشروعات عن التسجيل لدى الهيئة ووجود 90% منها في اقتصاد الظل، إلى الخوف من الإجراءات الحكومية الروتينية المعقدة والتراخيص التي تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، وللهروب من الالتزامات أمام المالية والتأمينات الاجتماعية، حسب جيرودي.
إجراءات مبسطة جداً
لكن التخوف من الإجراءات الحكومية عملت الهيئة على تبديده، عن طريق تبسيط إجراءات التسجيل بشكل كبير، ويؤكد جيرودي هنا أن الأساس للبدء بأي مشروع هو المقابلة الشخصية لتوجيه صاحب المشروع وبلورة أفكاره ومواهبه بالاتجاه الصحيح، وبعدها لا يحتاج إلا إلى ورقة واحدة فقط، وخلال يومين فقط يصدر سجل تجاري مؤقت خاص بصاحب المشروع مجاناً لـ5 سنوات يتجدد بشكل تلقائي.
مزايا كثيرة
إلى جانب هذه الإجراءات المبسطة تقدم الهيئة مزايا وتسهيلات كبيرة جداً لكل المسجلين لديها، وفقاً لجيرودي، ومنها الدراسات الفنية والاقتصادية المجانية كدراسة الجدوى الاقتصادية للتوجيه باتجاه التمويل، إضافة إلى منحهم علامة تجارية، وسجلا تجاريا مجانيا، ناهيك عن المزايا الضريبية الكبيرة، والمشاركة باسم الهيئة في المعارض والمهرجانات المحلية والإقليمية والدولية.
جميعها ناجحة
تستمر الهيئة بمتابعة المشروعات التابعة لها، وهناك جولات ميدانية مستمرة لمتابعة عمل هذه المشروعات ومعالجة أي صعوبات تواجه أصحابها، وحاليا الـ٦٠٠ مشروع جميعها ناجحة وغير متعثرة، وفي حال تعرض أي مشروع للخسارة تتجه الهيئة مباشرة لمعرفة السبب فإذا كان تسويقيا على سبيل المثال نقوم بتكثيف حضور هذا المشروع في المعارض، إضافة إلى ربطه مع مشروعات أخرى تابعة للهيئة تساعده في تصريف منتجاته.
الهيئة تدعم التسويق عن طريق المعارض
المشروع الصغير هدفه الأساس الربحية في أسرع وقت، نظراً لصغر رأسماله ومحدودية استثماراته، ولكن المنتج مهما كانت جودته ومميزاته لن يحقق النجاح والربح المطلوب إن لم يكن هناك تسويق وترويج جيد له، وفي هذا المجال تعمل الهيئة على ترويج منتجات مشروعاتها عن طريق المشاركة بالمعارض وتشجيعهم على إجراء المقابلات الإعلامية للحديث عن منتجاتهم، والتشبيك مع رجال أعمال ومشروعات أكبر، إضافة إلى ربطهم مع مشروعات أخرى داخل الهيئة أي يصبح المشروع مصدّراً لمشروع آخر بما يعود بالنفع لكليهما.
كما تساعد الهيئة صاحب المنشأة في تطوير منتجه للتصدير، وفي هذا الإطار يؤكد جيرودي أن الهيئة تعمل على دورة نظام الجودة، تتعلق بالتغليف والترويج وهي دورة جديدة، لأن هناك عندنا بعض المشروعات المنطلقة أصبحت بضاعتهم جاهزة للتصدير ولكن أصحابها غير جاهزين لذلك، وهنا الهيئة تعمل على دعمهم من خلال خبراء مختصين في هذا المجال لتعريفهم بكيفية التسويق والترويج لمنتجاتهم سواء إلكترونياً أو في المعارض الخارجية.
تعديل تشريعات الهيئة
ولكن بالنظر إلى عمل الهيئة وما تقوم به، يرى الخبير الاقتصادي عبد الكريم خليل أن نجاح المشروعات الصغيرة يتطلب توافر مجموعة من الإجراءات والعوامل لأن الواقع الحالي للهيئة لا يدعم هذا التوجه، ولكي نكون واقعيين علينا أولاً العمل على تعديل تشريع الهيئة، وإعادة النظر في وظيفتها ودورها حيث لا تكون معنية بإحصاء عدد المشروعات فقط كما فعل أحد المديرين السابقين لها، لأن هذا الشيء بعيد عن أهداف التنمية ولا يؤتي أكله.
وهنا على الهيئة أولاً إحداث صندوق لتنمية المشروعات من دون إقرار، أي القصد هنا ليس هيئة تمنح قروضاً وإنما تقدم منحاً وهبات لأصحاب المهن المهجورة والشباب بلا مقابل، وفي نفس الوقت توجد جهة مرجعية أعلى تتابع وتضمن تسويق منتجات هذه المشروعات، وخاصة المهن التراثية المندثرة، للمحافظة على استمراريتها، فعلى سبيل المثال تقوم الهيئة بأخذ هذه المنتجات وتسلمها لجهة تسويقية أخرى كالسورية للتجارة وفقاً لرؤية خليل.
لماذا التراخيص..؟
عند حديث الهيئة عن تبسيط الإجراءات لديها يتساءل خليل لماذا هذه التراخيص، وجميعنا يعلم أن الترخيص مرتبط بقانون يفرض منح مثل هذا الترخيص، فمثلاً إذا كان الترخيص صناعياً يفرض القانون بهذه الحالة أن يكون إما حرفياً أو مشروعاً صناعياً، رغم أن هذا المشروع المتناهي في الصغر قد لا يكون أياً من النوعين السابقين بالتالي لماذا أمنح سجلاً تجارياً له التزاماته وهواجسه، فمن يأخذ السجل تفرض عليه قيود بموجب قانون الشركات والتجارة.
وهذا مشروع متناه في الصغر لا يحتاج إلى رخصة وسجل تجاري وإنما يحتاج إلى رعاية واقعية من جهة مرجعية مسؤولة، شبيه بما تقوم به الأمانة السورية للتنمية، تكون مولدة لبعض المهن، حيث تنتشر هذه النقاط التنموية في كل الأرياف بذات الوقت، مع السماح بنسبة إخفاق معينة طالما المشروع بني بطريقة صحيحة لكنه أخفق لسبب من الأسباب.
التفكير خارج الصندوق
كما يجب مقاربة أفكار شريحة الشباب الذين يملكون فكراً خلاقاً، من خلال مشاركة الهيئة معهم في توليد أفكار مميزة في ضوء الموارد المتاحة في كل منطقة، وأن نعمل على تحريض خريجي الجامعات كل حسب اختصاصه للاستفادة من معرفته التراكمية خلال دراسته، لإنجاز بعض الأمور عن طريق حوار مفتوح من خلال نقاط التنمية في كل تجمع ريفي بدلاً من الجلوس خلف المكاتب، وإعطاء الدورات التدريبية التي يترك بعدها صاحب المشروع في مهب الريح يصارع الواقع المرير، فعلى سبيل المثال هناك شريحة من الشباب تمتلك خبرات ومهارات كبيرة في مجال البرمجيات، لماذا لا نقوم بتأسيس شركة برمجيات بالاعتماد عليهم.
أي يجب وفقاً لخليل الانطلاق للعمل الميداني ومقابلة الناس لمعرفة أفكارهم وإمكانياتهم لنولد أفكاراً تصح لأن تكون مشروعات ناجحة، وبعدها نقدم منحاً عند التأكد من أهليتها وقدرتها على النجاح.
إشراك المجتمع المحلي
كل عمل يحتاج إلى خطة والحكومة وضعت خطة لهذا الملف وهناك إستراتيجية له، ولكن عند وضع أي إستراتيجية يجب ضمان نجاحها، وهنا هل أشركت الحكومة المعنيين بهذا الأمر من مجتمع محلي ورجال أعمال ناجحين في هذا المجال في وضع هذه الإستراتيجية لضمان نجاحها..؟
بمعنى آخر يجب أولاً اختبار هذه الإستراتيجية وفق خليل للتأكد من نجاحها وملاءمتها لظروف البلد ومن ثم نقرّها، أي نبدأ من الأسفل إلى الأعلى وليس العكس.
دعه يعمل دعه يمر
ولكي نكون واقعيين هناك ثلاث خطوات تفصلنا عن بداية الطريق وهي إلغاء المرسوم رقم 8 الخاص بحماية المستهلك الذي جاء وبالاً عليه بدل أن يكون حامياً له، كما يجب التخلي عن سياسة تجريم التعامل بالدولار، والعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل عام 2020 حين صدر المرسومان 3 و4 اللذان يجرّمان التعامل بالدولار ويقيدان حركة المال بتصور أمين سر غرفة صناعة حمص عصام تيزيني.
فكل الكلام الذي يقال والخطابات التي يلقيها المسؤولون عن تشجيع صغار المنتجين لن يؤتي ثمارا طالما أن التشنج والاشتراط هما سيدا الموقف، فعلى المسؤولين عن هذا الملف تغيير سلوكهم والابتعاد عن التسلط واحتكار الصح، والسماح لكل من يريد أن ينتج حتى ولو على الأسطح وفي الأقبية فالاشتراط الآن هو ضرب من ضروب الترف.
شروط غير مسوّغة
تعد المشروعات الصغيرة المكون الأساس في هيكل الإنتاج والاقتصاد في بلاد العالم، فهي تعمل في أنشطة متنوعة، وتغطي جزءاً كبيراً من احتياجات السوق المحلي، ولا تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة في عملها، بالمقابل تشجيع هذه المشروعات يساعد على تطوير التكنولوجيا والفنون الإنتاجية المحلية.
وتسهم بشكل فعال في حل مشكلة البطالة، وإيجاد فرص جديدة للعمل للأفراد من فئات عمرية مختلفة، ومن ذوي المؤهلات المختلفة المستويات ولفترات زمنية غير محدودة، وتوفر بيئة عمل ملائمة حيث يعمل صاحب المشروع والعاملون جنباً إلى جنب لمصلحتهم المشتركة، وغيرها من المزايا الكثيرة التي تؤكد ضرورة الاهتمام بهذه المشروعات لتحقيق أهدافها في إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد السوري ولكن هذا يحتاج لتوافر العديد من العوامل منها إعطاء امتيازات ضريبية وجمركية لأصحابها، والحد من الإجراءات الروتينية بسبب طبيعتها الهشة ورأسمالها المحدود، فهناك الكثير من الشروط للترخيص لبعض المشروعات، ويمكن وصفها «بغير المسوّغة» كشرط العمر والنوع وفيما إذا كانت تعود للإناث أو الرجال تؤكد الدكتورة في جامعة الاقتصاد في دمشق مي مخلوف..
أما ما يتعلق بمشكلة التمويل، فلا يمكن لأي مشروع الانطلاق بطريقة صحيحة ما لم يكن هناك تمويل كاف للبدء به، وهنا يجب تسهيل الإقراض ورفع سقوف القروض، وإعفاؤها من الفوائد، أو أن تكون النسبة محدودة للغاية، ومراعاة فترة السداد حيث لا تقل عن ٤ أشهر من انطلاق المشروع، ويفضل أن تكون هيئة تنمية المشروعات هي الجهة المسؤولة عن التمويل، ومتابعة التنفيذ، وليس فقط إقامة برامج تدريبية وتقديم النصائح للذين يتقدمون لترخيص مشروعاتهم.
وبعد البدء وانطلاق هذه المشروعات، هناك صعوبات تسويقية كبيرة تعترض أصحاب المشروعات، وقد تفاقمت بعد تدهور القدرة الشرائية وضعف إمكانات أصحاب هذه المشروعات وعدم قدرتهم على تسويق منتجاتهم، ورغم أن الهيئة تدعم هذا الجانب بالمعارض والمهرجانات إلا أن هذا لا يكفي ويبقى الخوف من الخسارة هاجساً يرافق أصحاب المشروعات.