هل المصارف قادرة على الإقراض بطريقة سليمة؟… الناتج المحلي 38 ألف مليار والمتوقع أن يصل هذا العام إلى 60 ألف مليار… خبير مصرفي لـ«الاقتصادية»: المصارف ما زالت تعمل بعقلية ما قبل الأزمة لقيم الإقراض
| حسن العبودي
تعد القروض واحدة من أهم مصادر التمويل في الاقتصاد نظراً لانتقال الأنظمة الاقتصادية في العالم إلى مراحل متقدمة من التطور والنمو وحسابات النقد في الاقتصاد، لذلك ازدادت نسبة القروض في أكثر دول العالم إلى نحو 100 بالمئة من الناتج الإجمالي لهذه الدول.
بمعنى آخر لقد أصبحت القروض مساهمة بشكل فعال في زيادة معدل النمو وتشغيل الأيدي العاملة مع تصريف السلع والخدمات التجارية.
وعالمياً تشير التقارير الاقتصادية إلى احتمالية ارتفاع مؤشر القروض ليبلغ 110 بالمئة إلى الناتج الإجمالي في ظل الظروف الراهنة التي تحيط بالعالم كله، ما يدل على تفعيل دور القروض في الاقتصاد الوطني لأي دولة، لكون أي شركة أو منشأة أو حتى معمل لا يستطيع العمل دون الحصول على قرض من البنك لذلك انتشر الشمول المالي بشكل واسع في الدول المتقدمة، في حين تسعى الدول النامية للحاق بها.
ماذا عن سورية؟
أما عن وضع البنوك والإقراض في سورية فيقول الدكتور في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق علي كنعان خلال حديثه مع «الاقتصادية» إن المصارف والبنوك في سورية لا تزال تعاني من آثار الأزمة التي تمر بها البلاد منذ نحو 13 عاماً، والتي أدت إلى ظواهر غير طبيعية في الاقتصاد السوري، الأمر الذي أثر في مناحي الحياة الاقتصادية كافة، بما فيها الودائع والقروض المصرفية.
إذ إن المصرف المركزي السوري كان قد سعى سابقاً لتقييد القروض خشية استخدامها في سوق الصرف، بما يخفض قيمة العملة الوطنية، لذلك منع المصارف من الإقراض في المرحلة الأولى من الحرب، لكنه وبعد حدوث الانفراجات في سورية بعد عام 2016 سمح للمصارف بالعودة إلى التمويل، مع التركيز على مجالات القروض التي تخص الإنتاج مثل الصناعات الغذائية وقروض التجزئة «الاستهلاكية» بهدف تحريك عجلة الاقتصاد.
دور التضخم
ويتابع كنعان بقوله: إن ارتفاع معدل التضخم الذي تعاني منه البلاد وخوف المصارف من أزمة مصرفية تتجسد بعدم القدرة على الدفع، دفع المصارف إلى التخفيف من إجراءات منح القروض بما يعني زيادة في نسبة السيولة المعطلة في البنوك بمقارنة بما يطلبه المركزي، التي تصل إلى 30 بالمئة من الإمكانيات كسيولة احتياطية، لكن السيولة المعطلة في البنوك وصلت إلى أكثر من 50 بالمئة، ما يدل على تجميد دور البنوك في تحريك عملية النمو الاقتصادي، لذلك نجد أن البنوك تتحفظ في منح القروض، والمستثمرون لا يقدمون على القروض، لأن الطلب على السلع والخدمات منخفض بسبب الأجور المتدنية والشح في تنوع مصادر الدخل، وبذلك تكون قد تضافرت كل الظروف مع بعضها بعضاً، لتجعل مصطلح القروض منخفضاً مقارنةً مع مرحلة ما قبل الأزمة.
أكبر مصرف في سورية
وكمثال لحركة المصارف من ناحية القروض لجأت: «الاقتصادية» إلى المصرف التجاري السوري باعتباره أكبر مصرف عامل في البلاد، إذ أوضح مدير مديرية المخاطر في المصرف التجاري السوري علي حبقة لـ«الاقتصادية» أن القروض الممنوحة من المصرف خلال النصف الأول من العام 2024 كانت موزعة وفق الآتي:
قروض استثمارية: لتمويل رأس المال العامل يدعم المشاريع وبالأخص الإنتاجية منها، وتمنح بضمانة المشروع نفسه سواء كان مشروعاً قائماً أم قيد الإنشاء وقد بلغت 72 مليار ليرة سورية.
قروض التجزئة وهي القروض الممنوحة للمواطنين لشراء سلع معينة من المؤسسات الحكومية مثل: الأدوات الكهربائية فقد بلغت 325 مليار ليرة سورية.
وأما قروض الطاقة المتجددة: فتبلغ 184 مليار ليرة سورية.
وقال حبقة لـ«الاقتصادية»: إنه وفق البيانات فتبلغ ودائع القطاع الخاص لدى المصرف خلال النصف الأول من العام الحالي نحو 2,925 مليار ليرة كودائع تحت الطلب، و91 ملياراً ودائع لأجل، و167 ملياراً ودائع توفير.
ووفقاً لبيانات وزارة المالية السنوية فقد بلغت القروض الممنوحة من جميع المصارف العامة خلال العام 2023 ما يقارب /1288/ مليار ل. س توزعت وفق ما يلي: المصرف التجاري السوري /450/ مليار ل.س، والمصرف العقاري /170/ مليار ل.س، والمصرف الزراعي التعاوني /249/ مليار ل.س، ومصرف التوفير /166/ مليار ل.س، المصرف الصناعي /30/ مليار ل.س، ومصرف التسليف الشعبي /223/ مليار ل.س.
الودائع
وبعملية تحليلية لواقع البنوك السورية بالاعتماد على بيانات المصرف التجاري السوري باعتباره أكبرها قال كنعان: يعتبر حجم الودائع في البنك التجاري السوري والذي يشكل بين 60 لـ70 بالمئة من حجم النظام المصرفي في سورية، فبالنظر لحجم الودائع البالغ 3 تريليونات و283 مليار ليرة خلال النصف الأول من العام، فتعتبر قليلة مقارنة مع حجم الناتج المحلي الإجمالي المفصح عنه والبالغ 38 تريليون ليرة سورية، فالنسبة ستكون 7 بالمئة فقط.
وبالنظر إلى مجموع المصارف الباقية بالاعتماد على التجاري السوري كنموذج فستكون النسبة قليلة جداً، رغم عدم توافر الإحصائية الكاملة.
ويمكن القول إن النسبة المتدنية تعود لعامل التضخم لكون المودع عند الإيداع سيخسر قيمة التضخم من رأس المال، فمثلاً إذ وضع مستثمر وديعة بالبنك مقدارها مليار وكانت نسبة التضخم 10 بالمئة فإنه سيخسر 100 مليون ليرة سورية.
وتابع كنعان بقوله حجم الفائدة سيكون أقل من معدل الربح، لذلك الناس لا تقدم كثيراً على الإيداع في البنوك بسبب التضخم من جهة وقيود السحب التي قررها المركزي السوري من جهة أخرى، إذ يُمنع المودعون من سحب مبالغ كبيرة إذا اضطروا، فحدد لهم يومياً مقدار سحب يبلغ 15 مليون ليرة سورية، وبالتالي من يرد أن يسحب مليار ليرة فهو بحاجة إلى شهرين أو 3 أشهر، الأمر الذي يقيد عمليات الإيداع.
بالإضافة إلى ذلك فإن حركة سعر الصرف سواء صعوداً أم هبوطاً تقلل أيضاً من عمليات الإيداع، وإذا أخذنا معدلات الإيداع العالمية فنحن بعيدون جداً عنها، على الرغم من السعي لإشاعة الدفع الإلكتروني الذي يحتاج إلى سهولة في السحب والإيداع وعدم وجود قيود، وتوافر نقاط البيع في كل المتاجر، والسماح بعمليات نقل وتحويل وإجراء العمليات المصرفية كافة.
وفي ختام الحديث عن الودائع قال كنعان: إذا كانت نسبة الودائع قليلة فمن أين ستوظف البنوك بخدمة القروض إذا كانت ودائعها قليلة، ومع ذلك فالودائع الموجودة كافية لتحريك عجلة الإنتاج.
حركة القروض وتأثيراتها
وبالنظر إلى حجم القروض الممنوحة من التجاري السوري «واعتماده نموذجاً يمكن إسقاطه على بقية البنوك»، يبلغ إجمالي القروض التي منحها التجاري في 6 أشهر 581 مليار ليرة سورية، وبإسقاط هذه النسبة على بقية المصارف، يمكن القول إن حجم القروض قليل.
ويرجع الدكتور كنعان السبب في ذلك لعد أمور أولها إن المركزي وضع قيوداً في الإقراض على البنوك، أولها توجيه المبالغ المقرضة إلى أعمال إما إنشائية، أو شركات غذائية، وبالتالي إلغاء القروض التجارية والعقارية، وعليه أصبح هناك جزءان كبيران من الاقتصاد الوطني مغيبان عن القروض ولا يستطيعان الحصول عليها.
والأمر الثاني وفق كنعان هو الظروف الإنتاجية وغلاء المواد الأولية على المنتج نفسه لا تساعده على زيادة الإنتاج أو إقامة منشأة جديدة، فالمستثمرون يحجمون عن إقامة شركات جديدة أو توسيع الشركات القائمة، ما يقلل الطلب على القروض، لذلك يلاحظ قلة القروض الاستثمارية والبالغة 72 ملياراً فقط من إجمالي قروض التجاري السوري.
وأما فيما يخص قروض التجزئة «الاستهلاكية» والبالغة 325 مليار ليرة، فهي أيضاً قليلة إذا ما قورنت مع حجم التجارة والاستهلاك في الاقتصاد الوطني السوري، أما فيما يخص مشاريع الطاقة فإن إجمالي القروض الممنوحة فتعتبر كافية.
ويقول كنعان إنه بالنظر إلى إجمالي القروض الممنوحة من التجاري فهي لا تشكل أكثر من 17 بالمئة من حجم الودائع، وبالتالي يمكن القول إن السيولة كبيرة ومجمدة لدى التجاري السوري ولدى أكثر البنوك، بسبب الظروف التي نعيشها، وحالتي التضخم، والتقييد التي يقوم بها المركزي والتي يعتبر محقاً بها لكونه يسعى لدعم وتثبيت سعر الصرف.
ماذا عن القروض الشخصية؟
وحول إيقاف استلام طلبات القروض الشخصية الذي حصل منذ فترة في أغلب المصارف، والذي أعاده مديرو المصارف التي أوقفت الاستلام بكثرة الطلبات، أو خلق خطة جديدة للإقراض تتناسب مع إمكانيات الفروع قال كنعان: إن هناك تخوفاً من البنوك بعدم قدرة المقترضين على السداد، وبالتالي تنشأ حالات تعثر جديدة لدى البنوك، لذلك تفضل البنوك عادة التريث والتوقف عن الإقراض بدلاً من التعثر، لكن بشكل عام قروض التجزئة لا يمكن النظر إليها بأنها قروض كبيرة للاقتصاد، مثل القروض الإنشائية التي تذهب لتأسيس منشآت وشركات ومصانع جديدة.
أهمية القروض العقارية
وحول أهمية القطاع العقاري وضرورة منحه قروضاً تدفعه نحو التحرك قال كنعان: القطاع العقاري إذا تحرك يحرك كل الأنشطة الاقتصادية للاقتصاد الوطني والمهن والتجارة بأنواعها، ففي كل الدول المتقدمة عندما يحصل جمود في القطاع العقاري ينعكس على الاقتصاد الوطني، وعلى العكس عندما تنشطر حركة البناء ينشط الاقتصاد الوطني بشكل كامل.
ويمكن القول وفق كنعان إن القطاع العقاري من ناحية القروض مجمد، والمطلوب استئناف القروض لكل القطاعات وليس القطاع العقاري وحده، بل يضاف لها قطاع الصناعة والزراعة، وإذا ما تحرك قطاع البناء فيصبح قطاعا الصناعة والعقارات قاطرة نهوض للاقتصاد السوري.
ماذا عن المبالغ الممنوحة؟
وبالنظر إلى الأسعار المرتفعة وقيمة القروض التي لا تؤدي الغرض المطلوب منها قال كنعان: إن إقامة أي منشأة مهما كان شكلها ستكلف أكثر من مليار ليرة سورية بسبب ارتفاع الأسعار، وكلمة مليار في البنوك كلمة كبير جداً، فموظفو المصارف والعاملون في المركزي لا يعون ما معنى مليار، لا يزالون يفكرون بمرحلة ما قبل الأزمة وإن المليار ليرة قد يصنع المعجزات.
بالمقابل إذا أراد الصناعي تأسيس معمل سيحتاج إلى 10 أو 15 ملياراً كحد أدنى، لأن الأسعار ارتفعت بمقدار 300 ضعف مقارنة بمرحلة ما قبل الأزمة، وبالتالي إذا كنا نمنح ما قبل الأزمة ملياراً يجب أن تمنحه المصارف بمقدار 300 مليار، والبنوك لا تزال متحفظة على هذه الحالة وتؤمن بمبدأ الرفع التدريجي للقروض، والمستثمر عندما يجد أن مشروعه يكلف 10 مليارات مثلاً والبنك سيعطيه ملياراً فقط، فلن يقدم على هذا التمويل وقد يلغي الاستثمار بالكامل.
ويتابع كنعان بقوله: في كل دول العالم التمويل يتجاوز 50 بالمئة من قيمة المنشأة، فإذا لم تقدم البنوك هذا التمويل فلن يقوم المستثمرون بالعمل أو الإنتاج مجدداً.
طرق السداد
وحول تخوف البنوك من منح مبالغ عالية بضمانة المنشأة وبالمقابل تعثر المشروع مثلاً أو عدم كفاءة المنشأة لتعويض قيمة القرض بسبب التضخم قال كنعان: إنه إذا راقب البنك إقامة المنشأة وكانت فعلاً منشأة حقيقية، فيستحيل أن تتعثر المنشأة، لكون الأسعار مرتفعة والأرباح عالية، لذلك على البنوك أن تتجرأ وتقدم على القروض.
وأكد كنعان أن البنوك عادة ما تفتح القروض في مراحل إعادة الإعمار، بشكل كبير بهدف ما يمكن تسميته قطف زهر السوق «تحقيق مرابح»، فعلى البنوك الآن التوسع بالإقراض كي تظهر منشآت ومؤسسات جديدة تكون نواة للتطور، وربح البنوك.
القروض الشخصية
وأما عن القروض الاستهلاكية التي أصبحت لا تقدم شيئاً بسبب الغلاء وثبات قيم القروض فقال كنعان: إن البنوك تعاني من مشاكل كبيرة تتعلق بأن ضمانات الرواتب والأجور غير قادرة على تسديد قيم القروض العالية، لذلك نجد إحجاماً أحياناً عن منح القروض أو رفع سقفها.
وأما عن تقديم ضمانات عقارية للقروض فقال كنعان: إن البنوك تريد ضمانات عقارية شروطها تنطبق على العقارات في مراكز المدن، والتي أصبحت قليلة جداً، وإن أطراف المدن كلها مناطق عشوائية ليس لها قيود، وبالتالي لا يمكن اعتبارها ضمانات وكذلك الريف.
ويشير كنعان إلى أنه إذا أخذنا دمشق مثالاً فهناك 60 بالمئة منها يقع في المخالفات، وبالتالي لا تدخل ضمن الضمانات المصرفية، لافتاً إلى أن هذه المشكلة كانت الأزمة، وتم حينها اقتراح اعتبار هذه الأبنية نظامية وتثبيتها بشكل نظامي للسماح للبنوك باعتمادها ضماناً، لكن لم تحل هذه المشكلة حتى اللحظة.
وختاماً للحديث قال كنعان إن الناتج الإجمالي للبلاد خلال 2023 كان 38 تريليون ليرة، في حين من المتوقع أن يتجاوز الـ60 تريليوناً خلال العام الحالي، وبالتالي فهناك إمكانية كبيرة لتوسيع القروض وتلبية متطلباتها، ولاسيما أن توسع القروض يكون استناداً إلى الناتج، وطالما أن الناتج بدأ ينمو وبدأت الحركة الصناعية والتجارية بمنح القروض، والضمانات فعلاً هي حجر عثرة لكونها قليلة وبالتالي من الممكن أن تساعد مؤسسة ضمان مخاطر القروض في ذلك بعد توسيع إمكانياتها، ومن الممكن أن يتم تأسيس شركة أخرى تدعم المقترضين.