حياة صعبة… تدفع السوريين للهجرة… الهجرة كانت بحثاً عن «عمل» والآن بحثاً عن «الحياة» … خسائر فادحة بالأدمغة والكوادر العلمية والشباب المعطاء سيدفع البلد ثمنها لاحقاً… هجرة رجال الأعمال أحدثت صدمة للاقتصاد
| غزل إبراهيم
تواصل أعداد المهاجرين بالازدياد عاماً بعد آخر في سورية، ولاسيما هجرة الأدمغة والكفاءات، وذلك في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة منذ سنوات، والأكثر حرصاً على هذه الهجرة هم الحاصلون على شهادات جامعية ومستويات تعليمية أعلى. فالبحث عن حياة ومستقبل أفضل أصبح هاجس كل سوري بعد سنوات الحرب الطويلة والضغوط الاقتصادية الحالية، حيث خسرت سورية خيرة شبابها وكفاءاتها، إذ قدرت أعداد المهاجرين وفق تقارير الأمم المتحدة والتقارير الدولية بأكثر من 7 ملايين مهاجر.
مليون مهاجر سوري
وفي الوقت نفسه، يبحث السوري المقيم عن فرص الهجرة سواء الهجرة الشرعية أم الهجرة غير الشرعية، ليحقق حياة أفضل وسط استمرار الظروف الصعبة وانخفاض الدخل بعد ما فشلت الحكومة في تأمين فرص عمل ومستوى اقتصادي لائق واستقرار اجتماعي وملفنا هنا يتطرق إلى أزمة الهجرة وتحديداً هجرة الأدمغة، التي جعلت الوطن يخسر العديد من المفكرين والاقتصاديين والعلماء الذين وجدوا في بلاد الاغتراب ما افتقدوه في وطنهم الأم.
الأرقام والإحصائيات
لا معلومات دقيقة عن اللاجئين السوريين في الخارج، وحاليّاً يعمل المركز الوطني للإحصاء على إحصاء أعدادهم وخصائصهم من القوة العاملة والعمر والجنس.
وفي هذا الصدد يؤكد عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانيّة جمعة حجازي أن موضوع الإحصائيات يحتاج إلى دراسة تفصيلية تتطلب بحوثاً علمية وأكاديمية ومنهجية وقطاعية لتحديد الفاقد البشري بشكل واضح من هذه القطاعات، ولكن إذا قمنا بإجراء استقصاء في القطاعات الاقتصادية نلاحظ وجود فجوة كبيرة.
وحاليّاً المعهد لديه حوالات لقياس أثر الهجرة في القطاعات الاقتصادية والإنتاجية، وسيتم الإعلان عنها في الوقت المناسب.
ولكن وفق تقديرات منظمات الأمم المتحدة، بلغ عدد المهاجرين السوريين حول العالم نحو 7 ملايين سوري.
في حين بلغ صافي الهجرة قبل الأزمة حسب جمعة نحو 300 ألف، وشكل معدلاً تراكمياً خلال العقود ما قبل الأزمة وتراوح صافي الهجرة بين الـ2300 إلى 3 ملايين لمصلحة الهجرة خارج البلاد، وكانت إلى لبنان بالدرجة الأولى وإلى الخليج بالدرجة الثانية، ولم تكن هناك هجرات سورية إلى أوروبا نتيجة عوامل عديدة.
وموجات الهجرة هذه لها منعكسات خطيرة على بنية المجتمع السوري.
الأخطر
تعتبر هجرة العقول التي تشمل فئات عمرية مختلفة وعدة مهن بينهم أطباء وأساتذة وتقنيون من أخطر آثار الهجرة السورية، فمغادرة الكفاءات تفرض حالة فراغ في المواقع التي غادرت منها، وتقلل من المستوى الثقافي والعلمي في البلد، لأن الأشخاص الذين يغادرون لديهم المعرفة والمهارات، وعندما سيعيد الاقتصاد تأسيس نفسه، سيفتقر إلى رأسماله البشري، وسوف نشهد تباطؤاً في الانتعاش والنمو الاقتصادي.
ويرى حجازي أن هجرة الأدمغة هي مشكلة قديمة حديثة، فهناك مجتمعات واقتصادات في العالم وخصوصاً الاقتصادات النامية التي تصدر موارد بشرية مؤهلة غير قادر السوق المحلية لديها على استيعابها، فيتم اللجوء إلى دول أخرى واقتصاديات أوسع وأكثر تطوراً.
وموجات الهجرة السورية قديمة جداً ومعظمها كانت شبابية بحثاً عن فرص وتعليم وحياة أفضل، ومنها الهجرة إلى الأميركيتين والهجرة إلى دول الخليج إبان الفورة النفطية.
ولدينا الهجرة إلى الدول المجاورة، مثل لبنان والأردن والهجرة إلى اليمن والجزائر، حيث تم تصدير كفاءات سورية عملت في مجالات عدة، منها تدريس اللغة العربية.
وعلى الرغم من امتلاك سورية لأجيال مواكبة، فإن الظروف لم تتحسن بعد، ولا يمكن سد هذه الثغرة حالياً، وفقاً للخبير الاقتصادي الدكتور هاني حداد.
وهذا يضعنا في خطر هجرتهم أيضاً بعد تعلمهم واكتسابهم الخبرات اللازمة، فمعظم الأطباء والعقول التي تشغل مناصب كبيرة في الخارج هم سوريون تميزوا وبرعوا في الخارج، ومن الصعب جداً عودتهم إلى البلد إلا كزيارة أو سياحة، لأنهم كوّنوا كينونتهم المستقلة، وحياتهم أصبحت مختلفة تماماً بثقافة جديدة وعلاقات اجتماعية ونسيج مختلف واقتصاد جديد، بعيداً عن أي ظروف سلبية سواء اقتصادية أم اجتماعية أو نفسية قد تؤثر عليهم، ولن يفكروا أبدأ بالعودة من حياة ثابتة إلى متقلبة.
نقص المهارات
انعكاس الهجرة لم يقتصر فقط على حاملي الشهادات الجامعيّة، وهناك نقص في المهارات، سواء للفئة الأولى أم الثانية من مخبريين وفنيين، إضافة إلى عمال المهارات الذين يعملون في الأعمال المهنية والفنية، الذين شكلوا فجوة في سوق العمل نتيجة هجرة قسم كبير منهم.
عجز سوق العمل
إبان الحرب أصبح هناك مشكلة هيكلية بالاقتصاد السوري، وأصبح من الصعب لسوق العمل استقطاب كل الخريجين، وخاصة في ظل الإقبال الكبير على التعليم والدراسات العليا، فالمجتمع السوري يحب العلم، وهناك نسبة كبيرة من المتعلمين فيه، ولكن نتيجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن العقوبات والانكماش، عجزت سوق العمل عن استيعاب 25 – 300 ألف وافد جديد سنوياً إلى السوق وخصوصاً بالاختصاصات التطبيقية كالكليات الطبية والهندسات..
وهنا يشير جمعة إلى أن الهجرة ليست فقط من العمالة الماهرة، فهي من العمالة الماهرة وغير الماهرة، ويمكن أن يكون أثر الهجرة في العمالة غير الماهرة أكبر في القطاعات المهنية والفنية.
أسباب الهجرة
أسباب عديدة تدفع السوريين لمغادرة بلدهم، إلا أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة وعدم وجود أفق للخروج منها أحد أهم أسباب الهجرة، بالإضافة إلى تراجع كبير في الخدمات الحياتية الأساسية كالمياه والكهرباء.
حيث أثرت الحرب بشكل كبير ودفعت الملايين للهرب خوفاً من الموت على يد الجماعات الإرهابية المسلحة، ولكن رغم عودة الاستقرار إلى أغلب المناطق السورية، استمرت موجات الهجرة، وأخذت الحرب على سورية منحى آخر أشد خطورة من خلال العقوبات والضغوط الاقتصاديّة.
فالإنسان السوري حالياً يقاوم ضغوطاً حياتية هائلة من ضعف الرواتب والأجور والبطالة وتحديات تكوين أسرة وظروف العمل والسكن والنقل إلى هشاشة البنية التحتية اللوجستية في ظل ضعف الأداء الحكومي وعجزه عن إيجاد حلول فعالة، لإنعاش الاقتصاد وتوفير الكهرباء بشكل جيد.
ويرى حداد أن انتشار الفساد والمحسوبيات والروتين الإداري القاتل أيضاً من أسباب ضعف أداء الاقتصاد وتردي المعيشة، والمشكلة هنا أن لا حلول في الأفق القريب، وأصبحت الهجرة والبحث عن حياة أفضل هاجسَ وهدف كل سوري لا يزال داخل البلد.
حلول للحد من الهجرة
حالياً من الصعب الحد من الهجرة نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة وضيق العيش، ولكن يجب أن يبحث المعنيون عن حلول حقيقية لإيقاف هذا النزيف ومنها توليد فرص عمل، وتخفيف بعض الإجراءات والتوسع بإقامة مشاريع إنتاجية واقتصادية والعمل قدر الإمكان على استقطاب رؤوس الأموال في السوق المحلية.
توفير فرص عمل
تواجه سورية في المرحلة الحالية تحديات كبيرة وغير مسبوقة في حدّتها والنتائج المصيرية المترتبة عليها، وإذا كانت البطالة واحدة من التحديات التي تواجهها، فإن مواجهتها وتقليص أبعادها يمنح سورية قدرة أكبر في مواجهة التحديات الأخرى، ويتضح أن مواجهة البطالة مفتاح في مواجهة تحديات الانفتاح الاقتصادي والشراكات مع الدول العربية والعالم الخارجي.
وهنا يجب على الدولة الاهتمام بفئة الشباب عن طريق إيجاد المشاريع التي تستوعب طاقاتهم، ويستطيعون من خلالها الإبداع في عملهم، وتطوير التعليم في الدولة إلى مستوياتٍ تناسب احتياجات ومتطلبات السوق المتطورة والمتلاحقة لتواكب متطلبات العصر، ودعم وتشجيع التعاون مع القطاع الخاص ليساهم هو الآخر في حلّ مشكلة البطالة.
تحسين الدخل
مشكلة الرواتب والأجور الزهيدة في سورية، وعدم تناسبها مع التضخم الحاصل، أيضاً تعتبر من الأمور الضاغطة على السوريين وتدفعهم إلى التفكير بتأمين حياة كريمة، لذا يجب تحسين الرواتب والأجور بشكل كبير بما يتناسب مع الغلاء الفاحش، ويؤمن عيشة كريمة للمواطنين.. فهل من المنطقي اليوم أن يكون دخل السوري قرابة الـ400 ألف ليرة بالمتوسط واحتياجاته تزيد على 4 ملايين ليرة سورية؟! أي معادلة تلك التي ستقنع جيل الشباب وغيرهم من الكفاءات بهذا الدخل الهزيل؟ دخل غير متناسب مطلقاً مع الاحتياجات الأساسية التي تتصاعد تكاليفها يوماً بعد آخر!
التشجيع على الاستثمار
تقديم التسهيلات لإقامة المشاريع بمختلف أنواعها، وتخفيض الضرائب والرسوم المفروضة، وتوزيع الاستثمارات بين القطاعات والوحدات، إضافة إلى تأمين البنية التحتية اللازمة لهذه الاستثمارات وخاصة الكهرباء ومصادر الطاقة، لتشجيع من هاجر من الصناعيين للعودة.
حيث شكّلت هجرة الصناعيين صدمة كبيرة للاقتصاد السوري، وبلغ عدد رجال الأعمال في مصر على سبيل المثال حسب الخبير الاقتصادي أحمد شرم الـ30 ألفاً، وبلغت استثماراتهم 800 ألف دولار بعدة صناعات أهمها النسيجية وصناعة الورق والصناعات البلاستيكية والدوائية، وتم استيعاب 50 ألف فرصة عمل للسوريين والمصريين، وقد بلغ عدد المنشآت (الورش الصغيرة والمصانع) بـ3 آلاف، في حين وصل أعداد أصحابها إلى 15 ألف شخص، ويتم ضخ ما يقارب 100 مليون قطعة منتجة للأسواق المصرية شهرياً.
ويؤكد شرم أن المهاجرين السوريين ساهموا بأكثر من 50 ألف شركة سورية صغيرة ومتوسطة بمليارات الدولارات في الاستثمار الداخلي والتصدير إلى الخارج في عدة دول في العالم، وقد ساهم الحرفيون والطبقة العاملة المنتجة والماهرة، برفع عملية الإنتاج وفعلت عملية التصدير لجميع أنحاء العالم.
القضاء على المحسوبية والواسطات
تعتبر ظاهرة الفساد الإداري والمالي من الآفات التي تعوق تقدم البلد والمجتمع بأكمله، وتساعد على نهب ثرواته، وتمنع حركة العمران والتقدم وتحقيق الرفاهية الاقتصادية، وتتم معالجتها عن طريق كسب الكوادر المؤهلة والمدربة والنزيهة وتنشيط العمل الرقابي.
وزارة للشباب
أيضاً إحداث وزارة للشباب تعنى بإعداد الشباب ودعمهم وتنميتهم وبناء قدراتهم، وتهتم بهمومهم وقضاياهم، لكونهم عِماد التنمية المستدامة ومحرك التغيير الإيجابي في المجتمع، حيث يشكل الشباب الشريحة العمرية الأكبر من سكان سورية، وهم أصحاب الطموح والطاقة الكبيرة التي يمكن أن تستخدم بشكل فعَّال لبناء مستقبل مزدهر ومستدام.
إقامة معارض ومؤتمرات
إقامة مؤتمرات علمية وطبية وهندسية، ودعوة العديد من المغتربين لحضورها وخاصة أصحاب الكفاءات المميزة، للاستفادة من خبراتهم وضخ معلومات جديدة في مختلف المجالات.
الحوالات المالية
أحد الآثار السلبية للهجرة هو اعتماد سورية على التحويلات بدلاً من تعزيز قطاعات البلد الإنتاجية وتوفير فرص عمل للشباب.
فهذه التدفقات تستخدم في الاستيراد، وليست عملة استثمارية تم تحقيقها من خلال المشاريع، فالتحويلات تلعب دوراً حيوياً في مساعدة العائلات السورية وسط الأزمة الحالية، لكنها تبقى جزءاً من الاقتصاد الريعي الذي يعتبر بنية غير منتجة.
وهكذا يتبين أن الرغبة لدى أغلبية السوريين، أينما كانوا، لا تزال تتنامى للهجرة والبحث عن مكان للجوء والعمل، يحدوها شيوع إحساس عام بانسداد الأفق وانعدام الأمل بخلاص قريب، أو على الأقل باستعادة حياة عامة، تهتكت مقوماتها، فكيف الحال، وثمة يقين عندها بأن القادم سيكون أسوأ… إن بالعجز عن توفير أبسط مستلزمات العيش، كالغذاء والكساء، وإن بصعوبة التكيف مع شح الماء والكهرباء ووقود التدفئة، وإن بتراجع الخدمات التعليمية والصحية وفقدان فرص العمل، وكيف الحال وقد بات هاجس معظم الشباب الهروب من أوضاع كهذه، إلى ما يحدو البعض من حالة قلق وخوف عامة من انحسار شروط الأمن والسلامة، وحصول العديد من الحوادث البشعة. وغيرها من المسائل كلها تشكل دافعاً عند الناس لتفضيل خيار الهجرة.
هل ستفرد الحكومة المنتظرة حيزاً واسعاً لمناقشة واقع الهجرة أسباباً وحلولاً؟ هل من خطوات إضافية كالتي أخذتها بعض الإدارات في سلك خدمة العلم وتقليل سنوات الاحتفاظ، وكانت إجراءات إيجابية عند جيل الشباب. فهناك خطوات على الحكومة المقبلة أن تتخذها وتسرع بكل ما يعزز تحقيق انطلاقة بالمشروعات التي ستحقق عوائد ونفعاً اقتصادياً، لعل بذلك يعجل من دوران عجلة الإنتاج، وتبدأ شرايين التنمية بضخ دماء النماء والحياة.