أين وصلنا في التوطين الصناعي ببدائل المستوردات؟… علي: منتجات بدأ توطينها مانع الرغوة للدهانات والصناعات النسيجية والمنظفات ومواد بيئية
|محمود الصالح
شهدت عملية إعادة التعافي التي تنتهجها سورية الكثير من العقبات، منها ضعف الموارد المحلية، وتناقص الخبرات الفنية، لكن العقبة الأهم كانت الحصار الظالم الذي فرضته دول العدوان على سورية خلال السنوات الماضية.
هذا الواقع فرض على البلاد البحث عن البدائل الوطنية للكثير من المواد والمنتجات الأساسية التي تحتاجها عملية التنمية، وبالتالي بدأ التفكير في التوطين الصناعي لبدائل المستوردات، وبالرغم من الخطوات الخجولة التي أنجزت في هذا الجانب، لكن الهيئة العليا للبحث العلمي شكلت مجموعات وطنية للعمل على توطين بدائل المستوردات.
للحديث عن كل هذه العناوين التقت «الاقتصادية» الباحث عمار علي الذي قال: إنه للحديث عن مفاهيم التوطين الصناعي لبدائل المستوردات لابد بداية من تشخيص حالة المنظومات الصناعية القطاعية الوطنية لاسيما أن انخفاض مستوى الأداء الاقتصادي يمكن اعتباره سمة عامة لكل القطاعات الصناعية بغض النظر عن ملكيتها سواء أكانت قطاعاً عاماً أو خاصاً.
وبعيداً عن الخوض في النظريات الاقتصادية سواء التقليدية منها التي تعتمد مفاهيم ليبرالية بحتة أم على المقلب الآخر المكتب الاقتصادي الذي يعتمد نظرية التطور أساساً له لابد من التركيز على تجارب الدول التي قامت بتطبيق مفاهيم اقتصادية هجينة والأمثلة كثيرة على ذلك في آسيا بالإضافة إلى إجراء تحليل عميق للإعدادات أو البيئة التي تعمل في ظلها المنظومة الصناعية والتي تعد منعكساً لسلة السياسات الصناعية القطاعية المطبقة على القطاع والتي في نهاية المطاف تؤدي إما إلى تنشيط المنظومة الصناعية القطاعية أو بقائها في مستوى منخفض من الأداء الاقتصادي.
وبالعودة إلى موضوع توطين بدائل المستوردات الذي لا يعد هدفاً بحد ذاته إلا إذا كان محركاً للمنظومة الصناعية وهذا المحرك على الأقل في الأدبيات الاقتصادية المتداولة اليوم هو الإبداع بالمفهوم الشومبيتري الذي ينتج عنه خلق قيمة اقتصادية.
هل يمكن الانتقال من الحالة المنفعلة للحالة الفاعلة؟
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل يمكن للبلاد الانتقال بالمنظومات الصناعية من الحالة المنفعلة إلى الحالة الفعالة في إطار اقتصاد معرفي في ظل منظومات صناعية منهكة سواء مالياً أم على مستوى البنى التحتية والمعدات؟
الأمر الآخر لا بد بداية من الفهم العميق للقطاعات الصناعية والإمكانات والموارد المتاحة على المستوى الوطني بكل أشكالها واستخراج خريطة صناعية للقطاعات كل على حدة وإجراء تحليل على المستوى القطاعي لتحديد نقاط الضعف والقوة والفرص والتهديدات التي يواجهها كل قطاع صناعي بالإضافة إلى تحليل عابر للقطاعات والمستويات الاقتصادية لاستخراج أسباب القصور في الأداء ومسبباته لوضع السيناريو الأفضل لمعالجتها من خلال سلة سياسة صناعية واضحة الأهداف والآليات وبالتالي العمل على معالجة الأسباب لا التخفيف من حدة النتائج.
وفي خضم هذه المفاهيم لابد من نقاش مخرجات ونتائج كل مرحلة لتحديد واقع القطاعات الصناعية بالإضافة إلى إجراء مسح للموجات أو التوجهات التكنولوجية العالمية والإمكانات المحلية المتوافرة لوضع سيناريوهات متنوعة واختيار الأفضل لرؤية مستقبلية بخطا واثقة.
على كل حال من المفاهيم المهمة التي يجب فهمها بعمق قبل أي خطوة باتجاه التوطين الصناعي لبدائل المستوردات حتى لا تتحول البلاد إلى مستودع للآلات والمعدات المستوردة هي أنماط القطاع الصناعي والتي تقسم إلى قطاعات تقليدية تسيطر عليها سلاسل تزويد التكنولوجية وذات الإنتاج الغزير والمعتمدة على البحث العلمي والمعرفة.
إن خيار توطين الصناعات المعتمدة على العلم والمعرفة لاسيما في ظل سيولة شحيحة والحاجة إلى مشروعات غير نمطية وفي إطار تنمية مستدامة قدر الإمكان يعد من أهم الخيارات التي من المهم أن تأخذ مكانها في قلب المنظومة الاقتصادية الوطنية مع إعادة هيكلة الاقتصاد في مرحلة إعادة الإعمار والأمثلة كثيرة على هذا النمط القطاعي كالصناعات الكيميائية والهندسية.
إن أي عملية توطين صناعي في أي قطاع لابد لها أن تساهم في إيجاد بدائل للمواد المستوردة والتي تعد مهمة كمدخلات إنتاج للصناعات المحلية بالإضافة إلى أهمية ضبط نفقات المنتجات المحلية وتخفيض ارتباطها بتقلبات سعر الصرف وتخفيض فاتورة القطع الأجنبي وتحسين واقع الإنتاج المحلي بتأمين استقرار في مدخلات الإنتاج.
من المفيد الإشارة إلى تجربة من الممكن أنها الأولى من نوعها على الرغم من العثرات التي واجهتها والحاجة إلى العمل على تطويرها تدريجياً وفقاً للأولويات للاحتياجات الصناعية والتي أنجزت بإمكانيات محدودة وهي مشروع لتوطين بدائل المستوردات لمواد كيميائية تستخدم في قطاعات مختلفة والذي تم بإشراف ودعم الهيئة العليا للبحث العلمي التابعة لوزارة التعليم العالي وكانت وزارة الصناعة مساهمة في إنجازه وتمت عملية التوطين لدى إحدى شركاتها وقد استمر العمل على إنجاز المشروع من مجموعة عمل متعددة الاختصاصات لمدة تتجاوز عاماً ونصف العام تخللها تحديد للاحتياجات الصناعية بحسب أولويتها وعمليات الإنتاج المخبري وفوق المخبري وإجراء الاختبارات المخبرية والتشغيلية وصولاً إلى مرحلة التوطين الصناعي للمشروع، حيث تجاوز المشروع التقييم العلمي والفني من الهيئة الاستشارية للهيئة العليا للبحث العلمي بتاريخ 19/8/2024 بشكل نهائي منذ مدة قريبة وستتم مناقشة مخرجاته ووضع خطة لاستثماره بالإضافة إلى المشروعات الأخرى لاحقاً مع الجهات المستفيدة المحتملة في ورشة عمل تعقد لهذا الغرض وقد تم عرض المشروع في مؤتمر الباحثين السوريين الذي تم عقده في مكتبة الأسد الوطنية بتاريخ 29-31 تموز 2024.
مانع رغوة
من أهم المواد التي تم العمل على توطينها هي مادة مانع الرغوة والتي تعد مادة مستوردة تستخدم في صناعة متعددة كالدهانات والصناعات النسيجية وصناعة المنظفات وغيرها، بالإضافة إلى مادة متعددة الفعالية مستحضرة بمعالجة مواد بيئية وهي مادة مستوردة أيضاً تستخدم في عدة تطبيقات صناعية كعامل تبليل وعامل استحلاب وتشتيت في الصناعات الكيميائية ويتم العمل على توطين صناعة مادة ريزينية لصناعة الأخشاب وهي مادة مستوردة تتميز بفترة تخزين منخفضة مما يؤثر في جودتها وارتفاع أسعارها.
كما أن العمل مستمر على توسيع طيف المنتجات الموطنة محلياً تدريجياً كصناعة تدوير المخلفات السليلوزية لإنتاج المواد الخاصة بصناعات المواد غير المنسوجة والمواد المستخدمة لتقوية الخراسانات كبدائل للمواد المستوردة.
بدائل علفية
كما يتم العمل على تحضير وتوطين مضافات نانوية وبدائل علفية تساهم في رفع الكفاءة الإنتاجية للثروة الحيوانية المحلية حيث تم التقدم بمقترح المشروع للهيئة العليا للبحث العلمي لطلب دعم مالي وما يتبعه من إشراف علمي وفني على أن يتم التعاون لاحقاً مع الهيئة العامة للبحوث الزراعية لإجراء الاختبارات حيث إن تذبذب أسعار الصرف انعكس بشكل سلبي على قطاع الثروة الحيوانية وتضرره بشكل كبير ومعاناة العاملين في هذا القطاع من خسائر مادية كبيرة ما انعكس على أسعار منتجات اللحوم والحليب ومشتقاته، وهذا ما جعل الحاجة ملحة لرفع كفاءة الإنتاج الحيواني وإيجاد طرائق ووسائل غير تقليدية للانتقال بهذا القطاع من قطاع يعاني من خسائر كبيرة إلى قطاع ذي ربحية مادية جيدة للعاملين فيه وذلك من خلال رفع كفاءة المواد العلفية ببعض المضافات النانوية وإيجاد بدائل للمواد البروتينية المستوردة من مخلفات محلية ورفع كفاءة المواد السيللوزية الناتجة عن عمليات حصاد القمح والشعير ويهدف المشروع إلى تحسين الواقع الإنتاجي لعروق الثروة الحيوانية المحلية (الماعز الشامي، عواس، أبقار شامية).
محسنات الأسمدة
بالإضافة إلى موضوع تصنيع وتوطين محسنات للأسمدة بغرض رفع كفاءة الإنتاج الزراعي بالاعتماد على محسنات نانوية وطبيعية ومن الجدير بالذكر أن المحسنات حالياً قيد الاختبار في الهيئة العامة للبحوث الزراعية ويتم العمل على هذا المحور بشكل مستقل.
لابد من الإشارة إلى أن هذه المشروعات تواجه الكثير من العقبات لأسباب عديدة منها العقلية التقليدية التي تقاوم التغيير المتمثلة ببعض الإداريين وفي مكان آخر تضارب المصالح التجارية وتظهر بأشكال مختلفة من شكاوى كيدية وطلبات تعجيزية والتي في حال استمرارها ستؤدي في نهاية المطاف إلى عزوف جماعي عن أي عمل بحثي تطبيقي يساهم في تطوير اقتصادي محتمل وفي النهاية ستؤدي إلى قصور في المنظومة العلمية والتكنولوجية على المستوى الوطني.
من الجدير بالذكر أن معظم هذه المشروعات تنتمي إلى نمط القطاع المعتمد على البحث العلمي التطبيقي والمعرفة ويمكن إنجازها باستخدام تقنيات قابلة للتصنيع بقدرات محلية وتعتمد على المواد الأولية المتوافرة محلياً ومواد البدائل البيئية في أحيان أخرى.
هناك الكثير من المشروعات التي يمكن ذكرها في هذا المجال والقابلة للتوطين تتوافر موادها في البيئة المحلية وتؤمن ميزة نسبية والتي قد تتيح الفرصة للصناعة السورية للقفز ضمن موجة تكنولوجية عالمية جديدة منها صناعة البلاستيك والأقمشة البيئية وتدوير المخلفات لإنتاج أعلاف بمحتوى بروتيني مركز والمواد الداعمة للخراسانات وغيرها..
إن الانطلاق في مجال التوطين الصناعي من هذا النمط يتطلب إيجاد بيئة حامية وراعية لهذه المشروعات وآليات ارتباط وثيقة بين هذه المشروعات والجهات المستفيدة لتوطين واستثمار مخرجات المشروعات التي يكتب لها النجاح مع وجود سبل ناجعة لحفظ حقوق الباحثين المالية كشركاء في هذه المشروعات.
ولابد من الإشارة إلى أن التأكيد مستمر لدعم البحث العلمي وربطه بالاحتياجات الصناعية ودعم المبادرات الإبداعية وتشجيع المشروعات المتوسطة والصغيرة كسياسة عامة لهيكلة المنظومة الاقتصادية الوطنية تنتظر أن تترجم بخطوات عملية إجرائية لتحقيق الهدف المطلوب وهو عودة دوران عجلة الاقتصاد وفق رؤية واضحة المعالم وسلة سياسات صناعية وإستراتيجيات مدروسة ترتقي بأداء القطاع الصناعي وتدفع عجلة التطوير في إطار اقتصاد معرفي وتنمية مستدامة.