كيف قرأ الاقتصاديون خطاب السيد الرئيس في مجلس الشعب… جمود السياسات المتّبعة ينهك الاقتصاد السوري … لا معالجة لمشاكلنا الاقتصادية من دون إعادة دراسة سياساتنا الكلية وقبول التغيير
| غزل إبراهيم
محددات جديدة لآليات العمل المستقبلية لمجلس الشعب وللحكومة المقبلة وضعها السيد الرئيس بشار الأسد للخروج من الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة انطلاقاً من قضايا المجتمع ومشاكله والظروف المعيشية الصعبة التي يقاسيها المواطن السوري.
ومن ضمن هذه المرتكزات تأكيده على أن الأزمات الاقتصادية الحادة هي حالة نقص مناعة غير ظاهرة للعيان، وتأتي الحروب لتظهر هذه الحالة من الضعف وحدّتها، وعلينا أن نبحث في عمق توجهاتنا الاقتصادية التي اتبعناها على مدى عقود.
وهنا فتح الرئيس الأسد نوافذ وآفاقاً خارج الأطر القديمة التي ينبغي الأخذ بها والولوج إليها في المرحلة القادمة، في سياق تغيير وتطوير السياسات التي كانت سائدة سابقاً، والتي أدى تراكم أخطائها إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي نعانيه، فتغيير الآليات ومراجعة السياسات القائمة أمر في غاية الأهمية لمعرفة مكامن الضعف لمعالجتها، والاستفادة من نقاط القوة وتعزيزها، ما ينتج بيئة اقتصادية صحيّة، وواقعاً ملائماً للاستثمار وما يحسّن الإنتاج ويخلق فرص العمل الملائمة.
فاعتبار السياسات الاقتصادية التي تبنتها الدولة سابقاً ولعقود مضت، خطوطاً حمراء وسياسات مقدسة، لا تقبل النقاش والتعديل، اليوم لم يعد ذلك ممكناً ولا صحيحاً، بل إن ذلك الرفض لتقديس السياسات مهما كانت راسخة وصحيحة في وقت من الأوقات، شكّل إعلان مرحلة تغيير اقتصادي قادمة تشمل قضايا اقتصادية كبرى وأساسية، وإنه لا معالجة لمشاكلنا الاقتصادية من دون إعادة دراسة سياساتنا الكلية وقبول التغيير الذي يؤدي إلى التطوير، فهو شرط لازم وغير كاف، وهذا هو جوهر التوجهات الإستراتيجية الجديدة للدولة.
عملية التقييم بديهيّة
تقييم السياسات بشكل دوري أمر مهم، وكلام سيادة الرئيس كان واضحاً بهذا الخصوص، ويجب مراجعة السياسات الاقتصادية وتقييمها كل فترة، والبناء على ما يمكن أن يبنى عليه من ناحية اعتماد السياسات الناجحة وتطويرها بشكل مستمر، ما يسهم في بناء سياسات جديدة أكثر ديناميكية ومواءمة للظروف والتحديات، أما الفاشلة التي لا تتناسب مع وضعنا الاقتصادي ومع المرحلة الحالية، فنتخلى عنها ببساطة وفق رؤية الأستاذ في كلية الاقتصاد- جامعة دمشق الدكتور رسلان خضور.
فعمليّة تقييم السياسات السابقة شيء بديهي في الاقتصاد، وبالتأكيد يجب مراجعة سياساتنا الاقتصادية سواء المالية أم النقدية أو التجارة الخارجيّة أوالتجارة الداخلية أو الدعم وغيرها.
وخلال الفترة الماضية هذه المراجعة لم تتم بشكل منهجي وعلمي للأسف الشديد، الأمر الذي كان له تداعيات سلبية على الاقتصاد، فعمليّة التقييم والمراجعة الدوريّة مهمة جداً بالنسبة للسياسات والإستراتيجيات والبرامج والخطط التي تنفذها كل الوزارات على المستوى الوزاري أو على المستوى القطاعي، وخاصة السياسات الكليّة.
لكل مرحلة ولكل بلد سياسات خاصة
السياسات المتبعة تقيَّم وفقاً للمراحل الزمنية، فقد تكون سياسة ما مناسبة وصحيحة خلال مرحلة معينة من الزمن وبالنسبة لظروف معينة، ولكنها قد لا تكون مناسبة لمرحلة أخرى نتيجة التطورات والظروف التي تتغير وتتبدل باستمرار.
كما أن هناك سياسات تناسب بلداً معيّناً وبيئة معيّنة وتحقق نجاحات كبيرة وقفزات نوعيّة في اقتصاديات معينة، ولكنها قد لا تتناسب مع ظروفنا وواقعنا، لذلك يجب الانتباه جيداً لهذه النقطة وعدم الانجرار خلف الدعوات لاتباع وتبنّي التجارب الاقتصادية الناجحة في بلد ما، وإنما الاستفادة منها ومحاولة تطبيقها، وعلينا دائماً مراجعة وتقييم سياستنا لنستطيع تطوير أنفسنا وتجاوز حالات الخلل والضعف القائمة بحسب الدكتور خضور.
البعد الاجتماعي أولوية
إن تعديل تلك السياسات لا يعني إطلاقاً أن الدولة ستنقلب على سياساتها وستتخلى عن التزاماتها تجاه المواطنين، فقد بلغ الدعم الاجتماعي 6210 آلاف مليار ل.س، أي أكثر من 17 بالمئة من إجمالي الموازنة العامة للدولة لعام 2024 الذي بلغ 35,500 ألف مليار ل.س، وهذا يؤكد أن البعد الاجتماعي ما زال يتصدر قائمة الأولويات في الدولة السورية – تؤكد وزيرة الاقتصاد سابقاً الدكتورة لمياء عاصي.
سياسة الدعم الجديدة
منطلق للعدالة الاجتماعية
لعقود طويلة قامت الدولة بتبني سياسات اقتصادية لأسباب اجتماعية واعتبرتها أساسية وراسخة، مثل سياسة الدعم العيني لبعض المواد الغذائية والمشتقات البترولية، والرعاية الصحية المجانية، والتعليم المجاني حتى الجامعي، ودعم الزراعة والنقل، من دون تمييز بين الشرائح الاجتماعية وفيما لو كانت تستحق الدعم أم لا، وكان الدعم يقدّم مباشرة لكل المواطنين من دون تفريق بينهم، ويتم رصد بنود في الموازنة العامة للدولة لذلك، والهدف هو تمكين كل الفئات من الحصول على السلع والخدمات الأساسية وفق قراءة عاصي.
وفي مطلع شباط 2022 بدأت الحكومة برفع الدعم عن شرائح من المجتمع السوري، بهدف توجيه الدعم إلى مستحقيه وتحقيق العدالة، وسدّ جزء من العجز المالي في الموازنة العامة للدولة.
حالياً يجري التحضير لاستبدال الدعم العيني بالدعم النقدي، والهدف هو أن يكون للسلعة سعر واحد، لأن تعدد الأسعار للسلعة الواحدة يسبب التشوّه السعري ومن ثم الهدر والفساد، على أن يتقاضى المشمولون بالدعم بدلاً نقدياً، ليتمكنوا من شراء احتياجاتهم المغطاة بالدعم مثل الخبز والغاز المنزلي وغيره، وفي هذه الحالة لم يتم إلغاء الدعم بالكامل، ولكن جرى تعديل السياسة فقط وتوجيه الدعم إلى المستحقين وتوزيعه بشكل نقدي.
وبالنسبة للزراعة، كانت الدولة تقدم الدعم للقطاع الزراعي من خلال دعم الأسمدة والبذار والأعلاف، ولكن الآن تم تعديل هذه السياسة وجرى تحرير أسعار هذه المواد، في حين تم الاستمرار بمنح القروض الزراعية بأسعار فائدة أقل من السعر الرسمي من خلال المصرف الزراعي.
وتجري حالياً خطوات مماثلة بالنسبة لسياسة «مجانية الرعاية الصحية» لكل الناس، التي تبنّتها الدولة منذ عقود، وقد كانت كلفتها عالية، واليوم في ظل تداعيات الحرب وتراجع الموارد والإمكانات المتاحة، فقد تدنت جودة الخدمات الصحية المقدمة، وأصبح القطاع الصحي يعاني ضعفاً في المواد والأجهزة الطبية المتوافرة، إضافة إلى تسرّب كوادره إلى الخارج، فلم تعد سياسة الطبابة المجانية مناسبة أو ممكنة، ولا بد من النقاش لتعديل هذه السياسة ما يمكّن الدولة من تطوير هذا القطاع، ومن رفع جودة الخدمات الطبية والحفاظ على الكوادر الطبية.
ما الذي نحتاجه لتطوير
وتحديث سياساتنا؟
هناك ثلاثة مرتكزات رئيسة يجب الانطلاق منها في هذا الاتجاه، وهي تعزيز النمو الاقتصادي، ومعالجة موضوع البطالة والعمل على خلق فرص العمل الملائمة، والعدالة والإنصاف في توزيع الفرص والدخول.
على رأسها إعادة توزيع الثروات
هناك مشكلة كبيرة في السياسات العامة عندنا تتمثل في إعادة توزيع الثروات وتوزيع الدخل القومي، وبالتالي السياسات التي هي أولى بالمراجعة والتقييم هي سياسة توزيع الثروات أو الدخول ابتداء من الرواتب والأجور وصولاً إلى السياسات المالية والنقدية، وسياسة مكافحة الفساد، حيث يوجد مشروع إداري إصلاحي ضخم تبنّاه مجلس الوزراء ولكن حتى الآن لم نلمس نتائجه على أرض الواقع.
وبحسب الدكتور خضور فإن مسألة العدالة والإنصاف في توزيع الدخل والثروات مهمة جداً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإعادة التوازن لاقتصادنا، وبناء مجتمع معافى سليم.
التشبيك بين القطاعين العام والخاص
هناك أيضاً نقطة في غاية الأهمية بالنسبة لعملية إعادة تقييم سياساتنا الاقتصادية- يؤكد خضور- وهي التشاركية بين القطاعين العام والخاص وتوزيع الأدوار بينهما، وهنا يجب أن تكون الدولة هي صاحبة القرار والمبادرة لقيادة مشروع وطني تنموي على المستوى الكلي، يحقق عائدات نمو مهمة على المستوى الكلي، بالتشاركية مع رؤوس الأموال الخاصة، ولكن بشرط أن تكون الدولة هي صاحبة السلطة والقرار، وهي من يقود ذلك وفق رؤية إستراتيجية وتنموية محددة وواضحة الأهداف، تجنباً لحدوث أي خلل أو تحكّم من جانب أفراد أو شركات خاصة لزمام المبادرة الاقتصادية، لكون القطاع الخاص غير مؤهل وحده لقيادة مشروع تنموي على مستوى الاقتصاد الكلي، فالقطاع الخاص يمكن أن يكون ناجحاً في مشاريع الأعمال، الصناعة والتجارة والزراعة، لكنه لا يصلح لقيادة مشروع تنموي على مستوى الاقتصاد الكلي.
إعادة الطبقة الوسطى
لابد من تغيير جذري في النهج على كل الصعد المرتبطة بالاقتصاد، لما فيه خدمة المجتمع وإعادة الروح للطبقة الوسطى التي تكاد وللأسف أن تتحول إلى فقيرة وما دون.
فالطبقة الوسطى هي أهم الطبقات سياسياً وتنموياً وعملياً، لأن الطبقة العليا هي أصحاب الأعمال وشاغلو الوظائف العليا، ومن ثم فإنها طبقة تتمتع في معظم الأحوال بالأموال والسلطة، أما الطبقة الثالثة وهى الطبقة الدنيا فهي عمالة كادحة وقليلة الدخل وفرص العمل المناسب.
أما الطبقة الوسطى فهي التي تحمل مسؤولية التوازن بين الطبقات ومن ثم يعتمد عليها في التوازن الاقتصادي والسياسي بين طبقات المجتمع الواحد، ويشير تناميها واتساعها إلى مدى نجاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية في تحقيق العدالة وفى توزيع الدخل وتنمية المجتمع كله، والأهم أن هذه الطبقة هي أساس طريق التنمية والسياسات المختلفة للدولة – يؤكد أمين سر غرفة صناعة حمص عصام تيزيني.
محاربة الفساد
لا يمكن تحويل نقاط الضعف في الاقتصاد السوري إلى نقاط قوة إلا بتغيير النهج الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة، ليصبح نهجاً ديناميكياً مرناً يعتمد البحث والتشاور الدائم مع قطاع الأعمال الذي يسهم بـ70 بالمئة من الإنتاج المحلي.
كذلك من المهم العمل على إغلاق الباب أمام الفساد الاقتصادي الذي لعب دوراً مهمّاً في انهيار اقتصاد سورية وخاصة خلال العقد الأخير، ويجب العمل على سنّ تشريعات تساعد على الحد منه ومن تأثيراته، على أن يتم التطبيق الفعلي لهذه التشريعات «لا أن تكون حبراً على ورق» وفقاً لتيزيني.
إعادة هيكلة السياسة النقدية
كذلك يجب إيجاد بنية قانونية حديثة تتوافق مع المرحلة الحرجة التي يعيشها اقتصادنا، وخصوصاً فيما يتعلق بالسياسة النقدية التي لا تشجّع في وضعها الحالي على جذب استثمارات جديدة، ولا حتى الحفاظ على القديمة منها، إذ يجب على القائمين على رسم هذه السياسة في سورية أن يتخلوا عن التشدد، ويتحلوا بالنعومة، وخاصة لجهة تداول القطع واستعماله بحسب تيزيني.