الإصلاح المصرفي السوري ما زال في طور النمو..!… افتقار للمنتجات المصرفية التي تخدم احتياجات المدخرين والمستثمرين وحالة جفاء مع مصارف التنمية المتخصصة بالتصدير…
| الدكتور نبيل سكر
تمت في سنوات ما قبل الأزمة إصلاحات عديدة في القطاع المصرفي والقطاع المالي غير المصرفي، بدءاً من صدور القانون رقم 28 لعام 2001 الذي فتح المجال للقطاع الخاص لدخول المجال المصرفي، وصدر بعده قانون النقد الأساسي رقم 23 لعام 2002، وصدرت بعد ذلك قرارات إلغاء التخصص القطاعي القانوني في القطاع العام المصرفي، وصدر في العام 2005 قانون مكافحة غسيل الأموال (القانون رقم 33)، تلاه قانون السريّة المصرفية (القانون رقم 34)، وتلاه إصدار قوانين إقامة مصارف التمويل طويل الأجل (لكن لم يتم تفعيلها)، كما تم في العام 2018 تأسيس شركة ضمان مخاطر القروض من المؤسسات المصرفية القائمة، ثم قرار إقامة مؤسسات التمويل الصغير، فضلاً عن إصدار بلاغات المصرف المركزي للرقابة على نشاط المصارف، بغية الحفاظ على سيولتها وملاءتها واحتواء مخاطرها، إضافة إلى تفعيل السياسة النقدية من المصرف المركزي ومجلس النقد والتسليف بعدما أن تم تجميد هذه السياسة على مدى الثلاثين سنة السابقة. وقد تلازمت هذه التشريعات مع تشريعات تشمل القطاع المالي غير المصرفي التي تضمنت إقامة سوق دمشق للأوراق والأسواق المالية، ومؤسسات الوساطة المالية، وشركات تحويل الأموال وشركات التأمين الخاصة وغيرها.
وقد أدت هذه التشريعات والقرارات إلى زيادة التمويل المصرفي للقطاعين الخاص والعام في القطاعات الاقتصادية كافة، وإلى إدخال منتجات مصرفية/مالية جديدة إلى السوق، وتوسيع الانتشار الجغرافي للتمويل. لكن الأزمة التي تمر بها البلاد في الوقت الحاضر عرقلت تطوير القطاع المصرفي، ولكن في الوقت نفسه استطاع القطاع المصرفي بالتعاون مع مصرف سورية المركزي تجاوز الأزمة بقدر عال من النجاح رغم زيادة ديونه المتعثرة، وتدني الطلب على التمويل ورغم العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على التعامل المصرفي والتجاري الدولي مع سورية، لكن العقوبات بدورها قلصت نشاط المصارف ونوعيتها، وقللت من اعتماد المصارف الخاصة على الفوائد الناتجة عن تمويل الاستيراد، لمصلحة اعتمادها على الرسوم كما على الدخل الناتج عن استثماراتها بالخارج، كما زاد اعتمادها على شراء القطع الأجنبي من البنك المركزي لتمويل الاستيراد، وانخفض الربح التشغيلي للمصارف الخاصة في حين تزايدت أرباحها الدفترية بسبب تراجع سعر الصرف.
غياب مؤسسات التمويل
والواقع أن القطاع المصرفي ما زال في مرحلة النمو ضمن دورة حياة القطاع المصرفي العالمية، إذا قسنا ذلك بحجم الودائع بالنسبة للدخل القومي، وحجم القروض بالنسبة لحجم السكان وعدد المؤسسات الإنتاجية وحجم النقد المتداول بالنسبة لحجم الودائع، وما زال يفتقر إلى العديد من المنتجات المصرفية التي تخدم احتياجات المدخرين والمستثمرين، بما فيه غياب مؤسسات التمويل طويل الأجل، ومصارف التنمية المتخصصة مثل مصارف التصدير، كما لا زال القطاع المصرفي غير مندمج في النظام المصرفي الإقليمي والدولي بسبب القيود السورية المفروضة على حركة رؤوس الأموال، والآن بسبب العقوبات الاقتصادية، كما لا يوجد للمصارف فروع خارج سورية، باستثناء المصرف التجاري السوري الذي أسسه «المصرف التجاري السوري اللبناني» في بيروت في العام 1974، محتفظاً بـ 85 بالمئة من أسهمه.
ما الفجوات
التي يعانيها القطاع المصرفي؟
الفجوات القصيرة والطويلة الأجل تتشكل الفجوات التي يعاني منها القطاع المصرفي من التالي:
– ضعف المعرفة لدى المؤسسات المصرفية بالحالة الاقتصادية والاجتماعية والسكانية في البلاد على المستويين الكلي والجزئي، وكذلك ضعفه بمعرفة الاحتياجات الاقتصادية الحقيقية المركزية والمحلية، في حين نلاحظ شمولية المصارف العالمية الإدارات اقتصادية متخصصة لمتابعة الحالة الاقتصادية والاجتماعية في بلادها وخارج بلادها.
سوء التوزيع الائتماني (credit misallocation) قبل الأزمة، المتمثل بالتركيز على تمويل التجارة على حساب الصناعة والزراعة والتصدير، كما التركيز على كبار رجال الأعمال ومؤسساتهم على حساب المؤسسات المتوسطة والصغيرة. أما التوزيع الائتماني الآن فهو محكوم بالعقوبات الاقتصادية وبالأضرار التي أصابت المستثمرين والأفراد، وبالحذر الشديد في التمويل بسبب زيادة المخاطر.
خضوع مصارف القطاع العام ومصارف القطاع الخاص لقوانين عمل وإجراءات رقابية مختلفة، نتج عنها وجود قطاعين مصرفيين مختلفين، مع تنافس ضئيل بينهما، واستمرار هيمنة القطاع العام المصرفي من خلال تسليفات وودائع وفروع المصرف التجاري السوري والمصرف الزراعي التعاوني والمصرف العقاري، علماً أن الأخيرين يوجهان تسليفهما للقطاع الخاص مثلهما مثل مصارف التسليف الشعبي والتوفير والمصرف الصناعي.
– تدني الكفاءات في القطاع العام المصرفي وتدني أجوره، وضعف قدرته على تقييم طلبات التمويل ومخاطرها وعلى قدرة المقترض على سداد الدين، وكذلك ضعف حساباته وضعف قوائمه المالية وضعف سيولته وملاءته وربحيته، وبطء إدخاله تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، علماً أن خدمات القطاع العام تحسنت بعد دخول المصارف الخاصة إلى السوق من جهة أخرى، ورغم هذه الحالة هناك بطء من قبل مصرف سورية المركزي بالتعامل مع هذه الشوائب المتراكمة.
استمرار وجود نسبة عالية من الديون المتعثرة في القطاعين الخاص والعام التي ظهرت خلال الأزمة بسبب تضرر المقترضين من الأزمة، وبسبب غياب أو تدني الضمانات العينية والشخصية للقروض، وبسبب مغادرة العديد من رجال الأعمال إلى خارج البلاد من دون تسديد التزاماتهم.
– وضعت المصارف العامة التنمية فوق الربح، في حين وضعت المصارف الخاصة الربح وإرضاء المساهمين فوق التنمية. وقد تدخل المصرف المركزي في العام 2017 لتشجيع القطاع المصرفي على التمويل التنموي (قرار مجلس النقد والتسليف رقم 52)، لكن المصارف، وخاصة المصارف الخاصة، عارضت القرار، فتم إلغاؤه في نهاية العام 2018 لدى تولي حاكم جديد للمصرف المركزي.
تأخر المركزي !
تأخر المصرف المركزي بتفعيل قوانين التمويل الطويل الأجل (قانون التمويل الاستثماري رقم 56 لعام 2010 وقانون التأجير التمويلي رقم 88 لعام 2010 وقانون التمويل العقاري رقم 15 لعام 2012) بسبب غرقه في القضايا الآنية مثل سعر الصرف والتضخم ورأس مال المصارف والرقابة على نشاط المصارف من جهة، وبسبب مركزية عمله، مثله مثل مؤسسات الدولة من جهة أخرى.
تدني استقلالية مجلس النقد والتسليف والمصرف المركزي وخضوعهما للسلطات الحكومية، وبالتالي عدم قدرتهما على لجم طلب الحكومة المتكاثر للتمويل.
اقتصار أدوات السياسة النقدية المتوافرة لدى المصرف المركزي على وضع سقوف على التمويل، وتعديل سعر الفائدة، وتعديل نسبة الاحتياطي الإلزامي، في ظل غياب عمليات السوق المفتوح بسبب ندرة سندات الخزينة.
التدخل المطلوب
لتطوير القطاع المصرفي
كما يجب أن ينطلق نشاط القطاع المصرفي والتدخل المطلوب لتطويره من احتياجات التنمية المركزية والمحلية، ومن متطلبات المستثمرين والمواطنين، وكذلك من إستراتيجيات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية في كل مرحلة، وهي التي تركز في الوقت الحاضر على التعافي المبكر وزيادة الإنتاج والإنتاجية وتحسين مناخ الاستثمار من جهة، وعلى زيادة القدرة الشرائية في السوق من جهة أخرى، ثم التركيز على مرحلة إعادة الإعمار المادي والبشري بعد ذلك.
وفي هذا الإطار، على المصرف المركزي وضع تصور شامل لتطوير القطاع المصرفي الحالي يتجاوز الاهتمام في الوقت الحاضر المتركز على زيادة رأس مال المصارف ووضع سقوف على تمويلها والحفاظ على سيولتها وملاءتها والسعي لعدم تدهور سعر الصرف وكبح التضخم، وهي كلها عناصر آنية لازمة.
ولكن علينا الآن تجاوز هذه الأبعاد للانتقال إلى الإصلاح المصرفي الشامل.
يجب أن تتضمن النظرة الشمولية المطلوبة أولاً، المزيد من تعرّف المصارف والمصرف المركزي والمؤسسات المالية غير المصرفية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي في البلد، على المستويين المركزي والمحلي، وعلى حال الإطار الاقتصادي الكلي، كما على السياسات التجارية والمالية والنقدية للحكومة، كما على العناصر التالية:
إدخال المزيد من المنتجات والمؤسسات المصرفية الجديدة مثل مؤسسات منتجات التمويل الطويل الأجل المذكورة أعلاه، ومنتجات السندات التقليدية والإسلامية، والمصارف المتخصصة كمصارف التصدير.
تصويب مسار توزيع التمويل credit allocation حيث يزيد التمويل إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر وإلى السكن الاجتماعي والطاقة المتجددة والاقتصاد المعرفي والتنمية الريفية، وفي الوقت نفسه تحاشي التمويل لأمراء الحرب والمضاربين في سوق الصرف.
خطة مفصلية
وضع خطة مفصّلة لتوحيد القطاع المصرفي في شقيه العام والخاص خلال مدة لا تزيد على 5 سنوات.
في غضون ذلك، يجب المزيد من شفافية أداء مصارف القطاع العام وإلزامها بنشر قوائمها المالية بالكامل في مطلع كل عام لكل من المصرف المركزي والإعلام العام، وإخضاع حساباتها لمدققي حسابات مستقلين، وزيادة رقابة المصرف المركزي على نشاطها.
السعي لإخضاع مصارف القطاع العام والخاص لأنظمة وقوانين وإجراءات تقنية واحدة خلال فترة محددة، واعتماد معايير محاسبية وتدقيقية موحدة لدى القطاعين.
تعزيز قدرات المصرف المركزي على الرقابة على المصارف الخاصة والعامة ومنتجاتها ومؤسساتها الجديدة، وهي المختلفة في مخاطرها عن مؤسسات التسليف التجاري القصيرة الأجل، كما تعزيز قدراته في إدارة السياسة النقدية في مناخ سياسي واقتصادي يتوقع أن يكون صعباً في مرحلة ما بعد الأزمة، وفي ظل منتجات ومؤسسات مصرفية جديدة.
توفير المزيد من أدوات السياسة النقدية وخاصة أداة السوق المفتوح (بعدما تزداد أذونات الخزينة في السوق)، التي تعطي المصرف المركزي المزيد من الاستقلالية وتخفف من التدخلات السياسية والحكومية في عمله.
سعي المصرف المركزي على التوازن بين تشجيع الإنتاج والإنتاجية من جهة والحفاظ على ثبات سعر الصرف ولجم التضخم من جهة أخرى.
تحسين إدارة المخاطر من المصارف العامة والخاصة ومنها التعمق بدراسة ملاءة المقترضين، وطلب الضمانات النقدية والعينية اللازمة، ومتابعة استخدامهم للأموال المقرضة للتأكد من استخدامها للغرض الذي منحت من أجله.
استخدام الرقمية
– التعمق والتوسع في استخدام الرقمية (الـDigitalization) وهو ما يوفر الدقة والجودة في التمويل.
– إخراج المصارف العامة من سلطة وزارة المالية بموجب القانون رقم 3 لعام 2005 وإخضاعها حصراً للمصرف المركزي ومجلس النقد والتسليف، فيما عدا حق الوزارة بمعرفة أدائها، بصفتها المالكة لرأسمالها.
– دمج بعض مصارف القطاع العام ولكن عدم خصخصتها.
– تفعيل وتوسيع عمل مؤسسة التدريب المصرفي المرتبطة بالمصرف المركزي.
– المزيد من الفصل بين السياستين النقدية والمالية مع استمرار التنسيق بينهما.
– وضع برنامج تأميني لودائع المصارف (ضمن حجم معين من الوديعة) ما يساعد على زيادة الودائع المصرفية والادخار المصرفي، وعلى تقليص حجم النقد المتداول في السوق.
– السعي لدمج القطاع المصرفي مع القطاع المصرفي الإقليمي والدولي بعد زوال العقوبات الاقتصادية القائمة على المصارف السورية وعلى التمويل الخارجي لسورية.
وأخيراً، يجب التأكيد على ضرورة أن يلعب القطاع المصرفي دوراً مهماً ومبتكراً في تخفيف المعاناة الاقتصادية والاجتماعية الحالية، ودوراً مهماً في تمويل مرحلتي التعافي وإعادة الإعمار المقبلتين اللتين ستفتحان فرصاً كبيرة للتمويل المصرفي، ومن الضروري البدء بالإصلاح الآن.