خسائر الدولة من غياب قانون ضريبي متكامل … الواقع الضريبي في قبضة الفساد ولمصلحة الفوضى والتاجر … سرقة موصوفة من التاجر لحصة الخزينة من مقدار الضريبة الواجبة على قيمة الفاتورة
| أيمن أحمد علوش
دكتور في السياسة الدوليّة
دبلوماسي سوري متقاعد
في مشاركتي في العدد السابق تناولت موضوع «الجودة والمواصفات» وأبرزت حجم الهدر والخسارات التي تكبّدتها الدولة والمواطن خلال العقود الماضية حتى يومنا هذا من جرّاء تقاعس الجهات الرسميّة في الحكومات المتتالية عن ضبط هذا المعيار لتقديم منتج بمواصفات جيّدة ومكفول، سواء المستورد منه للسوق المحليّة أو المصنّع محليّاً للسوق الداخليّة أو للتصدير.
في مشاركتي اليوم سأضيء على موضوع «الضريبة» التي تعتبر واحدة من أهم روافد الدخل القومي في معظم دول العالم. ولكن على الرغم من أهمّيتها كمصدر دخل، إلّا أنّه لم يتمّ الاستفادة الحقيقيّة منها من خلال ضبطها بالقوانين والتشريعات والإجراءات المناسبة لتحقيق الغاية المرجوّة، وأعتقد أيضاً أنّ التأخّر في اعتماد المحدّدات والقوانين والتعليمات اللازمة في تطبيقها، والعقوبات الصارمة على غير الملتزمين، كان لمصلحة أشخاص وشرائح معيّنة فقط وضدّ مصلحة الوطن والمواطن، والغريب أنّ التعامل مع هذه القضيّة المهمة ما زال يسير بانتقائيّة وبطء شديد، فضلاً على أنّ ما صدر بخصوصها حتى اليوم من قرارات وتعليمات بقي ناقصاً ولا يحقّق العدالة بين شرائح المجتمع المختلفة.
تُعتبر «دائرة الضرائب» في أيّ دولة من دول العالم المتحضّر الدائرة الأكثر رقابة وتشديداً وصرامة من أيّ جهاز أو مؤسّسة أخرى في البلاد، لأنّها تُعتبر أحد مصادر الدخل القومي، وما لذلك من مردود على الخدمات والحياة العامة ودخل المواطن، ويعتبر انتهاك القانون الضريبي في هذه الدول جرماً يعرّض صاحبه، سواء كشخص أو مؤسّسة أو شركة، لإجراءات وعقوبات قاسيَة للغاية، وغالباً ما تؤدي إلى إفلاس الشخص أو الشركة.
واقع الضريبة في سورية
طالما درج القول إنّ موظف الجهات الحكوميّة يدفع ضريبة أكثر ممّا يدفع كثير من التجار، إذ إنّ الضريبة المفروضة على الموظف تُقتطع من راتبه المحدّد من قبل الدولة، وهذا يمنع أيّ شكلٍ من أشكال التلاعب أو الانتقاص من حقوق الدولة في الضريبة المستحقّة على الموظف الحكومي، ولكن كيف كان وضع باقي قطّاعات المجتمع؟ وهل كانت خزينة الدولة تحصّل كامل حقوقها من الضرائب؟
وعندما نعود قليلاً إلى الوراء فإنّما بهدف التذكير بما خسرته خزينة الدولة على مدى عقود من قيمة الضرائب المستحقّة لها، وما لذلك من تأثير في خدماتها العامّة وخططها ومشاريعها الحيويّة ودخل المواطن، إضافة إلى أجواء الفساد والإفساد الذي شاعت وهو ما ثنى البعض عن إحداث نظام ضريبي متكامل وعادل وصارم.
قيم ثابتة
جرت العادة لعقود أن يتمّ تحديد الضريبة السنويّة على المحال التجاريّة والمكاتب العيادات وغيرها، بقيم ثابتة، ولا يخفى على أحد أنّ هذه القيم لم تكن عادلة لأنّها لا تعتمد على مقدار الدخل الحقيقي لهذه الأعمال، ولا يخفى على أحد أيضاً أنّ المسؤول عن تحديد قيمة الضريبة كان موظف مكتب الضرائب وليس مجموعة من المعطيات الحقيقيّة والأسس السليمة، وهذا يعني أنّ الأمر كان يعتمد على المزاجيّة والنفعيّة وليس على مبدأ الدخل الحقيقي للعمل وفق أسس تحدّد بدقّة الدخل الصافي الواجب بناءً عليه تحديد قيمة الضريبة، كما جرت العادة أن يشرف موظفون رسميون من الجهات الماليّة الرسميّة على ترتيب حسابات الشركات بما يمكّنهم من التهرب من الضرائب المستوجبة عليهم.
عدم وجود فاتورة نظامية
تضيع الحصّة الأكبر من الضريبة نتيجة عدم وجود نظام فاتورة نظامي يضبط نوع وحجم وسعر المادة المبيعة بشكل دقيق بما يحفظ لخزينة الدولة حقّها في الضريبة، فنادراً ما يتمّ إعطاء الزبون فاتورة نظاميّة صادرة باسم المحلّ التجاري أو الشركة برقم متسلسل وممهورة أصولاً بخاتم المحل، وما يتّم العمل به حاليّاً في القسم الأكبر من أسواقنا هو إعطاء ورقة من دون ترويسة المحل تحت اسم «كشف حساب» أو «عرض سعر»، ما يعني سرقة موصوفة من التاجر لحصّة الخزينة من مقدار الضريبة الواجبة على قيمة الفاتورة، وهذا لا يمكن أن يحصل عادة من دون تساهل موظفين مسؤولين في مصلحة الضرائب.
إن غياب الآليّة القانونيّة للبيع تشجّع على الاتجار بالمواد المهرّبة، بسبب عدم وجود آليّة تضبط نوع المواد المباعة أو مطابقتها للمواد المستوردة من ناحية الكم والنوعيّة، ولذلك نجد أن الفساد الخاص بموضوع الضريبة يتصل اتصالاً مباشراً بموضوع « الجمارك» الذي سأفرد له مشاركة منفصلة لاحقاً، وكلاهما يتكاملان في حجب روافد مهمة من روافد الدخل القومي.
نظام الدفع النقدي «الكاش»
لجأ كثير من الدول إلى نظام الفاتورة الإلكترونيّة، حيث يتمّ ضبط مقبوضات أيّ جهة تجاريّة عبر جهاز يسجّل كلّ حركة ماليّة مهما صغرت، ويكون هذا الجهاز مرتبطاً بالجهة الماليّة المسؤولة بما لا يسمح بأيّ عمليّة تهرّب ضريبي، ويؤسفني القول إنّ هذه الأجهزة كانت معمولاً بها في تنزانيا الدولة الإفريقيّة التي نسبقها كثيراً، فخلال فترة عملي فيها بين عامي ٢٠١٠-٢٠١٣ لم يكن من الممكن أن تشتري أيّ شيء، حتى في الأحياء الشعبية، دون أن تمرّ عمليّة الشراء عبر جهاز صغير موصول بالهاتف يسجل للجهات المعنيّة تفاصيل الفاتورة الصادرة، ما يعني احتفاظ هذه الجهة بحقوقها الضريبيّة.
لجأت دول كثيرة إلى الحد من «التهرّب الضريبي» عن طريق الحدّ من الدفع نقداً، فحصرت معظم عملياتها التجاريّة بعمليات التحويل المصرفي أو الدفع بموجب بطاقة مصرفيّة، وأعتقد أنّ اللجوء إلى حلول كهذه لم يكن مستحيلاً ولا حتى صعباً في أيّ مرحلة خلال العقود الماضيّة، فكلّ ما نحتاجه هو أن نعتمد نظاماً ضريبيّاً متكاملاً بالتشريعات والقوانين والتعليمات، أو أدوات تحقيق ذلك من وسائل اتصال وتجهيزات أو جهات رقابيّة وآليات محاسبة صارمة وناهية، وهو ليس بالأمر الصعب إطلاقاً لأنّنا لسنا بحاجة إلى ابتكار هذه الآليات، فكلّ ما هو مطلوب منّا هو الاستفادة من تجارب الدول الصديقة التي فرضت عليها العقوبات أو الحصار أو تلك التي تتّبع أنظمة ماليّة مستقلّة عن النموذج الغربي، أو تلك التي تسبقنا في هذا المجال وتشبهنا في الظروف، وهذا يحتاج إلى دراسات لبنية المجتمع وعلى من يجب فرض الضريبة ونسبتها على كلّ شريحة، وأين يجب فرضها وأين يجب الإعفاء منها، ونسبتها على كلّ سلعة بما لا يعطّل عمليّة الإنتاج ولا يجعل سلعنا الأساسيّة مرتفعة الثمن في أسواقنا المحليّة أو غير قادرة على المنافسة في السوق الخارجيّة كما هو الحال اليوم، أو يعطلّ عمليّة النموّ الاقتصادي والتكنولوجي، وأعتقد أن سبب عدم التوصل إلى ما يحفظ حقوق الدولة خلال العقود الماضية كان بشكل أساسي بسبب تقاعس بعض الجهات المعنيّة عن القيام بواجباتها خدمةً لشرائح معينة وبما يحقق مصالحها الخاصّة.
أعتقد أن الموضوع ليس معقّداً كما يحلو للبعض تصويره، وأعتقد أنّ ما صدر حتى اليوم من قوانين وتعليمات لا تتصدّى للمشكلة بشكل علمي وواقعي، بل تُبقيها على حالها مع بعض التزيينات، وأعتقد أنّ ما لجأت إليه مؤخّراً الجهة المعنيّة من فرض ضرائب غير مدروسة على مختلف المؤسسات التجارية إنّما كان للتغطية على تقصيرها عن القيام بواجباتها في تحصيل الضرائب المستحقّة على هذه الجهات خلال العقود الماضية، كما كان تقبّل المحال والمؤسسات التجارية لهذه الضرائب نابعاً من قناعتها بأنّها ذهبت إلى أقصى الحدود في مخالفاتها لجملة من القوانين ومنها تهرّبها من تسديد ما يجب عليها تسديده من ضرائب، فلماذا لا يتمّ شرعنة هذه الإجراءات بدل إبقائها ضمن بند الاجتهادات غير القانونيّة؟
قبضة الفساد
المشهد العام يقول إنّ الواقع الضريبي المعمول به حاليّاً هو في قبضة الفساد ولمصلحة الفوضى والتاجر وضدّ مصلحة الوطن والمواطن، فقيم البيوع غير حقيقيّة وقيم الاستيراد غير حقيقية ومواصفات المواد المستوردة غير حقيقية وقيم الربح الناتجة عن العمليات التجاريّة غير حقيقيّة، وهذا يحرم الدولة والمواطن من عائدات هذه الضرائب التي تذهب لشريحة معيّنة، فلماذا لا نُعيد النظام الضريبي إلى ما يجب أن يكون عليه كرافد اقتصاديّ عادلٍ ومشجّع على الاستثمار.
لن تكون نتائج أيّ نظام ضريبيّ، مهما بلغت إجراءاته من الدقة، شفّافة إلى الدرجة القصوى، فأكثر الدول تطوراً في هذا المجال تسجّل عمليات تهرّب ضريبيّ، ولذلك فإنّ الأمر بحاجة إلى آلية متابعة وتقييم مستمرّ لسد الثغرات ومعالجة الملاحظات، ومن المهمّ جداً أن تتوافر لدى المواطن ثقافة الضريبة وأن يكون مدركاً وعلى قناعة كاملة بأن مردودها سيكون في النهاية لمصلحة الخدمات العامة وسياسات الحكومة الاقتصادية، وهذا من شأنه أن يجعله حريصاً على أن يكون جزءاً مهماً في آليّة تطبيقها.