التعليم في سورية.. الواقع والتحديات … نظامنا التعليمي بحاجة إلى مراجعة شاملة … معالجة تحديات التعليم ليست بالعملية الصعبة
| أيمن أحمد علوش دكتوراه في السياسة الدوليّة - دبلوماسي سوري متقاعد
التعليم هو أحد أهم التحدّيات الوطنيّة التي ينبغي أن نتعامل معها بمنتهى الجديّة، وأن نولي ما يعترضه من تحدّيات ما يلزم من الدراسة والبحث والتحليل لوضع المعايير والخطط واستصدار القرارات الكفيلة بإخراجه من حالته غير الصحيّة ليكون حالة إبداعية تنعكس بنتائجها على نواحي الحياة كافة.
من يسمع أو يقرأ تصريحات بعض المسؤولين المعنييّن عن العمليّة التعليميّة في القطر يعتقد أننّا في مصاف الدول الأكثر تقدّماً في العالم، والحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أنّنا في مكان لا نحسد عليه، فقد تراجعنا كثيراً على جميع قوائم التصنيفات التي تخصّ مستوى وجودة وأدوات ومراكز التعليم بمراحله كافة، وهذا التجميل الذي يمارسه بعض المتملّقين والمنتفعين إنّما هو عامل سلبي في تكريس تراجع مستوى التعليم.
نظراّ لأهمية هذا الموضوع وتشعّب العوامل المؤثرة فيه وكثرتها، فإنني سأفرد له جزأين متتاليين: سأركز في القسم الأول على تحدّيات العمليّة التعليميّة في المرحلة الثانويّة، على حين سأبحث في القسم الثاني في تحدياتها في المرحلة الجامعيّة والدراسات العليا.
تحدّيات العمليّة التعليميّة
في المرحلة الثانويّة (الجزء الأول)
تحدّيات العمليّة التعليميّة لدينا ليست فقط في العلاقة بين الطالب والمدرسة والمدرّس، بل هي أيضاً في المدرّس والمدرسة والمنهاج التعليمي والنظام التعليمي ونظام الامتحانات وآليّة القبول الجامعي وحاجة سوق العمل، بل تتعداها إلى العبء المادّي والاجتماعي والنفسي على الطالب والأسرة.
يُقال: «إن المعلّمين وحدهم الذين لا يسرقون»، ولكن ما نعيشه اليوم يُظهر أن أكبر السرقات وأفظعها يرتكبها المعلّمون، فالمعلّمون إن لم يخلصوا لواجباتهم النبيلة والسامية فإنهم يسرقون جيلي الحاضر والمستقبل.
الواقع الحالي للمعلّمين مزرٍ للغاية، فدخلهم الشهري لا يكفي لاحتياجاتهم الأساسية لعدّة أيام فقط، وهذا الواقع دفع بهم لتأمين باقي احتياجاتهم من مردود تدريسهم في المعاهد الخاصّة والدروس الخصوصيّة، فالمدارس أصبحت بالنسبة لهم مجرد وسيلة للوجود في «سوق التعليم»، ونتج عن ذلك كله تراجع عطائهم في المدارس لمصلحة «سوق المعاهد الخاصّة» والدروس الخصوصّية.
لقد فَقَدَ المعلم المكانة التي يحظى بها في مملكته المتمثّلة، ليس فقط بالمدرسة التي يعلّم بها، بل أيضاً في الحيّ الذي يسكنه، فبعد أن «كاد أن يكون رسولاً» أصبح جوالاً من بيت لآخر يتأبط حقيبته هروباً من جحيم الفقر والعوز.
انتشرت المعاهد التعليميّة الخاصّة بشكل كبير، سواء في المدن أم في الأرياف، ومعظمها لا يحقّق أدنى الشروط المطلوبة لأن تكون مراكز تعليميّة، سواء في تخطيطها أو مواقعها أو مساحاتها أو تجهيزاتها أو في مؤهّلات وخبرة إداراتها، وربما الشيء الوحيد الذي جعل منها معاهد هو ما قدّمه بعض «تجار العلم» من رشاوى لبعض «مسؤولي التخريب» لجعل هذه المعاهد واقعاً.
إنّ نظامنا التعليمي بحاجة إلى مراجعة شاملة، من مرحلة الحضانة حتى مرحلة الدراسات العليا، لأنه بات خارج إطار الزمن، ولا أعتقد أننا بحاجة إلى تصميم نظام تعليمي خاص بنا، فالتعليم علمٌ، ولا يضيرنا أن نستأنس بالأنظمة التعليميّة لدول تسبقنا في هذا المجال، وهذا من شأنه أن يخرجنا من مرض الركود والاستظهار والحرفيّة للمادة إلى مرحلة النقاش والحوار والتفاعل والتفكّر والاستنتاج.
إن معظم دول العالم المتطوّر قد اعتمدت النظام التخصّصي بعد المرحلة الإعدادية، بحيث تقتصر دراسة الطالب في هذه المرحلة على المواد التي تخدم الدراسة الجامعيّة التي يرغب فيها الطالب، فمن يريد التخصص في الحقوق مثلاً ليس بحاجة أن يدرس الرياضيّات والفيزياء والكيمياء ومواد أخرى لا تخدم اختصاصه، ومن يريد أن يدرس الآداب لا يحتاج إلى هذه المواد أيضاً، بل يمكن توجيه دراسته بمواد تحضيريّة تخدم صلب الدراسة الجامعيّة التي يريدها، والأمر نفسه ينسحب على الاختصاصات الأخرى كافة.
ما أريد قوله: إن كلّ اختصاص في الجامعة يحتاج إلى مواد أساسية، ويمكن للطالب أن يبدأ منذ مرحلة ما بعد الإعدادية بدراسة مجموعة المواد التي تخدم الاختصاص الذي يرغب فيه، سواء اختصاص علمي أو فنّي، وهذا يجعل العمليّة التعليميّة موجّهة وناجعة.
ومن التحدّيات الكبيرة أيضاً التي تواجه العمليّة التعليميّة هو نظام الامتحانات الثانوية التي يعتمد عليها نظام القبول الجامعي، حيث باتت هذه الامتحانات الخطّ الفاصل بين «الجنّة والنار»، فوجَب على الطالب والأهل التأهّب لها بطريقة أخرجت، ليس فقط الصف الحادي عشر من العملية التعليمية، وإنما أيضاً أخرجت الطلاب من المدرسة بشكل كامل، حيث يتفرّغون للتحضير لامتحانات الثانويّة منذ صيف الصف العاشر ويصبح دوامهم في المعاهد ومع المدرسين الخصوصيين فقط.
فبعد انتهاء الصف العاشر، وأحياناً قبلها يبدأ الأهل بتهيئة الطالب لامتحانات الشهادة الثانويّة، فيتوقف الطالب عن الذهاب إلى المدرسة لتعلّم منهاج الصف الحادي عشر ويبدأ بحضور دورات تحضيريّة لامتحانات الشهادة الثانويّة، وهنا تحتاج أسرة الطالب لإقامة «علاقة جيّدة» مع المسؤولين في المدرسة من إدارة وفروعها، مع بعض «المشجّعات»، للتستّر على هذه الحالات.
وتستمرّ هذه الحالة خلال عام الشهادة الثانويّة، فيستمرّ الطلاب في الغياب عن المدرسة. يقول الأهل إنه لا يوجد تعليم في المدارس في كامل المرحلة الثانويّة، ويقول المعلمون إن الطلاب باتوا يفضّلون المعاهد والدروس الخصوصيّة على دروس المدرسة، وأقول أنا إنها باتت «حالة تقليديّة» لدى الطلاب، فهم يريدون دورات المعاهد والدروس الخصوصيّة لكي لا يشعروا بالنقص تجاه زملائهم، حيث أصبح التعليم في هذه المرحلة «حالة طبقيّة»، فلا يذهب لدروس المدرسة إلا قلّة قليلة من الطبقة المسحوقة، ولكن الوضع العام بات ضدّ هؤلاء بسبب إحجام المعلمين عن الالتزام بإعطاء دروسهم في المدارس.
إذا كان هذا هو الواقع الحالي، فما الذي خلق هذا الواقع؟
خلق هذا الواقع القائمون على العمليّة التعليميّة منذ عقود حتى يومنا هذا… خلقه من أقرّ المناهج التعليميّة، ومن اعتمد هذه الطريقة في الامتحانات والتقييم، ومن جعل نتائج امتحانات المرحلة الثانويّة محدّداً لمستقبل الطالب الأكاديمي، ومن قرّر أن مستوى الشخص العلمي والإدراكي والمعرفي مرتبط بمجموع علاماته في امتحانات الشهادة الثانويّة.
لا أعتقد إن هناك «فرزاً طبقياً واجتماعياً» يعادل في قسوته ما يمثله امتحان الشهادة الثانوية، سواء على الطلاب أم الأهل، حيث يتم عادةً تخصيص الخرّيجين الجدد من غير خبرة من المعلمين لمدارس المناطق النائية والفقيرة (خدمة ريف)، وهذا بالتالي ينعكس على مستوى العمليّة التعليميّة، وحتى على مستوى المعاهد والساعات الخصوصيّة أيضاً.
والعامل الآخر الحاسم هو عدم مقدرة الأهل على التقديم لأولادهم ما تقدمه العائلات المقتدرة من رعاية واهتمام ومعاهد وساعات خصوصية لدى أساتذة متميزين، وهذا الواقع ينتقل بحالة فرز طبقي إلى الجامعات، فمن قدّمت له الخدمات في أفضل حالاتها من الطبيعي أن يحظى بفرصه أكبر.
إذا كان هناك معلمٌ من معالم الاشتراكية في العمليّة التعليميّة فهو بالتأكيد في آليّة الحصول على الشهادة الثانويّة، فقد باتت الشهادة الثانويّة تشاركيّة بين جميع أفراد الأسرة التي تستنفر بشكل كامل، ليس فقط خلال عام الامتحانات، بل قبلها بسنة أو سنتين، وكثيراً ما أصبحنا نقدّم التهنئة للأهل قبل الطالب بعد انتهاء الامتحانات أو بعد صدور النتائج، وليس أبلغَ وصف لهذا الواقع من قول أحدهم: « الأسرة التي لديها طالب شهادة ثانويّة يكون حالها كمن ربط ضبعاً في بيته، فالجميع مستنفرون كلّ الوقت».
وإذا كان هناك معلمٌ من معالم الرأسمالية فهو في ثقل الأعباء الماليّة التي تقع على عاتق الأسرة خلال فترة التحضير للشهادة الثانويّة من معاهد ودورات ودروس خاصة ومراجعة وأسئلة دورات بعد أن فقد تعليم المرحلة الثانويّة معناه، وأصبحت الأسرة بحاجة إلى استرضاء المعنيّين في المدرسة لتغييب أولادهم عن دراسة منهاج الصف الحادي عشر والثاني عشر والتفرّغ للتحضير للشهادة الثانويّة.
ومن التحدّيات الكبيرة أيضاً هو الفساد الكبير الذي يرافق كامل العمليّة، ليس فقط في ما أشرنا له سابقاً من تحول العمليّة التعليمية في عام امتحانات الشهادة الثانويّة والعام الذي يسبقه من عمليّة تعليميّة في المدارس يقوم بها مدرّسون تابعون لوزارة التربيّة إلى عمليّة تعليميّة في المعاهد والبيوت، وما فرض ذلك من تسيب المدرسين والطلاب، .
ويعتبر استخدام الأجهزة الإلكترونيّة في الغش شكلاً آخر من أشكال الفساد، إذ يتمّ الأمر من قبل جماعات نافذة وبالتنسيق مع جماعات فاسدة، ويَمنعْ وضع حدّ لهذا النوع من الفساد عدم الجديّة في منعه، وخاصة أن من مصلحة بعض المعنيّين بالأمر عدم وضع حدّ له سواء بالبحث عن جذور عمليّة الفساد، أم محاسبة الفاعلين بعقوبات شديدة رادعة.
وإذا كانت الجهات المعنية تعتبر أن قطع اتصالات الإنترنت خلال ساعات الامتحانات مجدية فإن كثيرين يعتبرون أن ذلك مجرّد محاولة إيهام بأن الجهات المعنيّة تحاول بجديّة منع الغش الامتحاني، والحقيقة أنها مجرّد «ظاهرة صوتية» ولا أعرف بلداً في العالم يلجأ إلى هذه الطريقة لمنع الغش.
إن معالجة تحدّيات التعليم ليست بالعمليّة الصعبة في حال توافّرت الإرادة لذلك، ولكن للأسف فإن معظم المعنيّين بهذه العمليّة إمّا أنهم انخرطوا في الفساد وأصبحوا مستفيدين منه فأبقوا التعليم على حاله، وإما أنهم تقاعسوا عن القيام بواجباتهم لإحداث التغيير المطلوب، أما المراقب العام فقد بلغ مرحلة اليقين الكامل بأن التعليم في سورية «يسير نحو الوراء»، لتضافر جهود الفاسدين والسلبيين، سواء من جهات رسميّة، أو أسر متنفّذة أو جماعات المال السهل الذين يؤمنون بأن كلّ شيء يُشترى بالمال، بما في ذلك العلم.
المعالجة تحتاج إلى لجان مختصّة، بحيث يتمّ تحديد تحديات العمليّة التعليمية، سواء ما أوردته في عرضي أو ما أغفلته، وأن يتمّ وضع خطط مرحليّة للنهوض إلى المكان المناسب للمدرسة والمعلم والطالب والتعليم الذي طالما كان رائداً في سورية، وقد يقول قائل، ما جدوى التعليم في مجتمع لا يعترف بالكفاءات العلميّة؟ وسيأتي الجواب: عندما ينتظم العلم ويسود القانون ستنتظم البلاد.