العناوين الرئيسيةملفات خاصة

الحرب الاقتصادية : من مداخل دورة حياة الحرب والاقتصاد العصبي الحرب الاقتصادية… العودة إلى البدايات

علي نزار الآغا

قدر سورية منذ أربعين عاماً أن تتعامل كل فترة مع دفعة جديدة من العقوبات الجائرة أحادية الجانب الغربية، كل دفعة «أقسى» من سابقتها، إذ تتخذ بطريقة مدروسة لضرب الناتج وحركة رؤوس الأموال والأصول، الأمر الذي يضع الحكومات كل مرة أمام استحقاق التفوق على تلك العقوبات بمقاومة ذكية، في إدارة العلاقات الاقتصادية الدولية السورية وتصميم وتنفيذ برامج الانتاج والتنمية.

اليوم، ينشغل قطاع الأعمال في سورية اليوم بالتعامل مع حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب أصدرها الاتحاد الأوروبي مؤخراً بحق رجال أعمال سوريين، أغلبهم يعمل في مجال الإعمار والتجارة، وذلك في استهداف مدروس قطاعياً، للتأثير في حركة الإعمار وتوريد السلع الرئيسة إلى سورية، وزمنياً، بالترافق مع عودة انفتاح قطاع الأعمال العربي على التعامل مع سورية، وسط أجواء مريحة ومطمئنة للاستثمار وتوجه حكومي لإعداد بنية تحتية قانونية وتنظيمية جاذبة وضامنة للاستثمارات.

على التوازي، ينشغل الشارع السوري بأكمله بتبعات مشروع قانون أميركي «قيصر» يعاقب كل من يتعامل مع سورية اقتصادياً وسياسياً، تضغط الدولة العميقة في أميركا لتمريره، مقابل اتجاه آخر مناهض للعقوبات ويطالب بالاعتماد على الدبلوماسية في سورية.
ترافق كل ذلك مع اشتداد الحصار الاقتصادي الجائر، وتوقف توريدات المواد الأساسية لفترة تزيد على الشهر في تصعيد واضح لاستخدام أدوات الحرب الاقتصادية، التي لم تتوقف بحق سورية، ما أدى إلى تراجع ملحوظ في مستوى الخدمات، ولد ردة فعل اجتماعية واسعة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي مسرحاً لها، وكانت السياسات العامة مساهمة في جزء من تعميق هذه الحالة للضعف النسبي في مستوى آليات التعاطي والإدارة للموارد بعد ثماني سنوات حرب.

في المحصلة، يتلخص واقعنا اليوم بما يلي: مواطن يحصل على الجزء اليسير من الخدمات بصعوبة، وحكومة تبرر وتحاول امتصاص ردة الفعل والتعاطي مع الأزمة المستجدة، وحرب اقتصادية مستعرة للاستفادة من واقع الإجهاد الاجتماعي لتحقيق أهداف الحرب التي لم تتحقق بالعمل العسكري وغير العسكري طوال ثماني سنوات، مع الأخذ بالحسبان تطور الوقائع في الميدان، وتعامل الحكومة اليوم مع القسم الأعظمي من الأراضي السورية وتأمين الخدمات لها التي لم تكن مؤمنة سابقاً، وهذا ما يشكل ضغوطاً متزايدة على برامج السياسات العامة.

دورة حياة الحرب

تمر الحرب بعدة مراحل، تبدأ بمرحلة «المنافسة والتعاون» التي يتم خلالها محاولة إقناع الدولة المستهدفة للموافقة على شروط الدولة التي بدأت الاستهداف، من دون استخدام أي أدوات عسكرية، ويتم التركيز في هذه المرحلة على ما يسمى الأدوات غير الحركية، مثل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يكون العنف والحوادث نتيجة لإجراءات تتخذ تسبب اضطرابات داخلية وإجهاداً اجتماعياً في الدولة المستهدفة، علماً بأن إشراك المنظمات على اختلافها في العمليات خلال هذه المرحلة تكون غير عسكرية.
المرحلة الثانية هي مرحلة «القوة البعيدة» حيث يتم خلالها اللجوء إلى العمليات الحركية، ويبرز هنا دور الجانب العسكري لتمكين المنافسين من خلق ما يسمى «مناطق قتل» في الدولة المستهدفة، وذلك ضمن مناطق محدودة، تأخذ بالتوسع بشكل كبير على الأرض، وإسقاط آثارها على مسافة كبيرة، ويتم استخدام المقدرات الحركية العسكرية، وما يسمى الهجمات المعرفية، كما يتم استخدام وكلاء في داخل البلد المستهدف للقتال، إلى جانب دعم المعارضة، علماً بأن الوكلاء يشكلون قوة قريبة، لكنهم بالنسبة للداعمين؛ شكل للقوة البعيدة، ويكون الدور الرئيس هنا للمؤسسات العسكرية.
تنتقل الحرب إلى المرحلة الثالثة، في حال إخفاق المرحلتين السابقتين بتحقق هدف الحرب، وتسمى هذه المرحلة «القوة القريبة»، إذ يتم فيها تنظيم دور التحركات العسكرية، والمعارك داخل البلد المستهدف من أجل السيطرة على مناطق القتل التي تم تأسيسها والتوسع فيها سابقاً من أجل كسب الميدان، باستخدام جميع الوسائل الممكنة والتدخل المباشر، وفي حال الفشل في تحقيق أهداف الحرب، إما أن يتم الانتقال إلى المرحلة الرابعة وهي «القوة النووية» من باب الاحتمال والترجيح علماً أن استخدامها فاشل، وإما يتم الانتقال إلى مرحلة الصراع الذي يأخذ أبعاداً اقتصادية بشكل رئيس، لأن إخفاق الحرب بتحقيق أهدافها المعلنة لا يعني انتهاء الصراع.

أين نحن اليوم؟

انطلاقاً مما سبق، يمكن قراءة الحدث السوري بشكل أوضح، إذ يمكننا تمييز سمات مراحل الحرب على سورية، والبداية مع المرحلة الأولى كانت قبل ثماني سنوات، إذ تم التركيز على البعد المعيشي للمواطن للضغط على المجتمع ونقله إلى حالة المعارض للدولة، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط المعرفية المختلفة للضغط على الدولة السورية بهدف تحقيق أهداف الحرب.
ثم انتقلت الحرب بشكل سريع إلى المرحلة الثانية، مع دعم المعارضات وزرع وكلاء في الداخل في ظل موجة اضطرابات واحتجاجات ذات بعد اقتصادي واجتماعي، لبدء تأسيس مناطق قتل، والعمل على توسيعها لتشمل أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، ومن ثم إعطاء وزن أكبر للتحرك العسكري، ما جعل أدوات الحرب الاقتصادية ذات أهمية أقل، لأننا أصبحنا نتحدث يومياً عن ضحايا مناطق القتل، وهذا ما تطور بشكل دراماتيكي إلى المرحلة الثالثة مع تدخل مباشر من الدول المشاركة في العدوان على سورية.
مع نهاية العام 2018 وبداية 2019 وبالترافق مع الإعلان عن انسحاب أميركي من سورية، والارتياح الميداني للدولة، بدأت آثار الحرب الاقتصادية بالتفاقم، فالحكومة مجهدة بعد ثماني سنوات حرب، وتتعامل اليوم مع المساحة العظمى للجغرافية السورية مع إعادة تأهيل المناطق المحررة وبدء تغذيتها بالخدمات كافة، دون إنكار وجود قصور نسبي في التخطيط والإدارة الإستراتيجية للموارد والاستهلاك ضمن برامج السياسات العامة، فكانت تلك نقاط ضعف يمكن استغلالها من الدول التي استهدفت سورية، فتم العمل على توسيع أدوات الحرب الاقتصادية، التي يتم استخدامها كأسلحة، من خلال تشديد الحصار، وتوسيع مروحة العقوبات الاقتصادية، بداية من الاتحاد الأوروبي، والتلويح بمشروع قانون «قيصر» في الولايات المتحدة الأميركية الذي يفرض مروحة عقوبات اقتصادية كبيرة، كل ذلك أدى إلى تراجع توريد المواد الأساسية إلى البلد، وخلق حالة نقص شديد فيها، ساهم بدوره في خلق حالة إجهاد اجتماعي مضاعف هذه المرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما أعطى انطباعاً بأن دورة الحرب تتشكل من جديد، لكن بتأثير مضاعف هذه المرة، وهذا ما يفسره علم الاقتصاد العصبي، وتحديداً أثر الملكية.
يفسر علم الاقتصاد العصبي كيف يعمل الدماغ في حالات الخسارة والكسب، أو المكافآت، ويبرهن أن ردة الفعل عند خسارة مبلغ من المال مثلاً، هي أكبر بكثير من ردة الفعل عند كسب المبلغ نفسه، لأن الدماغ يعمل باتجاه تفادي المخاطرة، وهذا ما يسمى «أثر الملكية».
لذا، بعد تكييف الرأي العام عاطفياً بأن الحرب انتهت، من أشخاص في الحكومة لهم تأثير كبير في المجتمع، بحكم المنصب الوظيفي، والذي ترافق مع تحسن كبير في مستوى الخدمات والمؤشرات الاقتصادية، مقارنة بسنوات الحرب السابقة، أصبح من الصعوبة على المجتمع تقبل أي تراجع في مستوى الخدمات، لذا تضاعفت حالة الإجهاد الاجتماعي، وانخفضت القدرة على تحمل المخاطرة وتقبل خسارة جزء مما تم كسبه سابقاً.
وللأمانة، تنبهت الحكومة مؤخراً لكل ذلك، وبدأت تعمل عبر اجتماعات نوعية تستهدف قطاعات الطاقة والجمارك وسعر الصرف، ويبدو أن النتائج بدت تتوضح مع عودة سعر الصرف إلى الهدوء مجدداً، وسط وعود بتحسن ظروف انسياب المواد الرئيسة، وخاصة بعد توقيع 11 اتفاقية مع إيران، عسى أن تكون هذه الأزمة درساً استفادت منه الحكومة بشكل جيد للمرات القادمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى