«المعرفة» ثروة يجب استثمارها والاستثمار فيها «1 من2»
| د. عابد فضلية كلية الاقتصاد-جامعة دمشق
إن مستوى (المعرفة) الفكرية والإنتاجية هو الفرق (الفيصل) بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة. فالاستثمار في تعليم الإنسان، كإنسان، وكأهم عنصر من عناصر الإنتاج، وكذا الاستثمار في المؤسسات التعليمية والبحثية هو الاستثمار الأكثر جدوى وعائدية على الأمد الطويل من الاستثمار في عناصر الإنتاج الأخرى (الموارد، رأس المال، التنظيم)، وهو من دون غيره، الذي يخلق دول الرفاه واقتصادات المعرفة، فــ(الفكر) و(المعرفة) و(التأهيل) و(التدريب)، هي الشحنات الفعالة والطاقات الكامنة التي يجب أن يتسلح بها الكادر البشري، إنه القاطرة الأهم لعملية التنمية المستدامة، الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، حيث إن أي عملية تنموية مستدامة لا بد أن تُصاغ أسسها على مبدأ الاعتماد على القدرات المعرفية والطاقات الذاتية (البشرية والمادية) للاقتصاد والمجتمع (من جهة)، وأن تعتمد في فلسفتها على ضرورة استنهاض هذه القدرات (من جهة أخرى)، ولا بُد أن يكون العلم والمعرفة والبحث العلمي الأساس الذي تقوم عليه أنشطة الثروة البشرية والمِفصل الأهم الذي يُشكل وعيها، والإطار الذي يجب أن ترتقي بموجبه عملية التنمية والتطوير، وتحقيق ذلك كله يتطلب الاستثمار في الإنسان. لذلك فإن الاستثمار في رأس المال البشري هو استثمار وطني مستدام، تقوم القوى البشرية بموجبه بتحويل الثروات المادية إلى مخرجات عالية الإشباع لاحتياجات المجتمع.
وفي هذا السياق أكد الاقتصادي المعروف «الفريد مارشال» أهمية الاستثمار في رأس المال البشري واعتبره من أفضل أنواع رأس المال قيمةً ومفتاحاً لتقدّم الأمم والشعوب. وفي كتابه الشهير «ثروة الأمم» أكد الفيلسوف «آدم سميث» أبو الاقتصاد السياسي ومؤسس علم الاقتصاد الاجتماعي، أن كل القدرات المكتسبة والنافعة لدى سائر أعضاء المجتمع تعتبر ركناً أساسياً في مفهوم رأس المال الثابت اللازم والضروري لعملية التنمية، وأن «قدرات الأفراد تتوقف على مدى اكتسابهم للتعليم». فالعنصر البشري المؤهل –إذاً- هو أساس (تحسين الإدارة) ورفع (إنتاجية العمل) وزيادة واستغلال كفاءة التشغيل، فضلاً عن كونه العنصر الأساسي وراء الارتقاء بكفاءة عناصر الإنتاج الأخرى، وبالتالي فإن الاستثمار في تنمية هذا العنصر في إطار استراتيجية تنموية شاملة كفيل بشحذ الطاقات الإبداعية التي تستطيع أن تحول الثروات المادية من مجرد كميات نوعية إلى مخرجات تنافسية ذات قيمة مضافة عالية، من شأنها أن تُسرّع في النمو الاقتصادي وتحقق الرفاه الاجتماعي لأعضاء المجتمع، وخاصةً أننا اليوم نعيش صراع وجود بين (التخلف) وبين (التقدم)، القائم على «المعلومات والمعرفة»، نتنافس فيه مع اقتصادات متطورة، تُشكل المعرفة والقيمة المضافة البشرية فيها أكثر من (60 بالمئة) من القيمة السوقية لإنتاجها.
إن الفرق بين قيمة ما تنتجه دول (اقتصاد المعرفة) وقيمة ما تنتجه دول (الاقتصاد التقليدي) هو الفرق بين القيمة المضافة الكامنة (وهي الأجور والأرباح) في منتجات كل من الدولتين، أي إن معظم هذا الفرق يكمن بفروفات عائد عنصر العمل (الحي، والتنظيم والإدارة) و(المتجسد بالقدرة على استخدام الآلات وتكنولوجيا الإنتاج)، وهذه الفروقات بمعظمها ناتجة عن (المعرفة)، وهذه المعرفة إن كانت متدنية فهي تُنتج سلعاً نمطية تقليدية (و/أو عالية التكلفة) تستطيع الكثير من الدول والشعوب والمصانع إنتاجها، فتكون القيمة المضافة فيها متدنية، لأن معظم قيمتها السوقية متمثلة بقيمة المواد الداخلة في إنتاجها، وفي حال كانت المعرفة رفيعة المستوى، فهي تُنتج سلعاً عالية الكفاءة ذات محتوى تكنولوجي كبير، فتكون القيمة المضافة فيها (أي ما يحصل عليه البشر من حصيلة العملية الإنتاجية) عالية، لأن نسبة قليلة من قيمتها السوقية متمثلة بقيمة المواد والموارد الطبيعية الداخلة في إنتاجها، وبالمحصلة يحصل البشر في مجتمع (اقتصاد المعرفة) على نسبة كبيرة من قيمة ما ينتجونه (60- 75 بالمئة على سبيل المثال)، وتحصل الدولة على ضرائب دخل عالية من هذه النسبة تمكنها من الإنفاق على الخدمات والاستثمارات العامة، ويذهب الباقي (كمدخرات) و(للاستهلاك) و(للاستمرار بتغطية تكاليف عملية الإنتاج المستمرة و/أو للقيام باستثمارات جديدة). أما أفراد مجتمع (الاقتصاد التقليدي) فيحصلون على نسبة قليلة من إجمالي قيمة ما يُنتجونه (أي أقل من 40 بالمئة، وغالباً أقل من 25 بالمئة)، وبالتالي تحصل الدولة على حجم قليل من الضرائب من هذه النسبة، أي تضعف قدرتها على الإنفاق على المشاريع والخدمات العامة… وبالتالي لا بد من استثمار المعرفة والاستثمار فيها.
يتبع في المقال التالي… (2/2)