إشراقات

النقود تاريخياً (1/2)

| د. عابد فضلية كلية الاقتصاد-جامعة دمشق

يُعد النقد واحداً من أهم منجزات الحضارة البشرية، لكونه أسهم في تسهيل التبادل، وبالتالي في تسهيل الاستهلاك وتسريع عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج وزيادته.
وقد ازداد دور النقود وأثرها اليوم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بعد أن تم تطوير النقود الخطية وبطاقات الاعتماد والنقود الالكترونية، وبالتالي فإن النقد ليس عنصراً اقتصادياً وتبادلياً محايداً، بل هو متغير يؤثر في حجم التشغيل والدخل ومستوى المعيشة، لذا لا يمكن اليوم تصور أي اقتصاد من دون النقود، التي إضافة إلى ما ورد آنفاً، تلعب الدور الحاسم في تحديد القيم ضمن الحدود الوطنية ودوراً مهماً في تحديد العلاقة بين الاقتصاد الوطني والاقتصادات الخارجية، علماً أن الحاجة إلى التبادل وتطوره، بدءاً من المقايضة بالسلع، مروراً بالمعادن والبنكنوت، وانتهاءً بالنقد الالكتروني.
وشهدت البشرية النقود الأولى (سنة 3500 ق م) عندما انبثقت بأشكالها الأولية من رحم الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين، بعد مراحل عديدة ومتراكمة ومديدة من التطور المادي الذي وصلت إليه شعوب هذه الحضارة وبعد أن أبدعت بفنون الزراعة بشقيها النباتي والحيواني والإنتاج الحرفي والمهني وظهر فيها التقسيم الاجتماعي الأول للعمل بانفصال الزراعة عن الصيد وتربية الحيوانات، ومن ثم التقسيم الاجتماعي الثاني للعمل بانفصال الحرفة عن الزراعة بعد اكتشاف النار واستخدام النحاس والحديد وتطور صناعة الأدوات والمعدات المعدنية واتساع قطاع الإنتاج المهني والحرفي، الأمر الذي ساهم في زيادة الإنتاج وظهور الفائض السلعي الذي تم تبادله بين المشاعات والقبائل المتجاورة بدءاً بمقايضة سلع بسلع، وانتهاءً (آنذاك) بالتبادل باستخدام السبائك والنقود المعدنية.
بعدها، جاءت الحضارات الأخرى في بلاد المشرق كالبابلية والآشورية والكنعانية التي ورثت التعامل النقدي من السومريين، فطورت المسكوكات.
لاحقاً، في (سنة 600 ق م)، أي بعد نحو (2900 سنة)، شهدت مملكة ليديا إحدى ممالك الأقوام اليونانية أول سك للنقود بعد أن تم أخذه عن البابليين، وقامت بسكها بدايةً من معدني الذهب والفضة، كما ورد في كتابات (هيرودوت 484-425 ق م)، ولاحقاً من معادن أخرى مثل الحديد والنحاس، كما أكد (أرسطو) في كتاباته التي نُشرت في الفترة (484-425 ق م)، والتي حرّم فيها الربا، وأكد أن الأفراد يقبلون أي عملة تحقق لهم أغراضهم كأن يقبلوا التعامل بالعملة المصنوعة من الحديد والنحاس.
أما بلاد الشام فكانت خاضعة لاحتلال الفرس خلال الفترة (538- 332 ق م)، لذا استخدمت فيها مسكوكات ملك فارس (دارا الأول)، ومنها العملة المسماة بـ(زريق) ونقود أخرى مثل الـ(داريق الذهبي) و(الشاقل الفضي)، حمل بعضها رسماً لبعض ملوك الفرس، مثل (داريوس الأعظم) و(كسرى أنوشروان)، وكانت هذه النقود البديل القسري الذي كان أول من فرضه الملك الفارسي (دارا الأول) لمسكوكات أهل الشام التي كانت تحمل آنذاك لغتهم الآرامية. بعدها مباشرةً، وفي (سنة 332 ق م)، وبعد أن اجتاح الرومان بقيادة (الاسكندر المقدوني) بلاد الشام، قام بفرض نقوده الذهبية والفضية والبرونزية والنحاسية التي سكها على الطراز الإغريقي، وكان معظمها يحمل رسمه وعلى رأسه خوذته المشهورة، إلا أن انقسام مملكته بعد موته إلى قسمين تحت حكم قائديه (سلوقس) و(بطليموس)، جلب الاستقرار إلى بلاد الشام التي انضوت تحت حكم (السلوقيين)، الذين قاموا بسك النقود التي غلب على نقوشها أوجه آلهة الإغريق مثل (زيوس) على سبيل المثال.
لاحقاً خضعت بلاد الشام للقسم (البيزنطي) من الإمبراطورية الرومانية التي انقسمت (سنة 395 م) إلى (روما) في الغرب و(بيزنطة) في الشرق، ومنع سك النقود فيها وصار حق السك محصوراً بـ(القسطنطينية) و(أنطاكيا)، اللتين سكتا النقود البزنطية التي حملت رسم (الاسكندر المقدوني). وفي القرن الأول قبل الميلاد كانت الأسواق التدمرية تشهد نشاطاً تجارياً مترافقاً مع وجود نشاط موازٍ في الصيرفة وتقديم الخدمات المالية، وكانت النقود الرومانية هي العملة المستخدمة في تدمر، إلا أنها حملت رسم الملكة (زنوبيا).
وبقيت النقود البيزنطية (الذهبية والنحاسية) متداولة في بلاد الشام حتى بعد أن سيطر عليها العرب المسلمون (سنة 622 م)، واستمر ذلك حتى عهد الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان)، الذي قرر التحرر من هذا النوع من النقود، فأمر (سنة 691-692م) بضرب الدينار الذهبي الدمشقي، كعملة عربية، الأمر الذي تسبب بحرب مع روما نتيجة محاولة الإمبراطور الروماني عدم الاعتراف بهذه العملة آنذاك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى