يعتبر الفساد والاحتيال من أهم عوامل تراجع النمو الاقتصادي في البلدان التي يتماديان فيها لحد بعيد، لذلك صُنّف هذان السلوكان بأنهما من معوقات الاقتصاد عالمياً، ولاسيما أنهما سواء كانا بشكل مادي أم معنوي يُسهمان بشكل مباشر في تراجع المؤشرات الاقتصادية للمؤسسات وللاقتصاد بشكل عام، ما يحول دون تطوير أو نهضة الدّول سواء كانت متقدمةً أم نامية، لذا تناول تأثيرهما الكثير من الأبحاث والتقارير العالمية مُطبّقةً مختلف أدوات البحث على عينات مختلفة لتثبت ذلك رقمياً ومادياً وأخلاقياً، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، إذ تعدّى ليصبح الفساد والاحتيال من أهم العوامل التي تلطخ سمعة مؤسسة ما وقطاع ما وكيان اقتصادي ما على الصعيد العالمي.
وفي هذا الإطار، تشير التقارير الدولية للاحتيال والاستغلال الوظيفي الصادرة عن جمعية مكافحة الاحتيال الدولية ACFE إلى أن المؤسسات تخسر تقريباً 5 بالمئة من إيراداتها سنوياً بسببه، ما يقدر بنحو 4,5 تريليونات دولار على مستوى العالم، وبناءً عليه، سعت وتسعى المؤسسات (العامة والخاصة) إلى تفعيل دور الدوائر الرقابية لمنع أو تقليل عمليات الاحتيال التي قد تحدث فيها، وذلك من خلال زيادة قدرة نُظم الرقابة الداخلية على تقييم الحالات التي يشتبه باستغلالها ممن يود الاحتيال في هذه الشركات والمؤسسات، وذلك من خلال إغلاق الثغرات التي قد تظهر خلال ممارسة الأعمال بغية تقليل حجم الاحتيال إلى أدنى حدّ ممكن، وأن يتمتع العاملون في مجال الرقابة الداخلية بالقدرة على التحقق من قيام الوحدات الإدارية الأخرى كافة بمهامها المنصوص عليها في التوصيف الوظيفي لها ما يحول دون ارتكاب احتيال وظيفي واستغلال المناصب، إضافة إلى امتلاك الوعي اللازم والإحاطة بمؤشرات الاحتيال (الرايات الحمراء Red Flags) كما هو متعارف عليه في علم التدقيق، وذلك بغية اكتشاف مدى احتمال حدوث فساد أو احتيال في مختلف أنشطة المؤسسات، وهذا ما أشارت إليه أيضاً المعايير الدولية للممارسة المهنية للتدقيق الداخلي التي كانت تركز على ضرورة وضع ضوابط رقابية لمواجهة ذلك والتدقيق فيه، وعدم التهاون بذلك.
وبكل تأكيد، ينطبق ما ذكرناه على كل المؤسسات سواء التجارية أم الصناعية أو المالية، وغيرها من المؤسسات، ولكن تكتسب الرقابة والتدقيق في المؤسسات المالية أهمية كبرى ناتجة عن الدور الذي تؤديه هذه المؤسسات، والمخاطر التي تكتنف عملها، لذلك نجد أن دوائر الرقابة الداخلية والتدقيق الداخلي في المؤسسات المالية تتطلب خبرةً كبيرة في هذا المجال، ولاسيما في المؤسسات المساهمة العامة أو الخاصة نظراً لمتطلبات الحوكمة السليمة في هذه المؤسسات التي يشرف على تطبيقها مجلس إدارة منتخب أصولاً من الهيئة العامة للمساهمين، ويُساق الأمر ذاته على المؤسسات المالية التابعة للقطاع العام نظراً لضرورة الإدارة السليمة للمخاطر التي تتعرض لها هذه المؤسسات والتي تنعكس بصورة أو بأخرى على عوائد وإيرادات الخزينة العامة للدولة من جهة، وعلى الاقتصاد الوطني من خلال ما تقوم به من تجميع المدخرات ومنح التسهيلات الائتمانية والقروض من جهة ثانية، ويُضاف لذلك ما قد يكتنف عمل هذه المؤسسات من فساد واحتيال قد يمتد لمؤسسات وأجنحة القطاع العام برمته كأحجار الدمينو.
وفي هذا الصدد، فإن تفعيل دوائر التدقيق الداخلي والرقابة الداخلية في كل مؤسسات وهيئات وشركات القطاع العام والقطاع الخاص هو مطلب إداري اقتصادي «بديهي» منذ تأسيسها، وإن كان القطاع الخاص أكثر حرصاً من القطاع العام على ماله ومكتسباته وسمعته السوقية والمالية والإنتاجية، إلا أن أهمية ذلك في القطاع العام تأتي من كونها بديهية كما ذكرنا، ونظراً لغوص المنتفعين بترهلها وازدياد الهدر فيها، ونظراً لتراكم الخسائر في بعضها مسبباً عجوزات مالية متتالية للخزينة العامة للدولة وحارماً من تطوير منظومات هذه المؤسسات سواء الإدارية أم المالية وحتى الصيانات المتتالية لأصولها الثابتة والتعزيز لإنتاجيتها، ولكن اللافت للنظر إغفال كل الإدارات لأولوية تفعيل هذه الدوائر سواء بالقول أم بالفعل، فقلما يصدر إعلان أو بيان عن ذلك، بل أن أردنا أن نغرق بالتفاصيل التي تفضحها خسائر وترهل بعض المؤسسات فيمكن القول بأنه لا نتائج بتاتاً لعمل دوائر الرقابة في هذه المؤسسات، وهذا يحتّم على القائمين على تطوير منظومة العمل الحكومي والقائمين على تأهيل شركات ومؤسسات القطاع العام (وبغض النظر عن الحل الأفضل لهذه المؤسسات سواء بالمشاركة أو التشاركية أو سواها) تسليط الضوء على الرقابة وتفعيلها لأقصى حدّ، مع كامل الصلاحيات المبنية على الاستقلالية الممنوحة لها في هذه المؤسسات إن كانت دراساتهم ورؤاهم ستُبنى بشكل علمي مستدام.