تخطى مفهوم التنمية الاقتصادية المفاهيم التقليدية التي تتمحور حول ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لتشمل حـق جميـع الأفراد في مستوى معيشة أفضل وخيارات أكبر تمكـنهم من تفعيل قدراتهم الذاتية في شتى المجالات، مع ضمان الحقوق الأساسية التـي يجب أن تتسم بها المجتمعات كالمساواة والمشاركة والمسـاءلة، وغيرها، حيث أضحت التنمية الاقتصادية تتطلب مشاركةً مجتمعيةً تقترن بتطور تنظيمـات المجتمـع المدني من منظمات مهنية (نقابات) وسياسية (أحزاب) وهيئـات علميـة وثقافية وجمعيات مختلفة، وبهذا المعنى لم تعد المقاييس الرئيسة للفقر هي اقتصادية فقط، ولم يعد ينحصر في الأسر والأشخاص ذوي الدخول المنخفضة، بل أضحى يقاس أيضاً بنقص أو غياب المعلومات وندرة فرص الوصول إليها، وكذلك بانخفاض قدرة المواطنين على المشاركة في المؤسسات وفي المشاركة المجتمعية، ما يعني بالتالي تدني المواطنة بمفهومها الواسع.
وفي هذا الصّدد، فإن تحقيق المواطنة لدى الفقراء يتطلب «إعادة توزيع الدخل» بهدف تحسين مستوى معيشتهم، وتمكينهم من المشاركة في صنع القرار، وزيادة قدرتهم على مساءلة المؤسسات من خلال مواطنة محلية شاملة وفعالة تدعمها مركزية القطاع الحكومي، حيث يؤدي ذلك إلى زيادة القدرة على المحاسبة عن توزيع بنود الإنفاق العام وتنفيذ سياسات منحازة للفقراء على المستوى المحلي، فطبيعة الإنفاق العام أكثر أهمية من حجمه، نظراً لفاعليته وتأثيره في العقد الاجتماعي والمشاركة المجتمعية.
وبناء عليه، تتمثل المواطنة الاقتصادية بتحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني الدولة سواءً من حيث حرية الانتقال والعمل والإقامة، أم حق التملك والإرث والإيصاء، أو حرية ممارسة النشاط الاقتصادي، أو حرية انتقال رؤوس الأموال، كما أن جودة المواطنة بمفهومها العام تختلف بحسب العديد من المعايير تبعاً لوجودها في المجتمع.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا يقبع التخلّف الاقتصادي في دول العالم الثالث ويزدهر الاقتصاد في دول العالم المتقدم؟ مع العلم أن بعض دول العالم الثالث غني؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل يستوجب التفريق بين التطور الاقتصادي القائم على استهلاك الموارد الطبيعية التي لا دخل للدول فيها، وبين التطور الاقتصادي القائم على تطور العجلة الإنتاجية، فالأول سرعان ما ينقرض ما لم تطوِّر هذه الدول استراتيجيتها الاقتصادية وتتحوّل من دول مستهلكة لمواردها إلى دول مطوّرة لهذه الموارد، بل قد تتفاقم المشكلة بصورة أكبر عند بعض الدول التي تمتلك موارد محدودة وعاجزة عن تطويرها وفق الاستراتيجيات الحديثة، أما التطور الاقتصادي القائمُ على التطور العلمي والتكنولوجي والقائم على تطور العملية الإنتاجية فهو الأكثر استقراراً واستدامةً كما هو لدى الدول المتقدمة، وبناءً عليه، فالتطور الاقتصادي لا يمكن أن ينهض به شعب من الشعوب وقد غُيّب اللاعب الرئيس للمواطنة ألا وهو المواطن، والأمثلة والشواهد عديدة على مدى التاريخ، حيث لا يوجد تطور اقتصادي (بالمفهوم الحقيقي لكلمة تطور) ومعايير المواطنة منقوصة.
وعطفاً على ما سبق، فالمواطنة ليست بنوداً وقوانين توضع في الدساتير فقط، لكنها سلوك عملي تطبيقي يمارس على أرض الواقع ويعيشه الناس ويلمسونه في حياتهم العملية، وأضحى لها دور مهم في تطور الاقتصاد لما تحققه من استقرار وتوافق وتآلف بين أفراد المجتمع نظراً لعدم شعور أيّ منهم بالظلم الاجتماعي، بل على العكس سيكون الجميع متمتعاً بجميع الحقوق المستحقة سواءً كانوا أغنياء أم فقراء، وسيشعرون بأن كل تقدّم اقتصادي سيعود عليهم بالنفع جميعاً، وأنهم يسيرون في مركب واحد، إن نجت سفينتهم نجوا جميعاً، وإن غرقت غرقوا جميعاً، لهذا ستتسابق كل فئات المجتمع وأفراده وطوائفه واتجاهاته المختلفة للنهوض بالاقتصاد الوطني مهما كانت موارده باعتباره صمام أمانهم، والمساس به هو مساس بمدخراتهم وأموالهم الشخصية، والشواهد على ذلك كثيرة، فهناك بعض الدول كانت في عداد الدول الضعيفة اقتصادياً (بل وصلت إلى حد الفقر) ثم تحوّلت إلى دول منتجة (منها اليابان بعد قنبلة هيروشيما)، ومن ثم دخلت في عداد الدول المتقدمة الآن، والسبب يتمثل بتحقيق المواطنة الحقيقية بين كل أفراد وفئات المجتمع ووعيهم أن لكل منهم دوره الفاعل في بناء وطنهم من جديد، بل بصورة أفضل.