التعليم في سورية… الواقع والتحديات… شهادات عليا بالجملة لم يَنتج عنها مصنع أو تحقق الاكتفاء الذاتي في أي ميدان.! … إيفادات خارجية متوقفة وتوجّه نحو الداخلية من دون توافر البنية التحتية
| أيمن أحمد علوش
دكتوراه في السياسة الدوليّة- دبلوماسي سوري متقاعد
تناولتُ في الجزأين الأول والثاني واقع التعليم في سورية وتحدّياته خلال المرحلتين الثانويّة والجامعيّة، وأبرزتُ أهمية إعداد دراسات تحليليّة لواقع التعليم وما يعترضه من تحدّيات ووضع خطط ممنهجة، مستفيدين من تجارب وخبرات دولٍ أخرى تسبقنا في هذا المجال، ما يجعل العمليّة التعليميّة متكاملة وتخدم في مواجهة التحدّيات الحياتيّة وبناء المستقبل.
في هذا الجزء الثالث والأخير سأبحث في تحديات التعليم في مرحلة الدراسات العليا (دبلوم- ماجستير- دكتوراه) مع اقتراح ما أراه ضرورياً للنهوض به ليكون فاعلاً على الأرض، فالبحث العلمي يعني تطوير الصناعة والزراعة والاختراعات وتطوير الدواء وحماية البيئة وإيجاد حلول لكل تحدّيات المجتمع، وليس مجرد لقب يضاف أمام الاسم أو لشغل الفراغ لحين إيجاد وظيفة أو لتأجيل الخدمة الإلزاميّة.
تحدّيات العمليّة التعليميّة في مرحلة الدراسات العليا (الجزء الثالث)
لقد خطت الجهات المعنيّة في التعليم العالي في عقود ماضية خطوات مهمّة في عمليّة تمكين النظام التعليمي في المرحلة الجامعيّة من خلال تعيين المتفوّقين كمعيدين في الاختصاصات التي تغطّي احتياجات جميع الاختصاصات الجامعية، ومن ثم إيفادهم إلى جامعات في الخارج لإكمال تخصصّهم الأعلى ليعودوا متفرّغين في الجامعات والكليّات والمعاهد التي تمّ إيفادهم لمصلحتها.
لكن، وللأسف، فقد شاب هذه العمليّة الكثير من الأخطاء ما جعلها غير متكاملة، الأمر الذي أدى إلى تسرب عدد كبير من الموفدين بعد إكمالهم تحصيلهم العالي واستقرارهم في الدول التي أوفدوا إليها، وخاصّة الموفدين إلى جامعات الدول الغربيّة، وأعتقد أن عمليّة تأهيل على هذا المستوى وما تطلبه ذلك من نفقات كانت تستوجب أن تُستكمل دورتها بأن يُمنح الأستاذ الجامعي بعض الخصوصيّة والميزات التي تؤمّن له حياة كريمة، وهو الأمر الذي تمّ استدراكه لاحقاً بقانون التفرغ والتعليم المهني الذي حسّن من دخل الأستاذ الجامعي، ولكن سرعان ما فقد الأستاذ الجامعي هذه الميزة مع تدهور قيمة العملة السوريّة مع بدء الحرب على سورية.
هي علم أكثر من لقب
المشكلة الأساسية التي رافقت تجربة الإيفاد تكمن في عدم توافر فهم حقيقي لمعنى الدراسات العليا، فهي في مفهوم العلم أكثر من لقب يضاف إلى بداية الاسم أو تخصص يعمّق معرفتنا في موضوع معيّن. الدراسات العليا تعني البحث العلمي بهدف إيجاد حل لمشكلة تواجهنا في حياتنا العمليّة، سواءً في الحقل أم المصنع أو في أي مجال من مجالات الحياة، والتحدّي الذي أتحدّث عنه هو مباشرة معظم موفدينا لدراساتهم العليا في الخارج من دون أن يكون لديهم «مشكلة بحثيّة» أو تصوّر لعنوان البحث الذي يريدون الغوص فيه، فكانوا يلجؤون لأساتذتهم المشرفين عليهم لاختيار عناوين لبحوثهم، فجاءت بحوث بعضهم بما يخدم اهتمام أساتذتهم ومجال بحثهم أكثر مما تخدم اهتمام وقضايا مجتمعاتهم.
الانتقال إلى اختصاص آخر
التحدي الآخر الذي واجه تجربة الإيفاد هو انتقال عضو الهيئة التدريسيّة بعد عودته من الإيفاد من الجامعة التي أوفد لمصلحتها إلى جامعة أخرى قد لا تحتاج إلى اختصاصه، أو إلى جهة رسميّة أخرى خارج مجال عمل وزارة التعليم أو أوكلت له مهمّة رسميّة أو حزبيّة أو نقابيّة عطّلت من عطائه، فقانون الإيفاد كان مبنيّاً على أسس وخطط ودراسات، وهذا يعني أن أي تسرّب سيترك فراغاً لدى القسم أو الكليّة التي بنت خططها على وجود الأستاذ الجامعي بعد انتهاء فترة إيفاده كمعيد باختصاص معيّن في كادرها، فتراه ينتقل إلى جهة أخرى أو ينشغل بعمل آخر.
توقف الإيفادات
واقع التعليم العالي حالياً غير صحّي، فقد توقفت معظم الإيفادات الخارجيّة بسبب الظروف المادية التي فرضتها الحرب على سورية، ما جعل الجامعات تتّجه نحو الإيفادات الداخليّة من دون توافر البنية التحتية المؤهِلة لذلك، فكما هو معروف فإن الدراسات العليا تعتمد بشكل أساسي على توافّر أساتذة مشرفين على اطلاع مستمر على مستجدات العلوم المتصلة باختصاصهم، من جهة، وتوافر مستلزمات البحث من ميزانيّة كافية وكتب ودوريات ووثائق وأرشيف ومقالات حديثة، وهي عناصر غير متوافرة أو في حدودها الدنيا، سواء بسبب العقوبات المفروضة على سورية، أم لعدم توافر الإمكانات المادية للبقاء على تواصل مع هذه الجهات البحثية.
مراكز تعليمية لا بحثيّة
لقد بقيت جامعاتنا مراكز تعليمية وتأخرت كثيراً عن أن تكون مراكز بحثيّة أسوة بالدور المناط بالجامعات في معظم دول العالم، فمن الجامعات تخرج الاختراعات والاكتشافات والحلول لتحديات الطبيعة والزراعة والصناعة، ويعود ذلك بتقديري لعدم اكتمال العملية بين الواقع والجامعة والجهات الحكوميّة أو الخاصّة، وأعتقد أن الجامعة قصّرت في فترة رخاء ما قبل الحرب عن أن تحظى بثقة القطاع الخاص والعام لتكون مركز بحوثه وانطلاقاته، فنرى أن دور الأستاذ الجامعي انحصر في التعليم والتصحيح من دون أن تتاح له الفرص اللازمة لحضور المؤتمرات والندوات والاطلاع على جديد العلم أو نشر مقالات أو أبحاث خاصة، لأن معظم المجلات العالمية باتت تتقاضى أجور نشر الأبحاث بعد أن كانت في الماضي تدفع للأستاذ مقابل جهده، وهو ما لا تقدمّه الجامعة، وتعاظمت هذه التحدّيات مع بدء الحرب على سورية وما آلت إليه الأمور بسبب الميزانيات المخصّصة للجامعات أو لطلبة الدراسات العليا أو لتأمين المراجع والاشتراك بالدوريات العلميّة.
شهادات بالجملة
لترجمة ما أقول يمكن أن أذكر أن الجامعات السورية قد منحت خلال السنوات الماضية عدداً كبيراً من الشهادات في الدبلوم والماجستير والدكتوراه، ولكنّ كلّ هذه الشهادات لم يَنتج عنها مصنع، ولم تحقق الاكتفاء الذاتي في أي ميدان من ميادين الحياة، ولم تعالج أياً من التحديات لا في الحقل ولا في المعمل ولا في الشركات ولا في حياة المواطن.
إن هذا الواقع يجعل الأستاذ الجامعي أمام مهمّة صعبة إن لم تكن مستحيلة، فيصبح عطاؤه مقتصراً على معرفة ثابتة لا معرفة متطورة، ويجعل طالب الدراسات العليا أيضاً أمام تحديات تفرضها طبيعة البحث العلمي، وهذا بالتأكيد سيشكّل مزيداً من الضغط على الطالب والأستاذ المشرف، وإن كان هذا الأمر مختلفاً بين الكليّات العلمية والكليّات الأدبية وفي الكلّيات العلمية والأدبية نفسها، ولكن سيكون في النتيجة مؤثراً في قيمة الإنجاز العلمي.
معايير جودة
يبنى التقييم العالميّ لمستوى الجامعات بناءً على عدد كادرها التعليمي بمرتبة أستاذ بشكل أساسي، وأستاذ مساعد وعدد البحوث العلمية التي تصدر عن هذا القسم أو هذه الجامعة ومعايير الجودة، وعند النظر إلى جامعاتنا وفق هذه المعايير فإننا نجد أن عدد من هم بمرتبة أستاذ في جامعتنا هو أكثر منه في كثير من الجامعات المشهورة في العالم، وهذا يعود إلى غياب المعايير الدقيقة في مرحلة سابقة للترفّع من مرتبة إلى أخرى، فكثير من الدكاترة حصلوا على مرتبة أستاذ مساعد وأستاذ بناءً على أبحاث غير محكمة أو بناء على تأليفهم لكتب دراسية منسوخة تماما من كتب أجنبية، أو بجهود زملاء لهم يتقدّمون عليهم في البحث العلمي، والفئة الأخيرة هي فئة بعض المسؤولين الذين ابتعدوا عن البحث العلمي بحكم اهتماماتهم السياسيّة أو الإداريّة أو ليس لديهم القدرة على إتمام أي بحث علمي.
دون المستوى
وعلى الرغم من كلّ المعايير التي تمّ اعتمادها خلال العقد الأخير في الترفّع، فقد ظلت العمليّة دون المستوى العالمي بسبب الحرب والعقوبات والتحديات الماديّة أمام الجامعة والأستاذ الجامعي نفسه، فعلى سبيل المثال، لكي يطّلع الباحث على أي مقالٍ في مجلة علميّة محترمة عليه أن يسدد قيمة الاطلاع التي تبدأ من 50 دولاراً، فكيف إذا كان البحث يحتاج إلى الاطلاع على عددٍ من المقالات والدوريّات وغيرها، وهو التحدي الذي يقف أمام طالب الدراسات العليا والدكتور الذي يسعى للحصول على درجة علميّة أعلى، وخاصّة مع تراجع دور الجامعة في تقديم أي من هذه الخدمات.
تعليم الأزمة
فرضت سنوات الحرب على سورية ما يمكن تسميته «بتعليم الأزمة» حيث دفعه الواقع، سواءً جرّاء نقص الموارد الماديّة أم العقوبات التي فرضت على سورية، إلى شبه توقّف لعمليّة الإيفاد إلى الخارج وإلى افتتاح عدد من الاختصاصات في الدراسات العليا، وأعتقد أن هذه الخطوات ستلقي بظلالها على معيار الجودة، وبالأخص في اختصاصات معيّنة، ليس بسبب عدم أهليّة الطلاب، بل بسبب مجمل ما تطرقت له أعلاه من تحدّيات أمام الوطن والجامعة والأستاذ المشرف والطالب وثقافة الدراسات العليا نفسها في مجتمعنا.
رافد للاقتصاد
لا بدّ من التعامل مع البحث العلمي كأحد أهمّ روافد الاقتصاد، وهذا يتطلّب فهماً حقيقيّاً لمعنى البحث العلمي، وأن تنظّم له ورشات عمل وأبحاث يقدّمها مختصّون متقدّمون في مجال البحث العلمي والنشر، بهدف وضع إستراتيجيات متكاملة تنهض بالجامعات إلى أكثر من دورها التعليمي، لتكون مراكز بحثيّة حقيقيّة تتكامل مع كل قطاعات المجتمع ومؤسساته، وتقدّم الحلول لتحدّياته، وهذا يستلزم توفير مقومات البحث العلمي كافة من تفرغ وموازنة وثقافة التعليم العلمي وبنية تحتيّة وتواصل علمي، ومكانة ورفاهيّة للباحث الذي يتصدّر قائمة الثروات الوطنيّة.