قوة الليرة من قوة الاقتصاد… د. فضلية: معالجة مشكلة ضعف الليرة السورية يتم من خلال تقوية وتوسيع القاعدة الاقتصادية وتحريك عجلة الإنتاج وتسريعها
الاقتصادية
ليس شرطاً أن يكون السبب الأهم لانخفاض قيمة عملتنا الوطنية قلة الاحتياطي والموجودات من عملة الدولار (و/أو الذهب و/أو العملات الصعبة الأخرى)، ولا المضاربة به وعليه، وليست العلة الأساس التي أضعفتها متمثلة في تدخل أو عدم تدخل مصرف سورية المركزي في سوق القطع، ولا حتى في احتمال وجود إشكالية من عدمها في الآلية التي يتم بها هذا التدخل، وقد لا يكون السبب الأهم بضعف العملة الوطنية هو المضاربة بها في السوق السوداء للقطع، وربما ليس تهافت المهربين على إتخام السوق الداخلية بالسلع الكمالية المهربة هو السبب الرئيس، ولا رأس الأسباب.
وفي مقاربة دقيقة للدكتور عابد فضلية أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق حيث قال: إن قيمة الليرة السورية -وأي عملة وطنية- هي محصلة لتفاعل الكثير من العوامل الاقتصادية، السلعية والنقدية والمالية والتجارية، وتتأثر بشدة بالعوامل النفسية والسياسية وعوامل أخرى أهمها الأمن والاستقرار، أكانت تقليدية أم عفوية أو مفتعلة، لذا فإن تغير و/أو تحسن أو تدهور واحد أو أكثر من هذه العوامل يؤثر في سعر صرف الليرة، ويُضعف من فعالية إجراءات المصرف المركزي (أو يقلل من تأثيرها) فيما لو تُرك ليتدخّل وحده، لأن مهمة الحفاظ على قيمة واستقرار سعر الليرة تقع أيضاً وبالقدر نفسه من الأهمية على كاهل جميع الجهات الاقتصادية الحكومية وغير الحكومية في قطاع المال والسياسات الإنتاجية والتجارية والجمركية، ورغم ذلك فقد تُرك مصرف سورية المركزي وحده لكي يقوم بالإجراءات النقدية والمالية للحفاظ على قيمة الليرة (بإجراءات وخطوات تدخلية وغير تدخلية أحادية الجانب)، وبالتالي فقد تركزت هذه الإجراءات بذلك (وحتى الآن) على العامل النقدي (والمالي) فقط، وتم حكومياً تجاهل الإجراءات الأخرى غير النقدية وخاصة منها الإنتاجية والتجارية الداخلية والخارجية.
استقرار في بيئة العمل
لذا فإن قيمة الليرة (و/أو استقرار سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية) هي من العوامل الفاعلة (الأهم) في حركة المتغيرات الاقتصادية المادية والاجتماعية الكلية على مستوى الوطن، ويهدف إلى استقرار المستوى العام للأسعار، واستقرار بيئة العمل الاقتصادي بمجمله، حيث تنعكس أي زيادة في الدخول (متمثلةً بالدخل القومي والفردي وفي نسب النمو الاقتصادي ووجهه الاجتماعي، أي بنسبة نمو القيمة المضافة TVA= الناتج المحلي الإجمالي/GDP)، الأمر الذي يعني من جهة أخرى ثباتاً في القوة الشرائية للعملة الوطنية، وارتفاعاً حقيقياً لمستوى المعيشة للمواطنين، كما تنعكس زيادةً حقيقية (وليس اسمية أو صورية) في إيرادات الخزينة العامة للدولة وبالتالي في ثبات القوة الشرائية لنفقاتها الجارية والاستثمارية.
وبالتالي، فإن (قيمة) و(سعر صرف) و(قوة) و/أو (مشكلة) «الليرة السورية» تتجسد بشكل أساسي، وبالدرجة الأولى بما اختصره بشدة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب (عام 2016)، بــ«ضعف الاقتصاد»، هذه المقولة الصائبة التي تعني بوجهها الآخر أن (قوة الليرة من قوة الاقتصاد).
التشخيص الدقيق
هنا يستشهد الدكتور فضلية بكلام السيد الرئيس.. هذا هو سيد الكلام ورأس القول، هذا هو التشخيص الأكثر عمقاً، والأصح استقراءً والأبسط تعبيراً، وعدا ذلك من التشخيصات والأسباب يُعد من الثانويات ومن جزئيات التفاصيل. نعم هذا هو التشخيص الذي كان على السلطات والجهات الرسمية والحكومية، الوزارية والمؤسسية والإدارية النقدية والمالية والمصرفية، وضعه مبكراً في مفاصله الصحيحة، واستيعابه في سياقه الظرفي العلمي الموضوعي الصحيح، للتمكن من وضع (و/أو تعديل) ما يلزم، وما هو ضروري من التشريعات (الاستثنائية التي تناسب المرحلة)، واعتماد الخطط الزمنية والإجراءات التنفيذية المناسبة، القطاعية والهيكلية والمالية لتكون المعالجة على أساس رؤية جديدة مبتكرة مطورة، على أن يكون تحقيق كل ذلك على كاهل (وواجب) و(مسؤوليات) جميع الشركاء والجهات ذات الصلة، الإدارية والإنتاجية والتخطيطية والخدمية).. كما هو الأمر عند الحديث عن أن حصيلة عملية التنمية هي حق للجميع، لكل في موقعه، وبحسب إنتاجه وأدائه، ودوره التنموي في المجتمع.
الإنتاج أولاً
ولمن يسأل عن كيفية هذه المعالجة فليكمل قراءة واستقراء بقية ما قاله السيد الرئيس بهذا الخصوص، بأن على («أصحاب المصالح بدء المشاريع وعلى الدولة مساعدتهم في ذلك»)، أي إن معالجة مشكلة ضعف الليرة السورية يتم من خلال تقوية وتوسيع القاعدة الاقتصادية، وتحريك عجلة الإنتاج وتسريعها، وخاصةً الإنتاج السلعي الزراعي النباتي والحيواني، والصناعي التحويلي والتجاري والمهني والحرفي، وعلى الأخص منها أنشطة إنتاج السلع الغذائية والدوائية والتصديرية والنسيجية واللازمة للسوق المحلية كسلع جاهزة أو مستلزمات ومدخلات إنتاج، بما فيها، وربما على رأسها منتجات بدائل الاستيراد، وتلك التي تُشكل فيما بينها العناقيد الصناعية والقاطرات التنموية التحريضية، الأمامية والخلفية.
فالاقتصاد السوري بطبيعته، وبناءً على عناصر إنتاجه الأساسية، من (أرض) و(مناخ) و(بيئة مادية) و(موارد طبيعية) و(مستلزمات إنتاج) و(قوة عمل) و(خبرة)، هو اقتصاد إنتاجي مادي حقيقي سلعي قائم بأساس أساسه على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، التي تُعد المصدر الرئيس لمدخلات ومستلزمات الصناعة التحويلية السورية العريقة، التي بدورها تموّن الأنشطة الزراعية وتمدها بمستلزماتها، وكلا قطاعي الزراعة والصناعة يحتاج إلى قطاعات التجارة والمال والشحن والنقل والخدمات، يُشغلانها ويعملان على تشغيلها ويُشجعان على تطورها، فيقوى كل قطاع بازدياد قوة الآخر، ومنتجات وخدمات جميع هذه القطاعات والأنشطة تُشكل فيما بينها قاعدة وبنية تحتية وخدماتية لقطاعٍ سياحي نشطٍ ومتطور، يستفيد منها، ويُفيدها، ينهل منها متطلباته، ويُغدق عليها بالدخل والقطع الأجنبي، وكل ذلك، وكما ورد أعلاه من ألفه إلى يائه يقوي الليرة السورية ويعمل على استقرارها، الذي ينعكس حتماً، وإيجاباً على مختلف جوانب الاقتصاد، وعلى مستوى المعيشة.. حسب دكتور فضلية.
تنويع الاقتصاد
نعم، إن معالجة مشكلة الليرة هي بتقوية الاقتصاد وتنويعه وتطويره واستدامة طاقاته الأمر الذي يعني الزيادة في إنتاج وعرض السلع والخدمات، أي توسيع السوق الداخلية وزيادة في القدرة على التصدير، وتقليل ما يجب استيراده، وتعني بالوقت نفسه توفير فرص عمل جديدة، أي خلق دخول حقيقية لشريحة إضافية من المشتغلين، فيتحسن مستوى معيشة هذه الشريحة، وبالوقت ذاته ينشط الطلب الفعال في السوق الداخلية (بنسبة التشغيل نفسها) على الأنشطة المادية والخدمية الأخرى. وبالوقت ذاته فإن الزيادة في إنتاج وعرض السلع والخدمات تعني الزيادة في عدد وطاقة المنتجين و/أو العارضين، وتعني بالتالي تحريض المنافسة، ما يؤدي إلى استقرار الأسعار أو انخفاضها في معظم القطاعات الاقتصادية، فينخفض (و/أو يستقر على الأقل) معدل التضخم في هذه وتلك من القطاعات، وكل ذلك يعني الثبات و/أو زيادة مكوّن القيمة المضافة في قيمة الإنتاج الكلي، أي زيادة الناتج المحلي الإجمالي، المؤشر الحقيقي للنمو ولنوعية الحياة. أما الوجه الآخر لزيادة الإنتاج من جهة وبتصنيع بدائل بعض المستوردات من جهة أخرى، فهو تقليل الطلب على القطع الأجنبي لغاية الاستيراد، وكل ذلك يؤدي (كتحصيل حاصل) إلى زيادة المخزون والاحتياطي منه، وتتحسن بالتالي قيمة العملة الوطنية مقابل جميع الأنواع من هذا القطع.
صناعة القوة
بناء عليه، وعدا صحة وأهمية وأولوية مبدأ (قوة الاقتصاد) هو الذي يُحدد (كتحصيل حاصل)، (قوة الليرة) و(قوتها الشرائية)، لا بد أن نشير عموماً إلى أن (قيمة الليرة) و(أي عملة محلية أخرى)، واستقرار سعرها تجاه العملات الأخرى يتأثر عموماً بعدة عوامل، منها:
قانون العرض والطلب على سوق الليرة مقابل القطع و/أو سوق القطع مقابل الليرة، كما الأمر لأي بضاعة أو سلعة عادية أخرى، مع الاختلاف بأن الليرة و/أو الدولار (أو أي نوع من القطع الأجنبي) هما سلعتان خاصتان بالمقارنة مع السلع العادية، لكونهما وسائل تداول ومخزناً للقيمة.
الوضع المالي والاقتصادي والسياحي للدولة، ومستوى وقوة واستقرار علاقاتها التجارية مع الخارج، وحجم المساعدات والدعم الخارجي، ومخزون الموارد الطبيعية والأولية وثرواتها الباطنية، ورجاحة ميزانها التجاري وميزان المدفوعات، وحجم واستقرار نشاط الاستيراد والتصدير، حيث وكلما كان الوضع المالي والقطاع المصرفي جيداً ومتوازناً أو غير ذلك، وفيما إذا كان العجز في الموازنة العامة للدولة موجباً أو صفراً أو ضئيلاً أو كبيراً، فكل هذه العوامل (وغيرها) تؤثر سلباً أو إيجاباً في مستوى سعر العملة الوطنية، وبالتالي على سعر القطع الأجنبي لديها، أضف إلى ذلك حجم أنشطة التهريب ونسبة مساهمة اقتصاد الظل في الإنتاج و/أو في الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدولة.
الوضع العسكري والسياسي والأمني في الدولة (وفي حالات معينة بحسب الوضع الاقتصادي الإقليمي والعالمي)، حيث إن عدم الاستقرار في مثل هذه الأوضاع ينعكس سلباً على عملية الإنتاج، وعلى الوضع الاقتصادي عموماً، بما في ذلك (وقبل كل شيء) على قيمة العملة الوطنية، وبالتالي على سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية الأخرى، و/أو (وهذا أيضاً احتمال وارد وواقعي وتعبير صحيح)، ينتج عنه ارتفاع في أسعار القطع الأجنبي مقابل العملة الوطنية، ولاسيما في الدول التي تكون عملتها غير مقبولة للإبدال والتصريف خارج حدودها.
الحصار والعقوبات الاقتصادية الخارجية، المباشرة وغير المباشرة، وحتى لو كانت غير شرعية، وخصوصاً عندما تفرضها دول إمبريالية متسلطة كبرى، يذعن لها ومن خلفها مجموعة من الدول التابعة، كما الأمر في سورية، منذ عدة عقود.
وبشكل عام، وعند الحديث عن قيمة الليرة السورية، وتذبذب قيمتها وقوتها الشرائية وسعر صرفها مقابل القطع الأجنبي، لا بد من التنويه وإعادة التأكيد أن كل ذلك، يؤثر عموماً بشكل مباشر إما في وضع وحالة التضخم أو في وضع وحالة الكساد، إلا أن الواقع الحالي، ومنذ عدة سنوات في سورية (كما الأمر في الكثير من دول العالم) يُشير إلى وجود كلتا الحالتين مترافقتين تؤثران سلباً في الاقتصاد وتعملان (نسبياً) في إضعافه وتقلصه وإخضاع سيرورته إلى حالة معقدة ومركبة تسمى، كما يعرف الجميع بحالة (الركود التضخمي)، التي يمكن أن تتعمق وتتعقد أكثر فيما إذا طال أمد مفاعيلها السلبية وتتحول إلى حالة (الكساد التضخمي)، فتصعب وتتعقد أكثر منظومة التشريعات الكفيلة بالمعالجة، حيث تتجذر حالة الركود أكثر، في حال تم اتخاذ ما يلزم أو بعض ما هو لازم لمعالجة التضخم، وتتعمق أكثر حالة التضخم في حال تم اتخاذ ما يلزم أو بعض ما هو لازم لمعالجة الركود.
لذا، وبرأينا فإن التركيز على تقوية الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي تقوية قيمة الليرة السورية والقوة الشرائية للشرائح الكبرى من المواطنين هو السبيل الأكثر فاعلية للتخفيف التدريجي من حالة (الركود التضخمي)، مع ضرورة التركيز على السياسة النقدية المالية المتوازنة كأولوية قصوى، تكون منسجمة متكاملة مع السياسات الاقتصادية الأخرى، ومع الإجراءات التي من شأنها خلق فرص عمل جديدة (أي دخل جديد)، وزيادة الإنتاج الحقيقي السلعي وزيادة إنتاجية العمل، واستغلال الطاقات المعطلة (أي تقوية قيمة الليرة)، حيث إن سمات مثل هذه الحالة المعقدة، حدوث كساد نتيجة قلة الإنتاج، وبالتالي انخفاض العرض متلازمة بالوقت ذاته بضعف الطلب بنسبة أكبر من نسبة انخفاض العرض، الأمر الذي يتسبب بزيادة تكاليف الإنتاج وارتفاع الأسعار، (أي ركود بسبب ضعف حركة الطلب) و(تضخم بسبب ارتفاع الأسعار)، مع التشديد في إطار كل ذلك على (تقوية الليرة السورية)، بالتحرك بجدية لخلق وتحريك الأنشطة الإنتاجية التصديرية المستدامة وبديلة المستوردات.