شؤون محلية

التعليم في سورية… الواقع والتحديات «2» .. الجامعات الخاصة جاءت كمشروعات تجاريّة ربحيّة وليس كحلول لتحديات قائمة..! …قلّما هناك توازن بين التعليم النظري والتعليم العملي

| دبلوماسي سوري متقاعد – دكتوراه في كلية الاقتصاد د.أيمن أحمد علوش

تناولتُ في الجزء الأول واقع التعليم في سورية وتحدّياته خلال المرحلة الثانويّة، وأبرزتُ أهمية إعداد دراسات تحليليّة لواقع التعليم وما يعترضه من تحدّيات ووضع خطط ممنهجة، مستفيدين من تجارب وخبرات دولٍ أخرى تسبقنا في هذا المجال، للنهوض به بما يجعله مرحلة تأسيس حقيقيّة للمرحلة الجامعيّة، وفي هذا الجزء سأتطرّق إلى واقع التعليم في المرحلة الجامعيّة وأُبرِزُ أهمّ تحدّياته، مع اقتراح ما أعتقده ضرورياً لاستعادة موقعه في دولة طالما كانت رائدة به، كما سأفرد الجزء الثالث القادم لتحدّيات التعليم في مرحلة الدراسات العليا (دبلوم- ماجستير- دكتوراه).

تحدّيات العمليّة التعليميّة في المرحلة الجامعيّة (الجزء الثاني)

يعاني نظام التعليم الجامعيّ من عدّة أمراض مستعصية، ويأتي في مقدّمتها ما حملته له المرحلة الثانوية من خلال عمليّة القبول بمجموع الدرجات، فأغلبية الطلبة يبدؤون هذه المرحلة بأقصى فرع تصله درجاتهم، فيغيب الطموح والرغبة ويطفو التقليد والثقافة المجتمعيّة التي تنظر، في معظم الأحيان، إلى مستوى الطالب على أساس مستوى الفرع الذي أهّله له مجموع درجاته في الشهادة الثانويّة.

أهمية الفروع

والتحدّي الآخر هو طريقة ترتيب أهمية الفروع الجامعيّة، حيث تتطلّب فروع معيّنة درجات أقل من فروع أخرى على الرغم من أهمية هذه الفروع، فعلى سبيل المثال فإن فروع العلوم الطبيعيّة والرياضيّات والفيزياء والكيمياء تعتبر من أهمّ الفروع في مجال البحث العلمي في لغة العلم والتطوّر، غير أن متطلبات دراستها في نظامنا التعليميّ أقل بكثير من فروع أخرى، وهذا يجعل مناهج هذه الفروع في جامعاتنا محدودة لأن خريجيها سينتهون إلى معلمين تقليديين لمناهج مؤطرة بدل أن يتابع قسم منهم كباحثين، والأمر نفسه ينطبق على فروع أخرى تتطلب دراستها مجموعاً أقل في الثانوية العامة على الرغم من أهميتها.
ما زالت عقدة التعليم الجامعي مسيطرة على عقول كثيرين، وخاصّة العائلات الفقيرة التي تعتبر أن العلم هو سلاحها الوحيد في هذه الحياة، وتزداد هذه القناعة رسوخاً مع عدم وجود مدارس أو معاهد مهنيّة حقيقيّة تؤهل خريجين حقيقييّن لسوق العمل في جميع مجالات الحياة، فمعظم المهنيين في سوق العمل اليوم هم ممن أجبرهم الفقر أو عدم حبهم أو مقدرتهم على التعلّم للخروج من المدارس في سن مبكرة وتعلّم المهنة بشكلها التقليدي، لا بدراسة تمكّنهم من جديد تقنيّاتها، وهذا من شأنه ليس فقط إعداد المهني المتميّز المسلّح بالعلم، بل أيضاً تخفيض عدد طلاب الجامعات وهو ما سيعود بالفائدة عل مستوى التعليم.

حالة نظرية

يغلب على العمليّة التعليميّة في المرحلة الجامعيّة الحالة النظريّة، وقلّما نراها توازن بين التعليم النظري والتعليم العملي، سواء في المخابر لطلاب الاختصاصات العلميّة أو الحقل لطلاب الهندسة الزراعيّة أو المصانع لطلاب الاختصاصات الهندسيّة والمهنيّة وغيرها من الاختصاصات الأخرى، وقد تفاقم تأثير هذا التحدّي بعد الحرب على سورية وما رافقها من نقص في ميزانيّة الجامعات.
كما يغيب عن هذه المرحلة المنهجيّة العلميّة التي تعتبر أساس أي بحث يقوم به الطلاب في المرحلة الجامعيّة، وتبرز أهميته بشكل أكبر خلال مرحلة الدراسات العليا، ومعظم طلاب الدراسات العليا، وأنا منهم، وجدنا أنفسنا أميّين تماماً في أسس المنهجيّة عند متابعة تحصيلنا العالي، حيث وجب البدء بدراسته لأنه حجر الأساس في أي بحث.

انتشار الجامعات الخاصة

ومن التحدّيات الأخرى لعملية التعليم الجامعيّة انتشار الجامعات الخاصّة، فقد جاء تأسيس هذه الجامعات لهدف ربحي أكثر مما كان لضرورات حلّ مشاكل تعاني منها الجامعات الحكوميّة أو المجتمع، فقد استقطبت هذه الجامعات الطلاب المقتدرين ماديّاً، أو المقلّدين للمقتدرين ماديّاً، ومكّنها من ذلك ما حصلت عليه من امتيازات عن الجامعات الحكوميّة، فأصبح فارق العلامات بين طالب جامعة حكوميّة وطالب جامعة خاصة للاختصاص نفسه يعوّضه رسم التسجيل في هذه الجامعات، وأصبحت هذه الجامعات برسوم التسجيل العالية قادرة على استقطاب الأساتذة المتميّزين في الجامعات الحكوميّة، دون أن يعني ذلك إطلاقاً تقدم العمليّة التعليميّة في الجامعات الخاصّة عنها في الجامعات الحكوميَة، من جهة، والمسؤولين اليوم الذين يشغلون مناصب فيها أو الذين مرّوا عليها، من جهة ثانية، يظهر أن بعض مسؤولي تلك المرحلة قد احتفظوا لأنفسهم بمزايا ما بعد المناصب الرسمية في تلك الجامعات، والتعميم غالباً ما يؤدي إلى استنتاجات خاطئة.
إنّ ما يبنى على اعتبارات خاصة سيستمرّ عليها، وهذا ما جعل الدراسة في بعض الجامعات الخاصّة ميسّراً أكثر منه بكثير في الجامعات الحكوميّة، على الرغم من تميّز معظم طلاب الجامعات الحكوميّة على نظرائهم في الجامعات الخاصة، على الأقل في مجموع درجاتهم في الشهادة الثانويّة، وأي استقصاء بسيط سيظهر أن أغلبية طلاب الجامعات الخاصّة كانوا أسرع إلى التخرج، وبمعدّلات جامعية أعلى من نظرائهم في الجامعات الحكوميّة.
وقد دفع التنافس بين بعض الجامعات الخاصة لاستقطاب الطلاب بأقساطهم المرتفعة إلى تقديم الإغراءات بضمان تخرج الطالب بسرعة وتميز الطالب بمعدّل تخرجه، وأعتقد أن معظم المطّلعين يدركون هذه الحقيقة ويستطيعون أن يشيروا إلى حالات موثقة في محيطهم.

إجراء ترقيعي

من التحدّيات التي تواجهها العمليّة التعليميّة أيضاً نظام التعليم الموازي، وإن كانت مخاطر هذا النظام أقل بكثير من مخاطر الجامعات الخاصّة أو التعليم المفتوح، فقد اعتُمدَ نظام التعليم الموازي، كما يشاع، كـ«إجراء ترقيعي» لتحقيق بعض الدخل الإضافي للكادر التعليمي من جهة، وللتخفيف من ظلم الحدود القاتلة لمجموع الدرجات التي يرسمها نظام القبول الجامعي، من جهة أخرى.
ومن التحدّيات الكبيرة أيضاً للعمليّة التعليميّة نظام التعليم المفتوح، ويشرح لي بعض الأساتذة المطّلعين على هذه العمليّة أن فكرته جاءت لتأمين بعض العمالة التخصصيّة لسوق العمل، كأن تكون موظفة استقبال في شركة ما لديها القدرة على التخاطب بلغة أجنبية أو ترجمة إيميل يردها، ولكن الأمر دخل مرحلة الخطورة عندما جرت المساواة بينهم وبين خريجي الاختصاصات ذاتها من الجامعات في التعيين في وظائف الدولة.
يوضح المعنيّون أن طلاب التعليم المفتوح يدرسون منهاجاً مبسّطاً وليوم واحد في الأسبوع أو يومين في أحسن الأحوال، فكيف يمكن مساواتهم مع من يدرس منهاجاً متكاملاً ولمعظم أيام الأسبوع، ويزيدون بأن الفساد هو الذي أوصل إلى هذه الحالة وأن سمعة التعليم في سورية هي من تسدّد الثمن.
وإذا كانت الجهات المعنيّة حريصة على تحسين دخل أعضاء الهيئة التدريسية، فإن العمل على ذلك من خلال توسيع عملية التعليم الموازي والتعليم المفتوح أو اقتراح صيغ أخرى مثل التعليم المسائي وغيرها لما لذلك من مردود ماديّ، فأعتقد أن ذلك يجب أن يتمّ في ميزان المصلحة الوطنيّة وسمعة التعليم بما لا يمسّ بها، وليس من خلال تقديم مغريات وتسهيلات والتغاضي عن أساسيات التعليم، وأعتقد أن أفضل الطرق لتحقيق هذه الغاية هو من خلال ربط التعليم بالصناعة والتجارة والزراعة والتحدّيات الحياتيّة، فيصبحوا مموّلين له.

تسرب الأساتذة

كما تعتبر ظاهرة تسرّب الأساتذة الجامعيّين من تحدّيات العمليّة التعليميّة، وهي ظاهرة لم تبدأ مع الحرب على سورية، بل سبقتها بطرق مقوننة «كالاستيداع» أو «الإعارة» للسفر والعمل في جامعات خارج القطر لعدّة سنوات، حيث وجد الأستاذ الجامعيّ في ذلك فرصة لتحسين دخله الماديّ الذي لم تستطع السياسات التعليميّة في القطر أن تحقّقه له، وهذا الإجراء ربّما مكّن عدداً من الاساتذة من تحسين وضعهم الماديّ أو امتلاك بيوت خاصّة أو سيارة، وهو من أبسط حقوق الأستاذ الجامعي، ولكنّه في الوقت نفسه كان له تأثير سلبيّ على مستوى التعليم في سورية، وخاصة أنّ معظم من حصل على عقود العمل في الخارج كان من المتميّزين من الأساتذة وخريجي جامعات مرموقة، وهذا لا ينفي ثبات كثير من الأساتذة الجامعيّين المميّزين في مواقع عملهم إيماناً منهم بالدور المقدّس للعمليّة التعليميّة، وكثير منهم اضطرّوا لتدريس مواد خارج اختصاصاتهم، وما يعنيه ذلك من ثقل عليهم، لسدّ الفراغ الذي أحدثه تسرب زملائهم.
الجامعات السورية الحكوميّة اليوم في وضع لا تحسد عليه… نظام قبول جامعي غير صحّي… نقص في الكادر التعليمي… تحدّيات معيشيّة تحول أحياناً دون وصول الطلّاب إلى جامعاتهم… تراجع في الخدمات… ضعف في المراجع وتوقف اشتراكات الدوريات والبحوث… ضعف المخابر وتراجع أهمّيتها… نظام امتحانات لا يعكس تمكّن الطالب من المقرر… انتشار الفساد، وأعتقد وأنه بالرغم من كل هذه التحديات فإنها تبقى عمود التعليم في سورية مقارنة مع التعليم في الجامعات الخاصة والجامعات الافتراضيّة والتعليم المفتوح لأنّها أنشئت لتحقيق مبدأ العدالة في التعليم وهي ما زالت تحقّقه للغني والفقير، ولأن هناك أساتذة جامعيّين ما زالوا يؤمنون بقيمة العلم ويعملون جاهدين، رغم كلّ المعوّقات والتحدّيات والمغريات، على البقاء مخلصين لمهامّهم السامية.

لا شكّ بأن الحرب على سورية قد عمّقت من التحدّيات التي نواجهها في كل مجالات الحياة، ولكن لا بدّ من الاعتراف بأن كثير من هذه التحدّيات في أساسها صناعة محليّة نتيجة عدم قدرة بعض القائمين والمعنيين بالعمليّة التعليمية على التفكير خارج الصندوق أو صناعة بدايات جديدة، وخاصّة مع تفشي الفساد وغياب الأجهزة الرقابيّة وآليات المحاسبة، وربما أصبح شعار كثيرين أن من لا يعمل يبقى في مأمن من ارتكاب الخطأ.
إن معظم التحدّيات التي ذكرتها لا تحتاج إلى أكثر من توصيفها بشكل دقيق ومسؤول ووطني، وأن يتمّ تحديد الأدوات والخطط المناسبة لتجاوزها، وهي بالتأكيد ليست عمليّة سريعة، بل بطيئة وتراكميّة ويجب أن تتحقّق على عدّة مراحل لتكون ثابتة وتأتي بالغايات المرجوّة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى