لماذا الترويج لصناعة الوهم؟ … السيارات ومفاتيح الكهرباء صناعة كبيرة علينا!
| أيمن أحمد علوش - دكتور في السياسة الدولية
عندما تقرأ عن إنشاء معامل للسيارات أو غيرها من الصناعات المتقدّمة في سورية تعتقد أنّنا بتنا دولة صناعيّة متطوّرة، وأنا أعتقد أن إحدى مشاكلنا الرئيسيّة هي أنّنا نكذب حتى على أنفسنا ونصدّق الكذبة، فدورنا في كلّ هذه الصناعات لم يكن يوماً أكثر من عمليّة ديكوريّة ليس لها علاقة بمكوّنات أي من هذه الصناعات.
أعتقد أيضاً أنه لا دور لذلك في التوفير من احتياجاتنا للقطع الأجنبيّ لأنّنا نستورد كل المواد الأولية لهذه الصناعات من ألفها إلى يائها بالقطع الأجنبيّ، بما في ذلك الرشاوى، ناهيك عن أن تكلفة التصنيع في سورية باتت أغلى من معظم دول العالم بسبب عدم توافر الكهرباء والوقود وغلاء تكلفة توفيرهما، وغياب التنافسيّة والقوانين والتشريعات التي تؤمّن البيئة المناسبة والعادلة للمستثمرين، وهو الأمر الذي يسهم إيجاباً في تقديم السلعة الأفضل والأرخص.
إنّ معظم المصانع التي أُنشأت في سورية خلال العقود الماضيّة كانت احتكارية، ونتجت عن مصاهرة رأس المال لبعض النافذين الفاسدين، فجاءت القوانين مفصّلة على قياساتهم، فاحتكروا الأسواق بصناعات لا تتّصف نهائيّاً بالجودة، سواء كما ذكرنا لكونها احتكاريّة، أو لميل التجار إلى تقديم منتجات سيئة لتحقيق أعلى المكاسب، وهذا ما جعل منتجاتنا الأقل جودة والأعلى ثمناً منها في الأسواق المجاورة كافّة.
وعندما أبدأ بذكر السيارات فإن الأمر لا يقتصر عليها، بل على كثير من الصناعات الأخرى التي لم نُصنّع منها في مصانعنا أكثر من تثبيت قطعتين مستوردتين الواحدة على الأخرى، أو شدّ البراغي أو وضع قطعة مستوردة كاملة في كيس وكرتونة مستوردتين أيضاً، أو في تثبيت قبضة ومراية ورفوف ومقعد، وحتى البراغي تأتي جاهزة، أي إنها في أحسن أحوالها صناعة تجميعيّة أو توضيبيّة.
أعتقد جازماً أن الدولة لو قامت باستيراد هذه المواد مباشرة من مصدرها لكانت تكلفتها مع الرسوم كافة أقلّ قيمة من تصنيعها ضمن القطر. الفرق سيكون أن الرسوم ستأتي كاملة لمصلحة خزينة الدولة بدل أن تذهب لجيوب تجار ومحتكرين، وما لذلك من دور في الفساد والإفساد لمفاصل مهمّة في الدولة، وإحباط لدى العامّة، فلماذا نكذب على أنفسنا ونصدّق الكذبة! ولماذا لا نتّجه نحو صناعات، ولو كانت بسيطة، تتوافر لدينا موادّها الأولية، أو لا نحتاج إلى استيراد أكثر من موادها الأولية الخام للتصنيع، فنتميّز وننافس بها، كالصناعات الغذائيّة والدوائية وغيرها الكثير الكثير، وكذلك منتجات زراعيّة كثيرة، فكثير من دول العالم تميّزت بمنتج واحد واستطاعت به أن تكون حاضرة بقوّة زراعيّاً أو صناعيّاً، كما تميزّت فرنسا بصناعة الجبن والنبيذ، وسويسرا بصناعة الساعات، وهولندا بالأبقار والزراعة، تماماً كما يمكننا أن نتميّز نحن بـ( النسيج والألبسة والماشية والزيتون والقمح والبرتقال والفواكه والدخان والكمون والحبوب وغيرها)، وتطوير الصناعات التي ترتبط بهذه الثروات أو صناعات يدوية ومهنيّة كثيرة.
دعونا نهتم بصناعة التعليم والسياحة الترفيهيّة، والسياحة الطبيّة والسياحة العلاجيّة وصناعة الفنّ، فلدينا الطاقات البشريّة الكبيرة التي يمكن أن تقدّم الكثير عند توفير البيئة المناسبة لها. وعندما أقول صناعة التعليم فهذا يعني أن نعزّز مكانة جامعاتنا أكاديمياً لتستقطب طلاباً في الاختصاصات كافة من دول مختلفة، وخاصة في اللغة العربيّة التي يزداد الاهتمام بها في دول كثيرة، وعلوم الدين والإسلام الشامي المعتدل وعلوم اللاهوت بما يجعل سورية قبلة للغرب المسيحي، وكذلك تطوير المشافي والمراكز الطبيّة وهذا سيعزز السياحة الطبيّة الرخيصة، والاهتمام ببيئاتنا الطبيعية وهذا سيعزز السياحة العلاجيّة، وعندما نعزز صناعة الفن سيتحوّل بلدنا إلى مستقطب لها بدل أن ينزف الوطن فنّانيه وأدباءه ومبدعيه إلى دول أخرى، وغير ذلك من صناعات أخرى يمكن الاستثمار بها، وما أكثرها، وهذا من شأنه أن يوقف نزيف ثرواتنا البشرية من أكاديميين وأدباء وأطباء ومهندسين وصناعيين وفنّانين وفنّيين و…إلخ.
زارني خلال فترة عملي في سفارة الجمهوريّة العربيّة السوريّة في عمّان/ الأردن مدير منظّمة الهجرة الدوليّة، وخلال اللقاء ذكر لي أن إحصاءاتهم تُظهر أن اللاجئ السوري هو أفضل لاجئ دخل إلى أوروبا، سواءً لناحية التعلّم والتأهيل أو المهارات التي يكتسبها أو سرعة اكتسابه لها أو إتقانه للغة البلد أو اندماجه في المجتمعات الجديدة بدور فاعل، وهو الانطباع ذاته الذي نسمعه عن المواطن السوريّ في كلّ مكان وصل إليه، سواءً في القرنين الأخيرين أو العقود الماضيّة أو خلال الحرب، فإذا كانت لدينا كلّ هذه الطاقات الكبيرة والمهمّة وهذه الثروات البشريّة الهائلة فلماذا لا نعمل على الحدّ من نزيفها بخلق البيئات المناسبة لها؟!
أعتقد أننا بحاجة ماسّة لتوطين طاقاتنا البشريّة والاستثمار بها من خلال سياسات متكاملة، وهذا من شأنه أن يطوّر البلد في كل المجالات من خلال الاستثمار في مكامن قوّته، وإذا كان من الأهمية إقامة مصانع فهذا بجب أن يتمّ عن طريق توطين هذه الصناعات بمشاركة حقيقية في عمليّة التصنيع، ما يوفّر من نزيف القطع الأجنبي ويوفّر فرص عمل حقيقيّة، كما في تركيا ومصر ودول أخرى عربيّة وأجنبية.
صناعة السيارات والبرادات وحتى مفاتيح الكهرباء، كبيرة علينا، ولكي نكون صادقين وشفّافين في سياساتنا الاقتصادية يحب أن نفتح باب التنافسيّة في التصنيع والاستيراد بما يحفظ دخل الدولة من هذه العمليّة ويخفض من سعرها في الأسواق، لا دخل من باتت لهم قناعة بأنّهم «الدولة والقانون» فصاهروا الفاسدين ونهبوا الوطن وخيراته.
أيمن أحمد علوش – دكتور في السياسة الدولية- دبلوماسي سوري متقاعد