العولمة المتوحشة والإرهاب الاقتصادي الدولي «2»
| د. عابد فضلية - كلية الاقتصاد في جامعة دمشق
يتجسد الإرهاب الاقتصادي الدولي في وجه من وجوهه الأخرى بالممارسات التي من شأنها عولمة الأزمات الاقتصادية وتصديرها إلى خارج الحدود الوطنية والإقليمية، وهذا التدويل ما هو بالمحصلة إلا ثمن تدفعه شعوب العالم الأخرى التي يصبح لزاماً عليها أن تتعامل مع تتبعات جموح السلوك الاقتصادي الرأسمالي، وبالتالي ما هو من جهة أخرى إلا ترهيب لدول العالم الأخرى لضمان عدم الاعتراض على هذا الجموح الذي تقوده الطغمة التي تتحكم بتدفقات رأس المال، وتهيمن على تداولات ومؤشرات البورصات العالمية، بما في ذلك تصنيع قرارات الحروب وافتعال الأزمات الاقتصادية وغير الاقتصادية في دول العالم البعيد، وبالتالي فإن القوى الرأسمالية ليست بريئة من التسبب في الجموح لمصلحتها، ولا من افتعالها في عقر دار الآخرين.
فالرأسمالية عندما تحاول تجديد نفسها وتلميع الطبيعة الاستغلالية والاستبدادية لنظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تدوس، لتحقيق ذلك، على أي عائق يحول دون تحقيق هذا الهدف، ولو كان هذا العائق أو وراءه دول مستقلة ونظام مقاوم وشعوب حية، وحتى لو كانت الوسيلة إلى ذلك إرهاب وقتل وتدمير وتشريد.
وعن تصدير الأزمة الأخيرة منها عام (2008)، لا بد من القول إن أزمة قروض الرهن العقاري ومشكلة التوريق التي انفلتت في الأسواق المالية الأميركية، التي اعتقد الكثير أنها هي السبب وراءها، ما هي برأينا إلا المحصلة والقشور التي لفت جوهر الأزمة الكامنة في كنه النظام الرأسمالي، وهي الأزمة التي بررت، ودفعت بالوقت ذاته الولايات المتحدة والمعسكر الغربي من ورائها إلى التدخل المعلن والسري في شؤون الدول الأخرى وفرض العقوبات وافتعال الحروب والأزمات، بما ذلك الإرهاب العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي، مع الاستعانة في إطار ذلك ببيادق وكيانات ودول أطراف تابعة – صديقة، ومجموعات وتنظيمات متطرفة إرهابية مرتزقة رديفة، لذلك، وانطلاقاً من الأسباب والجذور، لا نتوقع أن يهدأ كل ذلك ما لم تبدأ آثار الأزمة المالية الاقتصادية بالانحسار، ولن تنحسر قريباً.
نستقرئ سيرورة ظروف الأزمة المالية الاقتصادية الأخيرة (2008)، التي ما زال الاقتصاد العالمي حتى اليوم يعاني من ذيولها التي تتجسد عموماً بانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وبالزيادة الكبيرة في معدلات التضخم والفقر والبطالة، لنجد أن أسباب معظم الحروب العالمية والإقليمية والمحلية تعود في جذورها لأسباب تتعلق بالأزمات الاقتصادية والمالية الدورية وغير الدورية للنظام الرأسمالي الجامح، وهي تعود في العصر الحديث إلى عام (1970) عندما كسرت الولايات المتحدة الأميركية قاعدة بريتون وودز 1944، وقامت بفك الارتباط بين الدولار الأميركي والذهب، والتي بذلك تسببت بتكرار حدوث الاختلالات المالية والاقتصادية في الاقتصاد الرأسمالي، وتعمقت العوامل التي من شأنها أن تفاقم هذه الاختلالات بين قطاع المال والقطاعات الإنتاجية السلعية في عام (1999) عندما عاد وسمح الكونغرس الأميركي للبنوك التجارية بالعمل والنشاط الاستثماري الذي تكتنفه المخاطرة بعد أن كانت ممارسة هذا النشاط مقتصرة على البنوك الاستثمارية المختصة منذ عقد الثلاثينيات عقب انفلات أزمة الكساد العالمي الكبير عام (1929)، فاختلطت منذئذ الأوراق وعمت الفوضى في النشاط الاقتصادي.
وتتالت الأزمات، وتكرر بالتالي البحث عن الحلول خارج حدود العالم الرأسمالي. ففي كتابه الذي نشر عام 1986، كان الاقتصادي الأميركي والأستاذ الجامعي (رافي باترا) قد حذر العالم من حتمية وقوع كارثة اقتصادية ستحدث في التسعينيات من القرن الماضي، وأمل (باترا) آنذاك أن تؤخذ تحذيراته تلك على محمل الجد، داعياً الأميركيين وبقية العالم الرأسمالي للبدء باتخاذ الإجراءات اللازمة «التي تضمن استمرار تطورهم الاقتصادي». في سياق ذلك، وقبل هذا التحذير وبعده، كانت دول العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية قد بدأت بإجراءات تصدير عوامل هذه الكارثة الاقتصادية المتوقعة إلى خارج الحدود، لذلك كان العالم يشهد حينها بالتوازي مع بذور الأزمة حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران (1980 – 1988)، لتليها حربا احتلال وتحرير (الكويت) (1990-1991)، فالأزمة المالية في دول جنوب شرق آسيا عام (1997)، ومن ثم أحداث أيلول (2001)، وتبعاتها المتوقعة والمرسومة والمخططة بدقة، التي تجسدت باحتلال (العراق) وبإعلان ما سمي حملة الحرب العالمية على الإرهاب، التي انفلتت في (أفغانستان) ومرت في أصقاع أخرى من العالم، وما زالت تقتحم سيادة الدول المستقلة حتى اليوم.
ففي الفترة اللاحقة بعد ذلك، وفي عام (2007) بالتحديد كان العجز في الموازنة الأميركية قد تفاقم ليصل إلى (250) مليار $، منها نفقات الأمن والدفاع، حيث كانت الالتزامات الأميركية تجاه الخارج تفوق المطاليب بما يعادل (17%) من حجم الناتج القومي الأميركي، وهذا ما راح يتفاعل شيئاً فشيئاً في الاقتصاد الأميركي، لينعكس انهياراً في المصارف والبورصات الأميركية وشركائهما الأوروبيين، فانفلتت الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأميركية عام (2008)، لتنتقل على الفور إلى خارج حدودها، ولتعاني منها جميع دول العالم وما زالت.