التعافي المبكّر للاقتصاد «1»
| د. علي محمود محمد
يعتبر الاقتصاد أكبر متضرري الحروب جرّاء الأضرار الجسيمة التي تصيبه من شرارة الحرب الأولى وخلالها، ويستمر هذا الضرر سنوات طويلة بعد انتهاء الحرب نظراً لتضرر مفاصله الرئيسة وتراجعها، وإحداث الآثار المباشرة وغير المباشرة في هيكل المجتمع والدولة كله، والتي تجعل الأمر أشبه بدوّامة مستمرة، ولذلك يعتبر السبب الأكثر وضوحاً لأهمية التعافي الاقتصادي المبكر بعد الحروب هو عكس بعض الدمار الذي حلّ بالاقتصاد وبالبشر والحجر لتوليد الدخل ولتحسين الخدمات الاجتماعية للسكان الذين طالت معاناتهم من الحرب، والعمل على تحقيق ذلك خلال المدى القصير والمتوسط.
وفي هذا الإطار، تعددت المفاهيم الاقتصادية التي تناولت مصطلح التعافي الاقتصادي المبكر، حيث يعتبر بأنه العودة إلى مستويات الإنتاج والعمالة ما قبل الحرب، فيما يتعدى هذا المصطلح في بعض المفاهيم إلى العودة لأعلى مستوى من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي تمّ بلوغه خلال السنوات الخمس السابقة للحرب، إلا أنه وفي بعض الحالات قد تكون معدلات النمو في الفترة التي سبقت الحرب منخفضة للغاية، أو حتى سلبية، ونظراً لذلك، ليس من المستحسن أن تعود الدولة إلى مسار نمو الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب، حيث يرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن التعافي هو عملية العودة من عدم الاستقرار والصراع إلى مسار التنمية «الطبيعي».
ومهما تعددت هذه المفاهيم فإنها تجمع على أن الانتعاش الاقتصادي يتطلب إرساء الأمن العسكري، وإعادة تأكيد سيادة القانون، ووضع إطار اقتصادي كُلي مُتماسك من خلال تنفيذ سياسة اقتصادية متكاملة (نقدية، مالية، تجارية، استثمارية)، ونظام فعّال للرّقابة والمساءلة، وما إلى ذلك من خطوات إعادة بناء ما تهدّم ولاسيما أنّ أكثر ما يعانيه أي بلد في مرحلة ما بعد الحرب هو عدم امتلاك القدرة السريعة على إعادة بناء الأسس لحشد الإيرادات المحلية وإصلاح مصفوفة رأس المال الاجتماعي والبشري المتضررة.
وبالتالي يمكن القول إن التعافي المبكر للاقتصاد هو مقدمة طريق الانتعاش المستدام، حيث لا يمكن أن يكون الانتعاش الاقتصادي الناجح مجرّد عودة إلى مستويات الدخل ومعدلات النمو قبل الحرب.
بدلاً من ذلك، يجب تحقيق نمو بمعدلات أعلى من المعدلات التاريخية، ويجب أن يكون مصحوباً بخلق فرص عمل كبيرة واتخاذ إجراءات للحد من التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، والتي قد تواجه بعض المصاعب من خلال هذا العمل الممنهج، ولكن في نهاية المطاف يتعين على البلدان أن تولد مواردها الخاصة لتلبية الجزء الأكبر من احتياجات سكانها، وهذا بالدرجة الأولى في المدى القصير.
وعلى الرغم من تشابه ظروف معظم البلدان الخارجة من الحروب، إلا أنها تختلف في كثير من النواحي المهمة، وهذا يحتّم على راسمي السياسة الاقتصادية وضع سياسات تتلاءم مع كل بلد لتوجيه التعافي بشكل دقيق منظم هادف، حيث يمكن التمييز بين البلدان حسب مستوى دخل الفرد فيها وإن كانت معظم البلدان الخارجة من الصراع تتسم دخولها بالمنخفضة، وما يرافق ذلك من مشاكل ضعف البنية التحتية والموارد البشرية، والاعتماد الشديد على المساعدات الخارجية، والمديونية المرتفعة، إضافة إلى الصعوبة التي قد تجدها هذه الدول في جذب رأس المال الخاص في الخارج.
كما تتشابه هذه الدول بوجود تفاوتات أفقية حادة بين الطبقات الاجتماعية، التي يجب مراعاتها عند وضع السياسات الاقتصادية، فعلاوةً على أهداف التنمية الاقتصادية العادية المتمثلة في النمو والحد من الفقر، يجب إدخال سياسات للحد من هذه الفوارق الاجتماعية.
أما في الاختلافات بين هذه الدول، فقد تختلف البلدان الخارجة من الحروب بمواردها الطبيعية، فبعض البلدان غنية بالموارد الطبيعية مقارنةً بتلك التي تفتقر إلى هذه الموارد، وفي هذه الحالة، فإن الدول الغنية بالموارد يمكنها استخدام جزء من هذه الموارد في تمويل جزء كبير من التعافي الذاتي للبلد، بحيث يكون أقل اعتماداً على المجتمع الدولي، ويكون من الأسهل عليها جذب الاستثمار الأجنبي، حتى لو كان ذلك فقط للمساعدة في استخراج أو استغلال هذه الموارد، إلا أن ذلك غالباً وإن لم يكن وفق أسس اقتصادية حازمة، قد يؤدي إلى زيادة مستويات الفساد والبحث عن الريع وبالتالي تزايد مخاطر تكرار الحرب.
ومن الاختلافات بين الدول أيضاً هو حجم الدمار الاقتصادي، حيث تختلف الدول من حيث حجم الدمار الاقتصادي الذي حدث في أثناء الحرب، وخسارة رأس المال البشري والمالي، وتقويض المؤسسات، كما يختلفون من حيث الظروف الدولية التي يواجهونها، سواء من حيث الالتزام الدولي بتزويد الدول بعد الحروب بالموارد المادية واللوجستية للحفاظ على السلام وتعزيز الانتعاش والتنمية والتعافي، أم من حيث مدى وقوع الدول الخارجة من الحروب في حلقة الصراع الإقليمي أو العالمي.