شؤون محلية

سورية: دور الدولة الاقتصادي بين المناكفات وإعادة الهيكلة

| عامر نعيم الياس

يقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري (1871-1945) «إذا كانت الدولة قوية فإنها تسحقنا، وإذا ضعفت فإننا نفنى». هذا القول يصح على مجمل الجوانب والمستويات التي تشكل مثار جدل بين مكونات ونخب المجتمع، وبالأخص يمكن توجيهه بالاقتصاد، في ظل الجدل العالمي القائم حول هذا الأمر والمستمر منذ قرنين، فكيف يمكن إعادة صياغة هذا الدور في البلاد التي لا تزال تعيش تحت الحصار، ولا تزال في حالة حرب، وبعض أراضيها تخضع لاحتلالاتٍ مباشرة كسورية.

بدايةً، يجب العودة إلى الكلاسيكيات والمفاهيم الأساسية التي تعرّف الدولة، خاصةً في دول العالم الثالث التي يبدو فيها هذا المفهوم مشوّشاً إلى درجة الفصل الكامل بين الدولة من جهة، والشعب بعمومه، سواء طبقة عاملة أم نخبٍ اقتصادية، من جهةٍ أخرى. فالدولة بالتعريف هي «مجموعة من البشر (الشعب) يعيشون ضمن إقليم جغرافي محدّد، وتنظّم حياتهم سلطة ونظام دستوري موحد» وعليه، فإن الشعب يحضر كأساسٍ في كيان وجوهر الدولة، وليس مكوناً منفصلاً عن الدولة باعتبارها جهازاً حكومياً طاغياً يتحرك بشكلٍ مستقل عن الشعب والقوى الاقتصادية.

قضية الدور الاقتصادي للدولة، التي ظلّ الجدل بشأنها مستمراً منذ ما يزيد على القرنين من الزمن، بين مؤيدٍ مؤكد على أن للدولة دوراً في الاقتصاد لا يستطيع أحد أن يحلّ محلّه، كشرطٍ لتفادي الاختلالات وتحقيق الاستقرار والنمو وضمان التوزيع العادل للموارد والناتج المحلي والدخل، وبين معارضٍ يرى بأن السوق بآلياته قادر على تحقيق النتائج نفسها دونما حاجة للدولة، التي يجب ألا يزيد دورها على توفير الشروط المناسبة والمناخ الملائم لعمل آليات السوق على النحو المطلوب. وهنا يمكن العودة في الإطار العام لتصوير الصراع الاقتصادي واختزاله في الحديث عن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، والذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي. هذا الصراع الذي طغت فيه الاعتبارات الإيديولوجية على الاعتبارات البراغماتية بشكله العام، وكان جزءاً من توجيه الصراع والروايات والصورة التي وصلتنا من هذا الصراع على أنه معركة بين نموذجَين اقتصاديَين، خسر أحدهما المعركة، وبالتالي لا يمكن العودة إلى الوراء ويجب شطب أي فكرة تتحدّث عن دور الدولة في الاقتصاد باعتبارها فكرةً خسرت المواجهة، حيث يتم إسقاط ما جرى في القرن العشرين في عزّ المواجهة بين الشيوعية والرأسمالية المطلقة، فقد شهد القرن العشرون تغييراً كبيراً في دور الدولة في النظم الرأسمالية تحديداً، حيث أدى الخوف من انتشار الشيوعية إلى التوسّع في البرامج والسياسات الاجتماعية التي تعظّم دور الدولة وتقيّد من حرية رأس المال مثل مجانية التعليم والرعاية الصحية، وقوانين التأمينات وحماية حقوق العاملين، والضرائب التصاعدية التي تشكل نوعاً من التوازن لضبط الفروقات الاجتماعية بين الأغلبية الشعبية السائدة. فضلاً عن دور الدولة المركزي إدارياً ولجهة الملكية في مشروعات البنية التحتية الأساسية، وفي تنظيم النشاط الاقتصادي. وهو ما أنتج توافقاً واسعاً على أن يشمل دور الدولة ما يعتبر مصالح عامة ليس فيها ما يجذب الاستثمار الخاص، مثل الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، والبنية الأساسية، وإدارة الثروات العامة والموارد الطبيعية، وتنظيم النشاط الاقتصادي من خلال القوانين والقواعد والمؤسسات المعنية بأساسيات الإدارة الاقتصادية كالنقد، والخدمات المالية، والجمارك، وحماية المنافسة ومنع الاحتكار، والمواصفات والمقاييس، وجمع ونشر الإحصائيات والبيانات، وفرض الضرائب والرسوم وتحصيلها لتمويل واجبات الدولة ولتحقيق التوازن الاجتماعي.

فيما يخص سورية وفي ظل الجدل المستمر في الشكل عن العلاقة بين الحكومة والاقتصاديين، لكنه في المضمون يمسّ الدولة في أساسيات دورها، يمكن ذكر مجموعةٍ من العوامل تجعل من دور الدولة في الاقتصاد أمراً لا يمكن طرحه على بساط البحث بالطريقة التي يجري طرحها الآن:

العامل الأول: سورية دولة تخوض صراعاً مع احتلالاتٍ مباشرة على أراضيها، في الجولان، وشمال غرب البلاد، وشمال شرقها، وكل دولة في العالم عندما تكون في حالة حرب تلجأ إلى تعظيم دور الدولة الاقتصادي لتمويل الجهد الحربي، ولتحصين الاقتصاد في مواجهة الضغوط، وتأمين الحدّ الأدنى من التقديمات الاجتماعية التي لا تستطيع الدولة تمويل المجهود الحربي وتمويل مثل هذه التقديمات إلا عبر تركيز السيطرة على مرافق اقتصادية معينة.

العامل الثاني: لم تكن سورية يوماً من الدول العربية التي تملك موارد طبيعية فائضة عن الحاجة، بل كانت الدولة تاريخياً مجبرة على إدارة الموارد الطبيعية، في ظل كونها من الدول التي تملك أعلى معدل نمو سكاني طبيعي في المنطقة في مرحلة ما قبل عام 2011، وفي المرحلة التي نعيشها بعد الحرب التي شنّت على البلاد بعد عام 2011، وتمركز الاحتلال الأميركي وميليشيا قسد في روح سورية زراعياً ونفطياً، انتقلت البلاد من إدارة الموارد الطبيعية التي تحقق لها الاكتفاء الذاتي، إلى استيراد كل ما تحتاجه البلاد، وهذا أمر يحتّم أن يكون للدولة السورية دورٌ في إدارة الاقتصاد لضمان توزيع وتوجيه العائد الاقتصادي بما يخدم نمو الاقتصاد بمعدلات تستجيب لضغط النمو السكاني.

العامل الثالث: تراتبية العناوين العريضة التي تواجه بخصوصيتها سورية كدولة من العقوبات الأميركية الأوروبية الضاغطة، والحصار المفروض على البلاد، وصولاً إلى ملف إعادة الإعمار في البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، والنقاشات التي تدور والتساؤلات التي تحكم إدارة ملف من هذا النوع من حيث الشكل والمضمون والأولويات.

العامل الرابع: يتجلى بالمشترك أو السمة المميزة لاستثمارات القطاع الخاص التي تبحث عن الربح السريع في الأساس، وبالتالي حتمية دور الدولة في الاستثمار طويل المدى في المشاريع التي تحافظ على الأمان الاجتماعي على مختلف المستويات.

ما سبق يؤكد مركزية دور الدولة عبر القطاع العام في الاقتصاد، لكن النقاشات الدائرة حالياً لا تزال تدور حول شروط وإمكانية التعافي الاقتصادي على المدى القصير دون تخصيص مساحة كافية للحديث عن القضايا الهيكلية التي تمسّ أسس النموذج الاقتصادي الاجتماعي، وبالتالي النقاش حول السياسات الاقتصادية يبدو محصوراً في إدارة السياسة المالية لاحتواء العجز والسياسة النقدية لضبط سعر الصرف والسيطرة على التضخم، مع توجه القطاع الخاص لتعويم أولوية تشجيع الإعفاءات الضريبية والتأكيد على أهمية ومركزية توفير حوامل الطاقة بأسعار رخيصة، وهي مطالب محقة على جانبٍ كبير من الأهمية، لكنها لا تناقش جوهر المشكلة، حيث إنه من الواضح ترك الأمور للإدارة الحكومية التي دخلت في مناكفات بين الطاقم الحكومي المسؤول عن السياسات المالية والاقتصادية وبين الاقتصاديين أنفسهم، وهذا يجعل الجميع يدور في حلقٍ مفرغة.

السياسات قصيرة المدى والعمل على معالجة المشاكل الطارئة اقتصادياً وابتكار الحلول التي تناسب المشاكل الناشئة على أرض الواقع، ليست أمراً خاطئاً، وهي في الحالة السورية مطلوبة، لكن الواجب، في الدول التي عاشت ولا تزال تعيش حرباً كونيةً عليها، إعادة تعريف وتحديد دور الدولة الاقتصادي كجزءٍ لا يتجزأ من عملية إعادة تصميم نموذج التنمية كله.

لا سبيل للحديث عن دور الدولة الاقتصادي في سورية من دون معالجة أزمة موازنة الدولة في شق العجز الكبير، وفي عملية إعادة هيكلة الإنفاق العام ذاته، وهو أمر لا يستند على توصيات اقتصادية بل يعني إعادة صياغة وبناء التحالف السياسي الاجتماعي الذي يعد بمنزلة الرافعة الأساس، على المدى الطويل، للاستقرار وإطلاق عجلتي التنمية وإعادة الإعمار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى