لقاء مع مسؤول

وضع الاقتصاد مشوه.. وعجوزات كبيرة.. وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في لقاء مع «الاقتصادية»: توجه لتغيرات في السياسات الاقتصادية كلها بما يحقق نمواً اقتصادياً جيداً

| هني الحمدان

بعيداً عن لغة المجاملات، فالحديث مع وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور سامر الخليل أكثر من شائق وممتع، فالرجل يتكلم بلغة الصدق والمكاشفة الحقيقية، لا يميل إلى تجميل الصور،

بل يجسد الواقع بكل تجلياته.. والحديث عن واقع الاقتصاد السوري بعد المفرزات والأحداث السياسية وانعكاساتها ليس بالحديث الرطب، بمعنى أن الضغوط والتحديات المحلية والعالمية قد شكلت عثرات جمة في وجه مسيرة النمو الاقتصادي لدرجة إصابة الاقتصاد بحالات شلل ووهن وتراجع ببعض الأماكن، حتى وزير الاقتصاد ذهب لأكثر من ذلك بوصفه اقتصاداً ضعيفاً ومشوهاً، ويحتاج لجملة من السياسات على كل الجبهات مسائل متنوعة بحثتها «الاقتصادية» خلال عودتها لطبيعتها المعهودة بعد توقف قسري ومن خلال العدد الأول، كان لها لقاء مع وزير الاقتصاد الذي قدم وبإسهاب واسع الخطط والسياسات الاقتصادية والتوجهات التي ستسلكها الوزارة والحكومة معاً نحو النهوض بواقع الاقتصاد الوطني.

جملة من المحاور التي تم عرضها أمام وزير الاقتصاد والذي أبدى ترحيبه بعودة «الاقتصادية» المنبر الاقتصادي الأول في إيضاح مجمل السياسات وقرارات الحكومة وتناول كل مايهم المواطن السوري.

كيف تقيمون سيادة الوزير الواقع الاقتصادي في ظل جملة التحديات الصعبة؟

الواقع الاقتصادي لأي بلد هو انعكاس لجميع الظروف والتحدّيات المؤثرة في مكوّنات هذا الواقع وشدة مؤثراتها. وبالنسبة لسورية فإن الواقع صعب والمشهد معقّد، فهو يعكس جملة التحديات التي واجهتها وتواجهها سورية بكافة أشكالها سواءً بشكل مباشر أم غير مباشر. مع التنويه إلى أن تعقيدات المشهد الاقتصادي بالتأكيد لا تعود لأسباب اقتصادية فقط، وإنّما ترتبط بمجموعة من المتغيّرات الإقليمية والدولية المختلفة بما فيها الحروب والتوترات الجيوسياسية والأوبئة والكوارث الطبيعية، وما يرتبط بكل ذلك من سياسات وقرارات، وما ينتج عنها من منعكسات وأزمات مستوردة تضاف إلى جملة العوامل الذاتية والموضوعية المتراكمة أو الطارئة التي تعكس خللاً كلياً أو جزئياً في بنية الاقتصاد السوري.

لذا لا يمكن إطلاقاً فصل الحالة الاقتصادية في سورية عن مجريات الحالة الاقتصادية العالمية التي تأثرت بها جميع الدول بشكل ملحوظ، بما فيها الدول ذات الاقتصادات الكبيرة والقوية، وبالتالي فإن التقييم الموضوعي للواقع الاقتصادي المحلي يتطلب المرور على أوضاع الاقتصاد العالمي التي كانت مُتأزمة بالفعل منذ عام 2019، أي قبل عام من تفاقم أزمة جائحة «كوفيد-19» التي بدأت في أوائل عام 2020، ومن ثمّ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شباط 2022، وانتقال آثارهما العميقة إلى أرجاء العالم. وإذا ما أضفنا لها حالة تنامي التوترات الجيوسياسية، واتساع أثر تغيرات المناخ القاسية والكوارث الطبيعية التي كبّدت بعض الدول خسائر بشرية ومادية جمة، وكذلك الآثار الجانبية للإجراءات الحكومية المتبناة في بعض الدول لمواجهة هذه الأزمات الكارثية، فإن المشهد سيصبح أكثر تعقيداً وتأزماً.

وبالتالي فإن تحليل واقع الاقتصاد العالمي اليوم، يشير إلى الانتقال السريع للأزمات الاقتصادية في الدول المتقدمة ومنها أيضاً إلى الدول الأخرى. مع الإشارة إلى أن عدم الوصول إلى سياسات علاجية لدى الدول المتقدمة، فاقم أثر التضخم وارتفاع الأسعار على اقتصادات كافة بلدان العالم تقريباً. حيث سجّلت معدلات التضخم ارتفاعاً حاداً نتيجة زيادة أسعار السلع والمواد الأولية واختلالات العرض والطلب، ونتج عن ذلك أعباء ثقيلة انعكست في تكلفة معيشة الناس، لذا اتجهت الكثير من المصارف المركزية إلى تشديد سياساتها النقدية.

ومع بلوغ أسعار الفائدة ذروتها في الكثير من الاقتصادات، وزيادة مدفوعات الفائدة التي تكبدتها الأسر والشركات، بدأ التأثير السلبي يظهر على الأنشطة الاقتصادية أيضاً ويمتد أثره إلى خارج حدود الدول. ويمكن القول إن انتقال الأزمات خارجياً قوّض حالة التنافس في الاقتصاد العالمي وقيّد سلاسل التوريد وأعاق تقدم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الكثير من الدول. وهنا نشير إلى أن السياسة المنتهجة من الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية في فرض سياسة الإجراءات الاقتصادية أحادية الجانب على اقتصادات الدول وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات فاقمت الضغوط التضخمية، وقد اتضح هذا الأمر جلياً في الأزمة الأوكرانية لجهة فرض العقوبات على روسيا الاتحادية والتي نتج عنها حدوث تشوهات في النظام الاقتصادي العالمي لجهة خلق اختلالات في سلاسل التوريد للعديد من المواد المهمة، الأمر الذي أحدث مرّة أخرى حالة من عدم التوازن بين الطلب والعرض. وعمّق المشكلات المالية على المستوى العالمي لاسيما على مستوى حوامل الطاقة وإمدادات المواد الغذائية وتوريدات قطاع المعادن، وخلق بشكل تلقائي مشاكل على المستوى المالي تمثّلت في إرباك أسواق المال والعملات في العديد من الدول، مع تزايد مخاطر ضعف الأداء فيها. وضعف القدرة على تصحيح الفوارق الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي.

تأثر الاقتصاد السوري

الدعم فقط للشرائح الأفقر ولقوة الاقتصاد .. مقاربتنا بالجانب الاستثماري وفق مبدأ «رابح- رابح »

وضمن هذا السياق، لا بدّ وأن تتأثر الحالة الاقتصادية في سورية بمجريات الحالة الاقتصادية العالمية، مع تعمّق المشكلة الاقتصادية لدينا بنتيجة وجود عوامل إضافية تُعزا إلى الاختلالات الهيكلية والتراكمية في بنية الاقتصاد السوري والتي يعود عمرها إلى عقود من الزمن، وذلك إلى جانب تداعيات الحرب التي تعرضت لها سورية وما ألحقته من أضرار بالكثير من مناحي الحياة. وهنا فإن ارتفاع أسعار السلّة الغذائية جاء كنتيجة حتمية للتضخم الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي عموماً، يضاف إليه سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة والاحتلال الأميركي على مقدرات البلد الزراعية لاسيما مناطق زراعة القمح، إلى جانب ارتفاع أسعار المواد المستوردة وخاصة المشتقات النفطية، بشكل متزامن مع سيطرة المجموعات الإرهابية والاحتلال الأميركي على حقول النفط السورية. وما زاد من حدة ارتفاع الأسعار أيضاً زيادة تكاليف الشحن والتأمين إلى سورية، باعتبارها غربياً «دولة عالية المخاطر»، إضافة إلى ارتفاع كلف تحويل الأموال للخارج تسديداً لقيم المستوردات في ظل واقع العقوبات والحصار الاقتصادي، وكل ذلك أدى إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار داخل الاقتصاد الوطني، ما أفرز آثار سلبية طالت وبشكل رئيسي أصحاب الدخل المحدود والذين يتأثرون بسرعة كبيرة بتطورات الأسعار، وبشكل أكبر من غيرهم. يضاف إلى الأسباب أيضاً انتشار ظاهرة المضاربة على العملة المحلية، مع عدم إغفال استمرار العمل بسياسات قديمة -دون حدود مضبوطة- كاقتراض المالية العامة من مصرف سورية المركزي لتغطية العجوزات الناجمة عن ارتفاع المستوى العام للأسعار، والاستمرار بسياسات غير كفوءة كسياسة الدعم النمطية القائمة لعقود طويلة وبأشكال غير سليمة وغير مجدية، وتعميق حالة التشوّه في الموازنة العامة للدولة، وبالتالي استمرار الدوران في حلقة مفرغة من التضخم وارتفاع الأسعار، بالتزامن مع ضعف القدرة على ضبط معدلات نمو العرض النقدي، بنتيجة اعتماد المالية العامة على الائتمان المقدم من مصرف سورية المركزي، والأثر السلبي لذلك على سعر الصرف والتضخم. وهنا نؤكد بأن الواقع الاقتصادي في وضعه الراهن بصورته الضعيفة المشوهة، ومدلولاته وأخطاره، لا يمكن تجاهله ويستلزم تكريس كافة الجهود لاستنباط الحلول العلاجية للمشكلات القائمة حاليا، ولاسيما ما يمكن معالجته من خلال مراجعة السياسات القائمة لتحسين هذا الواقع على المستوى المتوسط والأبعد.

علينا تحديد النموذج الاقتصادي الذي يناسبنا ويحقق العدالة الاجتماعية

الخطوات الواجب اتخاذها لاستعادة انتعاش الحياة الاقتصادية خاصة بعد توجيهات السيد الرئيس بشار الأسد حول الشق الاقتصادي؟

يتطلب الوصول إلى مرحلة الانتعاش الاقتصادي سلوك مسارات عمل صحيحة. وتحديد هذه المسارات يجب أن يتسق مع النموذج الاقتصادي المناسب لبلدنا، إنطلاقاً من تحديد دور الدولة. وقد تحدّث سيادة رئيس الجمهورية وبكل وضوح خلال كلمته التوجيهية المهمة التي ألقاها مؤخراً في الاجتماع الموسّع للجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، عن دور الدولة تجاه المواطنين في مختلف القضايا والقطاعات، وأكد أنه يجب علينا أن نحدد النموذج الذي يناسبنا من حيث تحقيق العدالة الاجتماعية، وقدرته على مواجهة الظروف الراهنة التي نعيشها، والقدرة على دفع التقدّم إلى الأمام. وأعطى سيادته مثالاً حول اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تمّ طرحه تقريباً في عام 2005، وكيف حُمّل ما لا يحمله من معانٍ ومن تفاسير وحتى من أخطاء أو من عثرات مرّت بها سورية.

منوهاً سيادته بضرورة تحقيق خروقات في مجالات محددة نعتبرها أولويات بالنسبة لنا وخاصةً في المجال الاقتصادي.

وركّز سيادته بشكل خاص على أهمية تحقيق التوازنات الضرورية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وبما يرعى مصالح الطبقة الفقيرة، إلى جانب تحقيق التوازن بين سعر الصرف والإنتاج وأهمية استقرار سياسة التصدير باعتبارها قاعدة التطوير الاقتصادي.

ماتم العمل عليه غير كاف

وهنا نشير إلى أنه خلال الأعوام السابقة اعتمدت الحكومة وأجهزتها بعض المسارات بهدف معالجة تعقيدات الواقع الاقتصادي والتحديات التي يمر بها من خلال سياسات وإجراءات محددة استهدفت التخفيف ما أمكن من عوائق تحقيق التعافي التدريجي في الاقتصاد السوري. إلا أن ما تمّ العمل عليه ما زال غير كافٍ بشكل كامل للمعالجة، نتيجة وجود مشاكل عميقة ومتراكمة يتم التعامل مع بعضها بحذر وبشكل تدريجي، علماً بأن بعض مراحل العلاج مؤلمة وتتطلب بيئة داعمة ومتفهمة لتقبّل التغيير المطلوب في السياسات والإجراءات على حد سواء.

مراجعة شاملة للسياسات

وضمن هذه التوجهات نؤكد بأن الرؤية المتعلقة باجتراح الحلول تعتبر داخلية صرفة، وتتمحور في إطارها العام حول مراجعة السياسات العامة للدولة (السياسة المالية، السياسة النقدية، السياسة التجارية، سياسة الاستثمار) والسياسات القطاعية وسياسات التصحيح الهيكلي (سياسة التمويل بالعجز، سياسة الدعم،…) وتقييمها من منظور العائد والكلفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في إطار الفرص البديلة، وبشكل يوازن بين الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. إذ إن بعض السياسات التي كانت متّبعة منذ عقود قد لا تناسب الظروف الحالية، وبعضها الآخر قد يناسب الظروف الحالية إلا أنه يتطلب إدخال بعض التعديلات عليها في التوجهات والآليات، وبعضها قد يكون عفا عنها الزمن وبحاجة إلى استبعاد من الحياة الاقتصادية، ومن ثم إجراء تغيير في السياسات العامة من خلال امتلاك أدوات الإدارة المترافقة مع الإرادة لهذا التغيير.

تصحيح لمسار الدعم

كانت قرارات اللجنة الاقتصادية فيما يخص أسعار الطاقة وبعض السلع قاسية هل هي بمنزلة مقدمة لإغلاق ملف الدعم؟

أظهرت الدراسة التحليلية التي اتبعتها الحكومة لمعالجة سياسة الدعم السابقة العديد من مكامن الضعف التي تستوجب بالضرورة التحرك العاجل لمعالجتها. مع التأكيد بأن جزءاً كبيراً منها ليس ضمن اطلاع عامة الناس، ولذلك فإن القرارات التي تمّ اتخاذها على هذا الصعيد لم تلقَ استحسان البعض. وهذا الأمر طبيعي لدى الشرائح التي ترى بأن دور الدولة يجب أن يستمر دوراً أبوياً صرفاً (بغض النظر إن كانت الدولة تستطيع أن تتحمل تبعاته أم لا)، ولكنه يجب أن يكون أوضح لدى بعض الشرائح المتابعة والمتخصصة والتي هي على بيّنة بواقع وإمكانيات الدولة الاقتصادية من جهة، وعلى بيّنة بحالة الخلل التي تشوب عملية الدعم وآلياته المستمرة على شكلها الحالي من جهة أخرى. مع التنويه أيضاً – بكل صراحة – إلى وجود بعض الشرائح المقتدرة التي لا تحتاج حقيقة إلى الدعم، ولكنها ترى بأنّه حق من حقوقها ويجب أن تحصل عليه تحت أي ظرف كان. وهذا برأينا بعيد عن منطق العدالة الاجتماعية. ولذلك طغت على المشهد العام حالة عدم تقبل قرارات الحكومة بالنسبة لهذا الملف على الرغم من ضرورتها لاستمرار المالية العامة للدولة ولتصويب التشوهات المتراكمة.

وبالتالي فإن الموضوع ليس إغلاق ملف الدعم أو الاستمرار به، وإنّما تصحيح مطارحه وأشكاله وآلياته والشرائح التي يجب أن تستفيد منه بصورة تحقق العدالة الاجتماعية. وهذا الأمر يحتاج إلى محاكمة منطقية بعيداً عن الديماغوجية. مع التنويه إلى أن هذا الأمر لا يعني تخلي الدولة عن مسؤولياتها، وإنما التوجّه المدروس لتحديد شكل الدعم وطريقته باعتباره ضرورة للشريحة الأفقر- لأسباب مختلفة تتعلق مثلاً بتكرار عملية الدعم. فعلى سبيل المثال يتم دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي وبذات الوقت يتم دعم المشتريات لبعض أنواع المنتجات الزراعية من المزارعين، فيذهب الدعم الخاص بالمستلزمات غالباً لفئات وسيطة تتاجر به بشكل غير مشروع. ومن الأمثلة أيضاً، غياب الضمان الاجتماعي باعتباره أهم أنواع الدعم والذي يُعنى بالطبقات الهشة والفقيرة في المجتمع، إلى جانب عدم الوضوح في شكل الدعم وتداخله. وأيضاً هناك مثال آخر يتعلق بتشوّه تصنيف بعض أشكال الدعم، فقطاعا التعليم والصحة على سبيل المثال هما مدعومان بشكل شبه كامل. ولكن هذا الدعم لا يظهر في أرقام الموازنة العامة بشكل صريح تحت مسمى «دعم». مع عدم إغفال الآثار الناتجة عن اعتماد سياسات متنوعة وقطاعية للدعم دون دراسة (تكامل أو تعارض) تلك السياسات المتبعة وأثرها بين القطاعات وأثرها على المستهدفين، ما أدى إلى إحداث تشوهات عميقة في عملية الدعم وأفرز العديد من المشاكل سواء على مستوى الاقتصاد الكلي من خلال ارتفاع معدلات التضخم الناجم عن الخلق النقدي وطرحه في السوق إما لتمويل العجوزات عن طريق الاقتراض من المصرف المركزي، أو على صعيد بعض المصارف العامة من خلال تحميل ميزانياتها لقيم هذه العجوزات، أو على مؤسسات القطاع العام الاقتصادي بحد ذاتها من خلال إظهارها كمؤسسات خاسرة، ونشوء وتعميق للفساد لدى ضعاف النفوس ممن استغلوا هذه السياسات لجني أرباح غير شرعية لاسيما من خلال الفوارق السعرية للمواد المدعومة، إلى جانب تساوي كافة فئات المجتمع في الاستفادة من الدعم -بما فيها الميسور منها – وذلك على الرغم من كافة الإجراءات المتخذة لتوجيه الدعم إلى الفئات المحتاجة أو الهشة.

توجيه الدعم للتنمية الاقتصادية

وخلاصة القول يمكننا التأكيد بأن التوجهات في مقاربة ملف الدعم يجب أن تنطلق من تفادي شكل الدعم غير المجدي والتحوّل في مقاربته وفق رؤية عامة تتمثل في تحسين أوضاع المالية العامة للدولة عبر تخفيض عجوزات الموازنة وتقليص التهريب وعمل السوق الموازية، وتوجيه الدعم لتحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج باستهداف قطاعات حيوية، بما يساهم في تخفيض معدلات البطالة وتقليص الفجوة بين فئات المجتمع وتحقيق الرعاية للفقراء وشرائح المجتمع الهشة. ويجب أن يكون المبدأ الأساس خلال المرحلة القادمة في مقاربة هذا الملف بأن الدعم ضروري للشرائح الأفقر ولقوة الاقتصاد. مع التأكيد على أن يكون هناك توزن ما بين المسارين الاقتصادي والاجتماعي. بحيث يتم تحقيق التوازن بين القواعد الاقتصادية والقواعد الاجتماعية، والسير بخط دقيق ومدروس لا يكون فيه الجانب الاقتصادي مجرداً على حساب المجتمع، ولا يتم السير بالعكس باتجاه الجانب الاجتماعي بشكل مجرّد حتى لا نصبح دولة مفلسة.

الضميمة لدعم الإنتاج المحلي

قرار الضميمة على بعض السلع والمواد ترك تساؤلات لدى بعض الأوساط، ماذا تفسرون وهل من فوائد تصب في توفر المواد مثلاً؟

بداية لا بدّ من الإيضاح بأن فرض ضميمة على سلعة معيّنة أو رفع السعر الاسترشادي لها أو حتى منع استيرادها بشكل كامل أو السماح باستيرادها بكميّات وشروط محددة يعتبر من أدوات الحماية التجارية التي تكون غاياتها أولاً دعم وحماية إنتاجها الوطني بغرض مساعدة المنشآت المحلية على الاستمرار بالعمل والنمو والتوسّع والتطوّر. والحفاظ على العمالة المحلية فيها، وتوفير منتج محلي مناسب، وتحقيق زيادة في الإنتاج بما ينعكس أيضاً على النمو الاقتصادي إيجاباً. وهذه الإجراءات الحمائية غالباً ما تلجأ إليها الدول التي تتعرض اقتصاداتها لتحديات وأخطار تتطلب الحد من نزيف القطع الأجنبي وتعزيز قدرتها في الاعتماد على الذات من خلال اعتمادها مجموعة من السياسات، ومنها سياسة إحلال بدائل المستوردات. حتى إن الكثير من الدول ذات الأوضاع الاقتصادية المريحة تقوم بإجراءات حمائية واضحة ومتطرفة أحياناً رغم انضمامها إلى اتفاقيات دولية توجب عليها الحد من ذلك.

وبالعودة إلى السؤال. لا بدّ من الإيضاح بأن بعض الأوساط تهاجم أحياناً قرارات فرض الضميمة ولا تحتضنها على الرغم من كونها تصب في مصلحة الإنتاج المحلي والعاملين فيه، وبالتالي مصلحة الاقتصاد الوطني والليرة السورية. والعامل الرئيس المؤثر على رؤية هذه الشريحة هو التجييش الذي يقوم به بعض أصحاب المصالح المتضررين من فكرة وجود إنتاج محلي يحد من حجم مستورداتهم.

النشاط الاستيرادي نحو خلق قيم مضافة

وهنا لا بد من توضيح أمر في غاية الأهمية وهو أن سياسة التجارة الخارجية والسياسة الصناعية وجهان لعملة واحدة وتتفقان على مستوى الأهداف الإستراتيجية والاقتصادية، فاستراتيجياً تستهدف السياستان المذكورتان توجيه النشاط الاستيرادي نحو خلق قيم مضافة بما يضمن تشغيل اليد العاملة على مستوى صناعات تجميعية لمواد أولية، أو لمنتجات وسيطة مرحلياً، وصولاً لتأصيل مفهوم نقل الصناعة وتحقيق تحوّل في هيكل المستوردات إلى مواد أولية على حساب المنتجات الوسيطة والمنتجات النهائية الجاهزة للاستهلاك. واقتصادياً فإنهما تستهدفان حماية الإنتاج المحلي والصناعات الناشئة من المنافسة الأجنبية، من خلال تحييد المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تؤثر تأثيراً ضاراً على الإنتاج المحلي، انطلاقاً من مبدأ أن الصناعات الناشئة تكون منتجاتها أعلى تكلفة مقارنة بمنتجات الصناعات الراسخة لأن طول الفترة الزمنية يكسب الصناعات الراسخة في الدول المنافسة درجة أفضل من الكفاءة السعرية في شكل تخفيض التكاليف، وكذلك حماية الاقتصاد الوطني من خطر الإغراق بإجراءات متعددة بداية من فرض رسوم أو ضميمة على المستوردات وانتهاءً بتقييد ومنع الاستيراد.

وضمن السياق المذكور نجد أن استخدام إحدى أدوات التجارة الخارجية والمتمثلة في فرض الضميمة على مستوردات مادة ما، إنما هو تحقيق وتنفيذ لأهداف إستراتيجية واقتصادية مبنية على دراسة تفصيلية لواقع القطاعات الصناعية التي تستلزم الرعاية المرحلية والتمكين، بمعزل عن المؤثرات الخارجية الضاغطة، مع تأكيدنا بأن تمكين الصناعات القائمة سيرفع من طاقاتها الإنتاجية وما يستتبع من تخفيض في كلف الإنتاج الأمر الذي سينعكس إيجاباً على مستوى توفر المواد وبأسعار تتناسب مع الكلف الحقيقية، لاسيما مع وجود متابعة من الجهات المختصة لمواصفات المنتج الوطني المحمي، وجودته وأسعاره، ضمن فترة الحماية المؤقتة، لحين تحقيق الهدف المبتغى من الحماية المفروضة.

تفاقم الوضع المعيشي

التضخم أخذ مداه والغلاء أيضاً مما زاد من أزمة الاقتصاد، كيف ستتعاملون للتقليل ما أمكن ودعم قنوات الإنتاج؟

تتفق التوجهات الحكومية – وحتى آراء الاقتصاديين والخبراء والأكاديميين – على اعتبار تحريك العملية الإنتاجية المخرج الإستراتيجي والحقيقي لتقوية الاقتصاد الوطني ودعم سعر صرف الليرة السورية، وذلك لتجاوز الحالة الاقتصادية الراهنة، من مبدأ أن سعر الصرف هو مرآة لحالة الدولة الاقتصادية. وبالتالي فإن تحسّن سعر الصرف وما له من آثار إيجابية على مستوى الأسعار لا يمكن أن يكون إلا بتحسين الواقع الاقتصادي وتدوير عجلة الإنتاج، وما يستتبع ذلك من تحسّن على صعيد تخفيض حجم البطالة وزيادة معدلات النمو وتخفيض الضغوط المعيشية على المواطن، مع تأكيدنا في هذا السياق على أن توصيف المشكلة الاقتصادية يتمثل في انخفاض مستويات التشغيل وما يقابله من ارتفاع في معدل البطالة، مع تدنٍ في مستوى الأجور لذوي الدخل المحدود وتفاقم الوضع المعيشي لمعدومي الدخل. وتحاول الدولة تعويضه من خلال سياسة الدعم التي تواجه ارتفاعاً مستمراً في المستوى العام للأسعار بنتيجة التغيرات المتلاحقة في سعر الصرف ما يستتبعه من تآكل في موارد الخزينة العامة المرصودة لمقابلة الإنفاق، ما يتطلب مزيداً من التوسع في سياسة التمويل بالعجز عبر اقتراض المالية العامة للدولة من مصرف سورية المركزي، والتي تعني مزيداً من طرح الكتلة النقدية، وبالتي حدوث أثر سلبي على سعر الصرف مع موجة من التضخم وارتفاع الأسعار تقابل من الفعاليات الاقتصادية وأصحاب المهن برفع للأسعار مرّة أخرى ويكون ضحيتها ذوي الدخل المحدود ومعدومي الدخل.

وبالتالي فإن المدخل الحقيقي لمعالجة الحالة التضخمية الضاغطة على العملية الإنتاجية والاستهلاكية تتمحور بإدارة الدين العام باعتباره أهم القضايا التي تواجه إدارة المالية العامة والاقتصاد السوري بشكل عام، وتعتبر من أولويات مهام السياسات الكلية في المدى القصير والمتوسط، وصولاً إلى وضع مالي مقبول مدعوم باستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي.

تقييم عمل منصة تمويل المستوردات

هل من قرارات اقتصادية حيال تعزيز الليرة السورية وتعديلات في السياسة النقدية؟

من الضرورة بمكان التأكيد على حقيقة أن مهمة الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية وتعزيز قوتها يتطلب دائماً تضافر جهود مختلف الجهات سواء الحكومية أم غير الحكومية لإنجاز هذه المهمة. ورغم الموجات التي شهدها تغيّر سعر الصرف فقد نجحت السياسات المتبعة- إلى حدٍ كبيرٍ- في ظل كل الظروف الموجودة من إدارة التقلبات في سعر الصرف لجهة لجم ممارسات المضاربين الذين سعوا إلى زعزعة ثقة المواطنين بعملتهم الوطنية سواء عبر خلق طلب إضافي وأحياناً وهمي على القطع الأجنبي أو عبر توظيف التطورات والمستجدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية المتعلقة بالأزمات التي عاشتها سورية وعاشتها وتعيشها دول المنطقة والعالم لمصلحة التأثير على العامل النفسي وثقة الناس بالعملة الوطنية، حيث لا تزال الليرة السورية تتمتع بثقة وقوة إبراء جيدة في السوق المحلية رغم ما شهدته من انخفاضات في فترة الحرب على سورية. ومع شح الإمكانيات وموارد القطع الأجنبي لاعتبارات متعددة متعلقة بالضرر الذي أصاب القاعدة الإنتاجية خلال بداية سنوات الحرب والمترافق مع توقف أو تراجع قطاعات رئيسية مولدة للقطع الأجنبي (سياحة، نفط، ترانزيت، تصدير،… إلخ) إلى جانب العقوبات الاقتصادية، وتبعاً للظروف الراهنة، فقد كان لا بدّ من التفكير بتطوير أدوات وآليات غير تقليدية لضبط استقرار سعر الصرف تنسجم مع المستجدات الراهنة ومعطيات السوق الحالية مع متابعة ومراجعة هذه الأدوات والآليات بشكل متواتر حسب تطورات الظروف العامة والواقع الاقتصادي، وهذا ما عملت عليه الحكومة في أكثر من محطة مع حزمة من القرارات التي تلامس الوضع النقدي خلال الفترة الممتدة منذ شهر أيار في العام 2023 وبعدها لجهة تقييم عمل منصة تمويل المستوردات وتعزيز موجودات مصرف سورية المركزي بالقطع الأجنبي من خلال قيام الحكومة بصياغة مصفوفة معطيات واضحة لتحديد مصادر توليد القطع الأجنبي في البلد والآليات المطلوبة لتحقيق ذلك (ولاسيما في قطاعات السياحة والثروة الجيولوجية والمعدنية، الصناعات الزراعية والغذائية التصديرية وغيرها) وتعديل المرسوم (3) لعام 2020 المتعلق بمنع التعامل بغير الليرة السورية وغيرها.

دراسة السياسات ومراجعة للنقدية

آليات غير تقليدية لضبط استقرار سعر الصرف.. مراجعة لعمل منصة التمويل والسياسة النقدية

وفي ذات السياق لا بد من التأكيد على التوجه الحكومي بإعادة دراسة السياسات العامة كافة بما فيها السياسة النقدية وكافة السياسات الأخرى المؤثرة في سعر صرف الليرة السورية، من منطلق المراجعة الشاملة لكل السياسات العامة، فالدولة لا تستطيع أن تسير بالسياسات نفسها دون تعديل في الوقت الذي تتم مطالبتها بنتائج أفضل تُغير الواقع الاقتصادي. فالتمسك بالشكل الاقتصادي سيبقي الظروف نفسها. فالهدف المبتغى هو التحول في السياسات الاقتصادية للتركيز على مسألتين مهمتين هما زيادة النمو الاقتصادي، والحد من ارتفاع المستوى العام للأسعار. مع التركيز على دفع الإنتاج الحقيقي الصناعي والزراعي وتحفيزه باعتباره رافعة للاقتصاد الوطني لتحقيق عوائد اقتصادية ورفع نسب تشغيل اليد العاملة وتحسين مستوى الدخول، بالإضافة إلى تحفيز إقامة المشاريع المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة والتي تتلاءم مع بيئة الأعمال في سورية، كما تعتبر منفذاً لتحريك عجلة الإنتاج من خلال خلق فرص واسعة وكبيرة. لما لذلك من انعكاسات إيجابية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. إلى جانب العمل على تشجيع التصدير باعتباره مورداً مهماً من موارد القطع الأجنبي، بالإضافة لاعتباره مجالاً تحفيزياً لرفع الطاقات الإنتاجية مع توفر أسواق داخلية وخارجية، الأمر الذي يسهم في تخفيض كلف الإنتاج الثابتة وينعكس إيجاباً على المستوى العام للأسعار.

تنمية الإنتاج بحالتي الاستيراد والتصدير

انعكاسات الاتفاقات الموقعة والتي تعملون عليها مع بعض الدول هل ستضيف شيئاً؟

من المهم الإيضاح قبل الحديث عن الإضافات الممكن تحقيقها من الاتفاقيات الموقعة، بأن أساس توقيع وثائق التعاون الدولي بالأصل هو تحقيق المنفعة المتبادلة مع الدول الأخرى، بمعنى آخر، نحن في سورية لا نقدّم فرصاً بالمجان، وبنفس الوقت لا نطرح مشاريع غير مجدية للدول الأخرى. فمقاربتنا بالنسبة لهذا الموضوع في الجانب الاستثماري تقوم على مبدأ «رابح-رابح».

أمّا فيما يتعلق بالاتفاقيات التجارية فإن المبدأ يرتبط بشكل وثيق بمحور تنمية الإنتاج في حالتي التصدير والاستيراد. وضمن هذا السياق نسعى لتذليل العقبات التي تحّد من تفعيل الاتفاقيات الموقّعة مع بعض الدول أو توقيع اتفاقيات جديدة تنص على تبادل منح مزايا تفضيلية ولاسيما لجهة تصفير الرسوم الجمركية أو تخفيضها، بهدف الحصول على المستوردات من المواد الأساسية والضرورية ومستلزمات الإنتاج بتكاليف أقل، وخاصةً أن المواد المسموحة بالاستيراد إلى سورية اليوم تتركّز في هذه المجالات. بما يساعد على الحد من ارتفاع الأسعار. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تهيئة أسباب انسياب الصادرات من خلال تعزيز تنافسيتها السعرية، لزيادة حجمها، بما يُعزز مصادر نمو الواردات من القطع من جهة. ويؤمن محرّكات تحفيز العملية الإنتاجية بالشكل الذي يساعد على الحد من تقطع سلاسل التصدير وبالتالي الحفاظ على الأسواق الخارجية، وفتح أسواق جديدة. وهذا الأمر من شأنه تعزيز حماية الليرة السورية والحد من ارتفاع الأسعار.

وهنا نشير إلى الأهمية التي أولاها السيد رئيس الجمهورية في خطابه لموضوع التصدير إذ اعتبره قاعدة من قواعد التطوير الاقتصادي. وأشار إلى أن إيقاف التصدير، يعني خسارة الأسواق، حيث إن المستورد لا يقبل بسوق متقطع أو متذبذب أو غير مستمر، فيخسر المصدّر، وتخسر الدولة العملة الصعبة، ونخسر فرص العمل، ويحصل ضغط على الليرة السورية وعلى سعر الصرف وبالتالي على المستوى العام للأسعار.

كما أن توجهات سورية على مستوى التعاون الدولي بدءاً من فترة ما قبل الحرب على سورية بدأت تركّز على إعادة توجيه اتفاقيات التعاون لتكون داعمة للعلاقات التجارية شرقاً، وذلك لتمتين العلاقات الاقتصادية مع الدول الصديقة وللتقليل من مخاطر القضايا المرتبطة بالظروف الدولية، بما يضمن استقرار سلاسل التوريد في عمليات الاستيراد وفتح أسواق جديدة للصادرات، مع السعي الحثيث لتخفيض الاعتماد على حركة الأموال في عمليات التجارة الخارجية لجهة خلق توازن بين المستوردات والصادرات على مستوى الشركاء التجاريين وتشجيع تطويرها من صفقات تجارية محدودة إلى نظام عمل تجاري متكامل يضمن ترابط سلاسل التوريد المتبادل بين أطراف العمل. مع التنويه بأن الجانب التجاري مع المحيط العربي كان ومازال مستمراً، لاسيما أن أطره محكومة باتفاقيات كاتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. في حين أن الجانب الاستثماري ينطوي على حساسية عالية لجهة تصوير وتسويق حالة الحرب واستمرارها في سورية، إلى جانب إشاعة ثقافة الخوف التي نسجتها وعززتها الإدارات الأميركية من خلال عواقب التعامل والتعاون الاقتصادي مع سورية. وبالتالي فإن هذا الأمر يعتمد على إرادة المستثمر والحلول المتاحة للتعامل مع واقع العقوبات والحصار.

علماً بأن واقع الاستثمار في سورية وخاصةً في قطاعات الاقتصاد الحقيقي، وعلى مدى العقود السابقة، يُظهر بشكل واضح أن حامل الاستثمار في سورية فعلياً هو رأس المال السوري.

عجز موازنة كبير

فاتورة الإنفاق إلى تصاعد مقابل ضعف الإيرادات ما ملامح السياسة المقبلة؟

بالإضافة إلى مفرزات الحرب، أدت جملة من العوامل إلى حدوث ضغط تراكمي مترافق مع اختلالات بنيوية في أوضاع المالية العامة، متزامنة مع تقلبات في أسعار الصرف ومع موجات تضخمية، ومع استمرار للتمويل بالعجز عن طريق مصرف سورية المركزي حدثت تشوهات في الموازنة العامة للدولة. مع عدم إغفال الأثر السلبي لتحوّل سورية من بلد مُصدر للنفط ومكتفٍ ذاتياً من بعض المحاصيل الإستراتيجية ولديه فوائض تصديرية وذلك إلى بلد مستورد صافٍ لتلك المواد، إضافة إلى استمرار الدولة بانتهاج سياسة الدعم ذاتها ومنذ سنوات بعيدة لمرحلة ما قبل الحرب وخلالها- وما نتج عن هذه السياسة من أعباء مالية كبيرة، وما رافقها من هدر سبّبه الفساد الذي ولّدته هذه السياسة وما يقابلها من ارتفاع كبير في عجز الموازنة، حتى أصبحنا نموّل الدعم بالعجز بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر على الاقتصاد الوطني.

وفي خضم هذا المناخ تشكّلت حالة من الضغط على الإيرادات العامة وعلى مستويات المديونية، أوصلنا إلى مستويات غير مسبوقة في عجز الموازنة، وفي الدين العام الداخلي. وبالتالي وأمام هذا الواقع عملت الحكومة على الوقوف بدقة على مواردها المالية والحيّز المالي المتاح لديها، وحجم العجز، ومستوى الدين العام لتحديد هوامش التحرّك، تأسيساً لصياغة أطر للمالية العامة تكون موضوعية وقابلة للاستمرار، وتنطوي على إصلاح السياسات الاقتصادية ومنها المالية لتحقيق توازن أفضل بين أوجه الإيرادات والإنفاق العام من خلال إعادة هيكلة القطاع العام ومنشآته التي شهدنا خطوات منها. وإيجاد حل لمسألة الخسائر المتراكمة للمؤسسات الاقتصادية العامة، وإصلاح السياسة الضريبية من خلال الجهود التي تقوم بها وزارة المالية لإعادة النظر بالتشريعات الضريبية، وضمان المساهمة العادلة والفعّالة لجميع قطاعات المجتمع، مع إعادة تقييم ومراجعة وتوجيه سياسات التصحيح الهيكلي الداعمة للإطار العام للسياسة الاقتصادية والمتمثلة في سياسة التمويل بالعجز وسياسة الدعم وفق أسس تراعي الموارد المتاحة وتحقق كفاءة الإنفاق الحكومي بما يُمكّن من تحسين إدارة السيولة.

تغير في السياسات وتمويل أكبر

أشرتم في حديثكم أكثر من مرة إلى موضوع السياسات، وما ينبغي العمل عليه، ما رؤيتكم للسياسات التي تعمل عليها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية؟

نحن نوصّف الواقع بشفافية. وهذه المنهجية في التوصيف تنسجم مع ما تضمّنه خطاب السيد الرئيس، فإشارته إلى الحاجة إلى التطوير والحاجة إلى الحوار في كافة المجالات لتحديد دور الدولة وصياغة الرؤى، يؤكد بأن بناء السياسات لم يصل إلى المستوى المطلوب. ونحن في وزارة الاقتصاد كنا قد حددنا سياساتنا والأهداف التي نسعى إلى تحقيقها والبرامج المطلوب تنفيذها. إلا أن ذلك لا يعني عدم الحاجة إلى مراجعة سياساتنا في سياق المراجعة الشاملة التي يجب أن تتم لجميع السياسات الكلية والقطاعية سعياً نحو تحديد النموذج الأمثل للسياسات الكلية. وهذا الحوار حول السياسات هو مفتوح باتجاه شرائح أوسع من المختصين والخبراء والأكاديميين.

وضمن هذا الإطار نشير إلى أن السياسات العامة التي أعلنت عنها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية وتعمل عليها تشمل سياسة التجارة الخارجية، وفق رؤية مفادها تنظيم التجارة الخارجية في الاقتصاد الوطني لتحقيق التأثير المرغوب في الجوانب الاقتصادية المختلفة وفق مدخل مختلط يمزج بين الحرية والتقييد، حسب طبيعة المواد، لضمان التأثير في مستوى الإنتاج والعمل بما يحقق معدلات نمو حقيقية قابلة للاستمرار وتصحيح الميزان التجاري لجهة زيادة القدرة التصديرية بما يؤمن إمكانية تمويل المستوردات المحفزة للنمو وأهمها مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي، وزيادة فرص العمل.

تأهيل المنشآت القائمة

وبالإضافة إلى سياسة التجارة الخارجية، هناك مجموعة من السياسات القطاعية وعبر الوزارة والتي تسعى من خلالها الوزارة بدورها إلى تحقيق التكامل والانسجام مع السياسات الكلية المالية والنقدية والتجارية، ومنها سياسة تنمية الصادرات، وتعزيز قدرتها التنافسية، وسياسة تغطية العجز بالإنتاج وفق رؤية مفادها الوصول إلى قطاعات إنتاجية حقيقية معززة للإيرادات ومرممة لفجوة الإنتاج، بالاعتماد على الذات حيثما أمكن وبشكل اقتصادي، ومن خلال تحفيز القطاع الخاص على تأسيس المشاريع المجدية اقتصادياً، وتوسيع وتأهيل المنشآت القائمة والمتوقّفة، وبما يتوافق مع الأولويات الوطنية.

إضافة إلى سياسة التنويع الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية، بهدف الوصول إلى قاعدة إنتاجية متنوعة وشاملة للقطاعات الاقتصادية التقليدية وغير التقليدية، تساهم في بنائها جميع الشرائح الإنتاجية، وتعزّز من قوّتها وترابطاتها الأفكار الإبداعية والابتكارية، ويكون للقطاع الخاص دور واسع في إغنائها وتطويرها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى