هيئة عامة قيد الإحداث لإدارة كفوءة.. هل ستقلل الفساد والهدر؟ … اقتصادي: فجوة الرواتب والأجور تضغط على الشق الإنمائي وردمها ضرورة لتوطين رأس المال البشري
| شادية إسبر
يعد الإنفاق العام في سورية أحد الجوانب الحيويَّة للاقتصاد الوطني، إذ يلعب دوراً مهماً في تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير الخدمات العامة للمواطنين، في مرحلة تواجه فيها البلاد تحديات كبيرة تؤثر في إدارة الإنفاق العام ما يؤثر سلباً في الاقتصاد بشكل عام.
بات واضحاً أن أحد التحديات الرئيسة التي تواجه الإنفاق العام في سورية هو تأثير الحرب المستمرة منذ سنوات في البنية التحتية والمؤسسات الحكومية، وخسارة أبرز العائدات (أهمها النفطية) مع بقاء مناطق عدة خارج سيطرة الدولة، هذا التأثير يجعل من الصعب على الحكومة تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين بشكل كافٍ وفعّال، كما يزيد من صعوبة إدارة الإنفاق العام في سورية، التدهور الاقتصادي والانهيار النقدي، فالتضخم المرتفع وانخفاض قيمة العملة المحليّة يؤثران سلباً في قدرة الحكومة على تحقيق التوازن المالي وتوجيه الإنفاق نحو المشروعات ذات الأولوية.
علاوة على ذلك، تشهد سورية تحديات سياسية وأمنية تزيد من عرقلة عملية الإنفاق العام وتقليل فاعلية استخدام الموارد، ما يؤثر سلباً في جودة الخدمات العامة وبالمحصلة يزيد الضغوط الاجتماعية.
ومع كل تلك التحديات تتعرض البلاد لعقوبات اقتصادية أو ما يعرف بالإجراءات الاقتصادية الأحادية الجانب والتي تؤثر بشكل كبير في الإنفاق العام، إذ تتسبب بتقليل الإيرادات المالية للحكومة وتصعيب إمكانية الوصول إلى التمويل الدولي، كما تزيد من تكاليف الاستيراد وتقَلِّص قنوات التجارة والاستثمار، ما يؤدي إلى زيادة تكاليف المشروعات من دون أن نغفل تأثير العقوبات في القطاع المصرفي والنقدي، وكل ذلك يعقّد إدارة الموارد ويؤدي إلى تدهور القيمة الشرائية ويؤثر سلباً في الميزانية.
أهمية تأسيس هيئة للإنفاق العام
يعتبر تأسيس هيئة للإنفاق العام أمراً مهماً للعديد من الأسباب أولها تحسين الشفافية والمساءلة ما يقلل من الفساد والهدر، ثم تحقيق التوازن المالي، وتحسين جودة الخدمات العامة من خلال المراقبة والتقييم، ويمكن للهيئة أن تلعب دوراً مهماً في دعم التنمية الاقتصادية من خلال توجيه الإنفاق العام نحو المشروعات ذات الأولوية والفائدة الاقتصادية، وبالتالي تعزيز ثقة المواطن بالحكومة.
ولتحسين إدارة الإنفاق العام في سورية، تحتاج الحكومة لأن تولي اهتماماً خاصاً لإعادة بناء البنى التحتية المتضررة وتعزيز قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ويعتبر تشجيع دور القطاع الخاص في تقديم بعض الخدمات العامة، مثل قطاع الصحة والتعليم، من خلال شراكات عامة -خاصة بأنه يعزز جودة الخدمات المقدمة.
بشكل عام، يجب أن تكون إدارة الإنفاق العام في سورية جزءاً من إستراتيجية شاملة لإعادة بناء وتنمية الاقتصاد لضمان تحقيق التنمية المستدامة ورفاهية المجتمع.
بالتأكيد كل هذا ليس غافلاً على الحكومة التي تجهد لتعزيز الإدارة المالية وتحسين آليات الإنفاق، بما يحقق التنمية المستدامة، وتعزيز قدرة المؤسسات الحكومية على أداء مهامها بكفاءة عالية، لكن ماذا يحدث في الواقع وكم نحن بعيدون عن المأمول، وما الحلول؟
قبل أيام بحث وزير المالية الدكتور كنان ياغي مع اللجنة المعنية بالهيكل التنظيمي إحداث هيئة عامة للإنفاق، وذلك في إطار خطة عمل مشروع الإصلاح الإداري، وخلال الاجتماع أكد الوزير ياغي أهمية هذه الخطوة في تعزيز الشفافية وتحقيق الفاعلية في الإنفاق العام، وتعاون جميع الأطراف المعنية لضمان نجاح عملية الإصلاح وتحقيق النتائج المرجوة في الوقت المحدد، مشدداً على ضرورة وضع هيكل تنظيمي مرن يسهم في تيسير العمل وتحقيق الأهداف المنشودة للمشروع.
من جانبها قدمت اللجنة توصياتها بشأن الهيكل التنظيمي الجديد، مع التركيز على اعتماد نهج يضمن التوازن بين الكفاءة والمرونة، وضرورة عقد اجتماعات دورية لمتابعة تقدم العمل وتقييم النتائج، مع الأخذ في الاعتبار التحديات التي قد تطرأ وكيفية التغلب عليها.
في لقاء خاص لــ «الاقتصادية» مع الدكتور في الاقتصاد جعفر شعبان أكد الأهمية بل الحاجة الملحة لإحداث هيئة مستقلة مختصة بالإنفاق العام، بدلاً من مديرية ضمن وزارة المالية، وأن الإعداد لإحداث هيئة الإنفاق العام موضوع حيوي جداً ودليل إدراك عميق لأهمية الإنفاق العام ولدوره الاقتصادي، وهنا أشار د. شعبان إلى أن هيئة كهذه تحتاج إلى واقع مختلف من الناحية التنظيمية، فآلية عمل الهيئة تختلف عن المؤسسات بشكل عام حيث تمتلك مرونة أكثر بالعمل ما يساعدها في أداء دورها بشكل أكثر كفاءة، بشرط أن يكون عملها موضوعياً وليست شكل هيئة وفقط، أي أن تكون مبنية على أسس علمية، والأهم ألا يكون من سيعملون فيها مجرد موظفين يؤدون عملاً روتينياً كتوقيع البريد وتصدير ملفات للأعلى أو للأدنى وظيفياً، فهذا الشكل لن يحدث فرقاً، لأن الحديث هنا حول الإنفاق الولاّد للتنمية، وهذا يحتاج إلى العمل بعقلية إبداعية وديناميكية، وبالتالي من الضرورة أن يكون القائمون على مفاصل العمل فيها هم كفاءات اقتصادية تعمل على البعد التنموي عبر الإدراك، بمعنى أن تكون مدركة للبعد التنموي لأي مشروع يراد تمويله ورصد إنفاق استثماري كبير عليه، حيث من الواجب التركيز بالدرجة الأولى على الأبعاد التنموية لكل مشروع بما يسهم بإعادة الإعمار، والنمو الاقتصادي، وتحسين الناتج المحلي، وبالتالي تحسين الواقع المعيشي للمواطن.
الإنفاق على اقتصاد حقيقي بمواجهة العقوبات
وللتوضيح أكثر بيَّن د. شعبان: أنه هنا يجب التمييز بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الخدمي، فالحقيقي هو المبني على الزراعة والصناعة والموارد الموجودة في البلاد، أما الاقتصاد الخدمي ومن ضمنه التجارة بالشكل العام، والخدمات بهذا المعنى لها ضرورة ودور لكن لا يمكنها أن تقود اقتصاداً ونمواً مستداماً، فهي تصنع نمواً اقتصادياً مؤقتاً، ولكن النمو الاقتصادي المستدام يحتاج إلى أسس حقيقية وهذا واضح من اسمه «اقتصاد حقيقي»، بما يحقق بالدرجة الأولى الأمن الغذائي، وهذا بدوره يضمن من جهة أمن مقومات الصمود، ومن جهة أخرى إمكانية التصدير للحصول على عوائد في ظل غياب الواردات من القطع الأجنبي، فتصدير منتج نوعي يحسن من الميزان التجاري ما ينعكس على مؤشرات القطع وسعر الصرف.
د. شعبان لفت إلى أن هناك مفاهيم حديثة اليوم تقوم على الانتقال بالموازنة إلى تحقيق التوازن الاقتصادي، بمعنى آخر أن تترك الأدوات المالية أثرها الاقتصادي على مختلف القطاعات وبالدرجة الأساسية على النمو الاقتصادي أو على الناتج المحلي الإجمالي، مؤكداً أن موضوع الإنفاق العام لأي اقتصاد وطني مُختَلّف حوله اقتصادياً، بين اقتصاديين لا يؤيدون أبداً التوسع في الإنفاق العام لأنه من وجهة نظرهم أن التوسع في الإنفاق العام يؤدي إلى زيادة الانكماش الاقتصادي، ويؤدي إلى تراجع دور القطاع الخاص بشكل واضح في المجال الاستثماري، وهناك رأي اقتصادي آخر وهم أصحاب المدرسة الكينزية الذين يؤيدون تماماً التوسع بالإنفاق العام على اعتبار أن الإنفاق العام يؤدي إلى زيادة الطلب الكلي، وزيادة الطلب الكلي الفعلي تؤدي إلى التنشيط، وبالتالي زيادة الاستهلاك العام، ومن ثم زيادة الإنتاج، فزيادة التشغيل العام وتحريك دورة الاقتصاد الكلي.
تحدي العقوبات، معضلة يواجهها الاقتصاد السوري، وبشكل عام تؤدي العقوبات إلى زيادة التضخم والبطالة، وتقوض قدرة الحكومة على تلبية احتياجات المواطنين وتقديم الخدمات الأساسية، وبالتالي تزيد العقوبات من صعوبة مكافحة الهدر في الإنفاق العام وتقليل تأثيرها.
«التجربة السورية».. الإصلاح الاقتصادي يولد من صميم الاقتصاد السوري
مصادر التمويل بين التحديات والإمكانيات
مع غياب عوائد النفط الذي كان يشكل 70 بالمئة من صادرات سورية، بات ملحاً البحث عن موارد ذاتية وخاصة أن الأمر لم يتوقف عند غياب عوائد هذا القطاع، بل باتت سورية مستوردة وبأسعار عالية جداً، وبالتالي أهم نقطة اليوم هي تأمين التغذية لهذا الإنفاق العام، وفق د. شعبان، الذي أكد أن العقوبات عامل ضاغط على هذا الموضوع لأنه توجد إشكالية بتمويل المشروعات، حيث تكلفة تحويل الأموال من سورية إلى الخارج بموجب اعتمادات مستندية تصل في بعض الحالات إلى 40 و50 بالمئة من قيمة العقد، وهي تكاليف نتيجة العقوبات، حيث تُوضع قيود على التعامل مع المصارف السورية والبنية المالية السورية، وبالتالي تقع التحويلات تحت ضغط مالي كبير للحاجة إلى سلسلة مصارف لعملية واحدة، كما يؤثر ذلك سلباً في موثوقية الشركات التي تخاف من الإجراءات القسرية وتبتعد عن السوق السورية.
وهنا جدد د. شعبان التأكيد على ضرورة إيجاد مصادر تمويل آمنة مستمرة ومستقرة للتمويل، ومن ثم توجيه هذا التمويل للإنفاق باتجاه مشروعات إنمائية ذات بعد اقتصادي طويل المدى وليس حلولاً إسعافية آنية.
وعن مصادر التمويل الآمنة والمستقرة، شدد د. شعبان على أن أدوات الحصول على الموارد داخلياً وخارجياً كثيرة، لكن من وجهة نظره أن التركيز على الموارد الداخلية أكثر أماناً واستقراراً.
ويضيف د. شعبان: سورية تتمتع أيضاً بموقع جيوسياسي – جيوبوليتيكي مرعب، والصراع الدولي على موقع سورية بالجانب الاقتصادي، فمثلاً إحصائية صادرة عن منظمة «الإسكوا» تتحدث عن أنه في ظل الظروف التي مرت على سورية فإن تكلفة تحويل خطوط النقل «الترانزيت» من تركيا إلى الخليج العربي؛ ارتفعت بمقدار 228 في المئة عن الشحن عن طريق سورية، في حين كانت أوروبا تصدّر إلى الخليج العربي بما قيمته 20 مليار دولار براً وكان30 في المئة منها يمر عبر سورية، فسورية تمتلك موارد اقتصادية كبيرة تتعلق بالمواقع ولا ننسى شبكات السكك الحديدية والمرافئ السورية، فمرفأ طرطوس مثلاً مؤهل لأن يكون أفضل مرفأ في الشرق الأوسط.
أثر الإنفاق العام في الاقتصاد يختلف من دولة إلى أخرى، كما يختلف ضمن الدولة الواحدة حسب المرحلة الاقتصادية التي تمر فيها، بهذا بدأ النقاش مع د. شعبان حول الأولويات الاقتصادية لهذه المرحلة، الذي اعتبر أن الحل بالتوجه إلى الأشياء المتوافرة بين أيدينا وإيجاد تجربة اقتصادية خاصة بسورية، حيث ما هو ناجح في اقتصاد معين قد يكون قاتلاً في اقتصاد آخر، وما يصح في زمان معين لا يصح في زمان آخر ولكل مرحلة ظروفها ومقتضياتها ومتطلباتها الداخلية والخارجية وفق ظروف البلاد، لذا وجَب التركيز على بناء اقتصاد طويل المدى وليس النمو المؤقت، وللاقتصاد طويل المدى مقومات أساسية منها تهيئة البيئة (البنى التحتية والأمن الطاقوي)، ومقومات استقطاب العمالة بكل مستوياتها المهنية والفكرية وهذا منبثق من حاجة البلد لهذا الموضوع.
ردم هوة الرواتب والأجور لتوطين رأس المال البشري
أهمية الاستثمار برأس المال البشري، ركّز عليها د. شعبان كأحد مصادر التمويل المستدامة وإلى ضرورة وقف نزيف الهجرة، إذا نظرنا إليها من البعد الاقتصادي، فهجرة العقول ورؤوس الأموال هي عامل استنزاف اقتصادي كبير، ناهيك عن آثارها الاجتماعية، في حين الاعتماد على المساعدات الخارجية يعد مصادر تمويل غير مضمونة الاستمرارية، والأخطر تكاليف الاستدانة المرعبة على المستوى البعيد، حيث الاستدانة من البنك الدولي أو من صندوق النقد الدولي تضاف إلى تكلفتها المالية تكلفةٌ اقتصادية كونه يجب الرضوخ لشروطه، فهو من يحدد المشروعات التي سيقوم بتمويلها، وهذا الموضوع يمسُّ الأمن الاقتصادي وهو أمر غير مقبول في سورية.
وأوضح د. شعبان أن الدولة في مرحلة الانتعاش الاقتصادي بشكل عام تميل إلى تخفيض الإنفاق العام، لكونه في مراحل الانتعاش تكون استثمارات القطاع الخاص موجودة، أما في مرحلة الركود الاقتصادي يكون التوسع في العام هو لتنشيط عجلة الاقتصاد، فعموماً الإنفاق العام يقسم إلى قسمين إنمائي واستثماري، الإنمائي يتضمن الإنفاق على القطاعات الأساسية مثل الصحة والتعليم وما يتعلق بجوانب الدفاع والقضاء، وأحد أهم بنوده هي الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية، ويعتبر هذا الموضوع الشق الضاغط بشكل كبير على موضوع النفقات الجارية، والشق الثاني هو ما يتعلق بالنفقات الاستثمارية (الإنفاق الاستثماري) التي تتعلق بمشروعات البنية التحتية، والتوسع فيها يعكس دور الدولة بشكل عام، وأن إجمالي الإنفاق بشقيه الاستثماري والجاري يعكس حجم الدور الاقتصادي للدولة.
أحد الحلول لتحسين أداء الإنفاق العام الصحيح هو الحفاظ على الطاقة البشرية أو رأس المال البشري يجيب د. شعبان: بالتأكيد الاستثمار برأس البشري هو أحد أهم عوامل الاستثمار بشكل عام، وهذا مؤشر معروف عالمياً، وكثيرة هي الدول التي شهدت نهوضاً اقتصادياً عبر الاستثمار برأس المال البشري، مثل سنغافورة والنمور الآسيوية، وهنا نؤكد أن أهم خطوة في هذا الاستثمار هي توطين العقول، وتهيئة الأجواء المناسبة لبقائها، والجميع يعلم أن أسباب هذا النزوح وهذه الهجرة هو الوضع الاقتصادي بشكل أساسي، والبعد الاجتماعي له هنا جانب كبير من الأهمية، فالاغتراب ليس ترفاً بل بدافع اقتصادي بحت، وهنا نلاحظ أن دولاً عدة في العالم جاهزة بخطط واضحة وسياسات منهجية لاستقطاب الكفاءات عبر منح تسهيلات لكل أنواع الكفاءات وبكل العلوم.
وعن تحديد النظرة الاقتصادية للموارد البشرية، يوضح أن رأس المال البشري الكفوء مؤشر نهائي على مستوى الاقتصاد الدولي لتنمية مستدامة، فخلو أي اقتصاد من الموارد البشرية الكفوءة النوعية المتخصصة، التي تمتلك معيارين أساسيين بالعمل: الأول معيار الكفاءة المتعلق بالتخصص العلمي ومدى التأهيل والتخصص، والثاني المعيار الأخلاقي والقيمي بامتلاك أخلاقيات العمل وأخلاقيات المهنة ومدى الشعور بالمسؤولية والانتماء إلى لمؤسسة أو المنظمة التي يعمل فيها.
وحول اعتبار ذلك إحدى الملاحظات على أداء الإنفاق العام للحكومة، يرى الدكتور شعبان أن أداء الإنفاق العام فيما يخص بند الرواتب والأجور لا يعكس الواقع ولا يساعد بتوطين رأس المال البشري، وضعف الرواتب والأجور في القطاع العام انعكس أيضاً ضعفاً على رواتب القطاع الخاص، ويمكن الذهاب أبعد من ذلك فقد أثر حتى في أجور العمالة السورية في دول الجوار.