وزيرة سابقة لـ «الاقتصادية»:الاقتصاد السوري مُنهك ويمر بمرحلة حرجة جداً
| بارعة جمعة
انحسارٌ في ملف الأزمة حمل معه تطلعاتٍ كثيرة نحو مسارات جديدة للاقتصاد المحلي، بعد التخلي عن مخاوف الحرب العسكرية، التي خلفت آثاراً اقتصادية لا يمكن التغاضي عنها، وسط تراجع مُخيف بالقدرة الشرائية ومستوى الدخل للفرد، إلا أنه على الرغم من أن مستويات المواجهات في جميع أنحاء سورية أصبحت منخفضة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سنوات قليلة، فإن الأزمة التي تمر بها البلاد تبدو بعيدة عن خط النهاية، ولاسيما المعيشية منها، التي تُلامس حياة المواطن وتؤثر فيه تأثيراً مُباشراً، ينعكس بالضرورة على نشاطات الاقتصاد بكل مكوناته.
تراجع الإنتاج
حالةٌ من التخلي عن المنتج المحلي تواجه اقتصادنا المحلي، هي ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة أزمات مترابطة ومتشابكة أدت به إلى الحالة الأسوأ اقتصادياً وهي «الركود التضخمي»، وفق قراءة وزيرة الاقتصاد سابقاً الدكتورة لمياء عاصي لمسارات الاقتصاد اليوم، الذي يترافق مع ارتفاع الأسعار العام وانخفاض القدرة الشرائية، لتغدو هذه الحالة الأكثر خطورة بوجود أزمات أخرى إلى جانبها، أهمها: حوامل الطاقة بأنواعها، لدورها الرئيسي في التأثير على الإنتاج سلباً، الذي بدوره ساق إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدل التضخم.
يتزامن هذا التراجع مع احتلال منابع النفط وخروجها عن سيطرة الدولة، الذي حرم السوريين من موارد مهمة، كانت تشكل نحو 30 بالمئة من الموازنة العامة، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية وقانون «قيصر»، هذه العوامل السياسية أثرت سلباً على الاقتصاد السوري برأي د. عاصي، مؤكدة بالوقت ذاته وجود مساحة كبيرة للتعامل مع مفردات الاقتصاد السوري الوطني لتحقيق النهوض الاقتصادي والخروج من هذا النفق المظلم، الذي يتطلب إجراءات استثنائية للتعامل مع اقتصاد مُنهك ويمر بمرحلة حرجة جداً.
النهوض مُجدداً
إلا أن تطوير آليات الإنتاج التي تمت مُناقشتها مراراً وتكراراً تتطلب توافر عدة عوامل وفق رؤية د. عاصي، أهمها: استقرار التشريعات المالية والاقتصادية والنقدية الناظمة، ليتمكن المنتج أو المستثمر من التخطيط لأعماله الإنتاجية، بعيداً عن عنصر المُفاجأة الذي تحمله القرارات الجديدة كل يوم، إضافة لتأمين مشتقات الطاقة ومدخلات الإنتاج بشكل مستمر، ومنح التسهيلات الائتمانية من البنوك العامة والخاصة لمصلحة المشاريع الإنتاجية، بموازاة ذلك، إزالة العراقيل والتعقيدات الإدارية التي تواجه تأسيس وتشغيل المنشآت الإنتاجية.
ماذا يعني ذلك تتساءل د. عاصي.. وتُضيف: «المطلوب اليوم هو مستوى أعلى من الانفتاح إلى الخارج والتساهل في تطبيق الأحكام والشروط الإدارية مع التشدد في تطبيق المعايير العالمية للسلامة ولجودة المنتج»، الذي يتطلب وجود أسواق مناسبة للمنتجات الوطنية، وهو العامل الأكثر أهمية بنظرها، لأنه في حال اعتماد هذه المنتجات على السوق الداخلي، علينا تمكين القدرة الشرائية بالفعل لا القول، بما ينعكس في تحريك الطلب على السلع بشكل عام.
تعديل السياسات
أهم هذه الإجراءات وفق رؤية الدكتورة لمياء عاصي هي إزالة التناقض بين السياسات العامة والإجراءات أو القرارات الصادرة عن الحكومة، التي بدت جلية في إعلان الحكومة سابقاً وبشكل واضح وحاسم أن الإنتاج هو السبيل الوحيد لتحقيق النهوض الاقتصادي، وتقرر بعدها بأن الحفاظ على مستوى المياه الجوفية بات أهم من زراعة القمح بمساحات كافية لإنتاج الكمية المطلوبة للاستهلاك، لتأتي بعدها خطوة تسعير القمح بشكل غير مشجع على زراعته، ليبدو بعدها أن اللجوء إلى «استيراد القمح» هو الحل الوحيد، على الرغم من شح الموارد «الدولارية» للدولة، هنا نلاحظ التناقض في تحديد الأهداف والإجراءات المتخذة لتنفيذها.
على المقلب الآخر من المشهد، تدعو الحكومة الصناعيين وغيرهم إلى اللجوء للطاقات المتجددة والبديلة لتوفير احتياجاتهم من الطاقة الكهربائية، ثم تصدر قراراً بفرض «ضميمة» على ألواح الطاقة الشمسية، مبررة القرار بحماية الإنتاج المحلي، مع العلم بأنه لا تُفرض ضميمة على الأقمشة المستوردة، على الرغم من وجود الكثير من معامل الأقمشة؟!، وفق تأكيدات د. عاصي، ولنفرض أننا نقوم بحماية الصناعات الناشئة، لماذا تم فرض ضميمة على السكر المستورد قبل أسابيع؟، وهو صناعة قديمة وليست ناشئة!، وتُضيف عاصي: «هي أسئلة تبقى من دون إجابات».
خسارات مُتلاحقة
واقعٌ لا يخفي نفسه، ولا يمكن إنكاره وسط التراجع الحاصل في القطاع العام الذي بات خاسراً اقتصادياً منذ عقود طويلة برأي د. عاصي، كما أن معظم شركاته تسجل خسارات سنوية، سببت نزيفاً حاداً للخزينة العامة للدولة، آخذةً من التقرير الذي أصدره الجهاز المركزي للرقابة المالية عن الوضع المالي للشركات المملوكة للدولة، والذي أوضح أن خسائرها بلغت تريليون و778 ملياراً و151 مليون ليرة، خلال خمس سنوات مالية من 2007 – 2011، ما يكافئ 37 مليار دولار حسب سعر الصرف في تلك السنوات، مثالاً على ذلك، ما يعكس حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري اليوم.
ومع ذلك.. بقي متخذو القرار متحفظين جداً في موضوع الخصخصة وفق رؤية د. عاصي، بسبب السمعة السيئة للخصخصة والتجارب المحاطة بكثير من الفساد ونهب المال العام.
فيما لصدور قانون التشاركية عام 2016، وصدور القانون 3 لعام 2024 الخاص بتحويل الشركات المملوكة للدولة إلى شركات عمومية كمحاولات لمعالجة وضع القطاع العام، نوعٌ من التأجيل برأيها، لكون تنفيذ هذه القوانين يرتبط بسياسات أخرى للحكومة، قد تحتاج وقتاً لإثبات فعاليتها أيضاً.
وفي أكثر الملفات الشائكة التي تتطلب النظر إليها وتعديلها، تُقدم الدكتورة لمياء عاصي وجهة نظر في ملف الدعم، الذي أخذ إجراءات عدة لتخفيض فاتورته، ومعالجة العجز المالي في الموازنة العامة للدولة، عبر تقليص الفئات الاجتماعية المشمولة به وخفض عدد السلع المدعومة، ليبقى الدعم النقدي برأيها الحل الأنسب ويحتاج إلى آليات صحيحة لتحديد المستحقين للدعم بالاستناد إلى قاعدة بيانات دقيقة يتم تحديثها باستمرار.
آخذةً من إعلان برنامج الغذاء العالمي بأن 12,3 مليون شخص في سورية يعانون من انعدام الأمن الغذائي، والتي تعني أن نسبة عالية جداً من السكان تستحق الدعم، إذا تم الاعتماد على نظام شبكات الرعاية كآلية موجودة في كثير من الدول، لدعم الطبقات الهشة، تأكيداً على ضرورة تشكيل نظام شبكات الرعاية كآلية موجودة في كثير من الدول، إلا أن تكلفتها عالية جداً ومن غير الممكن تمويلها حالياً، في ظل العجز الحاصل بالموازنة العامة للدولة، ووسط تردي الواقع الاقتصادي الحالي.
تفعيل التشاركية
كثُر الحديث عنها والجدل حولها مؤخراً، وبين مؤيدٍ للفكرة ومشككٍ بها، قدمت الدكتورة لمياء عاصي شرحاً مُبسطاً لمبدأ عمل التشاركية، التي هي عبارة عن الاتفاق بين الحكومة والقطاع الخاص لتنفيذ مشروع معين، حيث يتشارك الطرفان تحمل مخاطر التمويل والمخاطر العامة الأخرى، إضافة إلى توزيع الإيرادات الناجمة عن التشغيل ولمدة محددة، وذلك حسب عقد معين، وقد تم تشميل مبدأ التشاركية في مشروعات المرافق العامة والبُنى التحتية الهادفة إلى الخدمة العامة، كمشروعات الطرق والكهرباء والمياه وغيرها، فيما استثنيت صراحةً عقود استكشاف واستثمار الثروات الطبيعية، مثل النفط والعقود التي يبرمها القطاع العام، حسب أحكام القانون 51 لعام 2004، وذلك حسب المادة 2 من القانون رقم 5 لعام 2016، أما المشاريع التي لم يأتِ على ذكرها القانون، فهي كل ما يخص مشاريع الإسكان والمدن الصناعية.
بينما الغاية منها وفق رؤية د. عاصي، هي وضع قانون لتتمكن الدولة من استخدام كل الموارد المتاحة في البلد، سواء كانت تابعة للقطاع العام أم الخاص، لرفع كفاءة الاقتصاد وتحقيق التنمية الاقتصادية، كما أنها الوسيلة الوحيدة التي تُمكن الدولة من تنفيذ المشاريع الكبيرة، من دون الضغط على الموازنة العامة للدولة.
تحديد الوجهة
في العودة مجدداً إلى السؤال الجوهري، إلى أين يتجه الاقتصاد السوري؟؟؟.. تؤكد د. عاصي بأن الاقتصاد السوري الآن على مفترق طرق، إما الاستمرار بالتناقض والتخبط ومن ثم الدوران في نفس الحلقة المفرغة من العجز المالي والتضخم وانكماش الناتج المحلي الإجمالي، وإما تحقيق النهوض الاقتصادي، الذي يستلزم إزالة التناقض بين السياسات المُعلنة للحكومة والإجراءات المُتخذة من قبلها، وهو ما أشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد في الاجتماع الموسع مع اللجنة المركزية بقوله: «سياساتنا تقول إننا مع الفقراء ولكن الإجراءات والقرارات تعمل ضدهم»، يُضاف لذلك، تأمين الاستقرار في بنية التشريعات المالية والنقدية والاقتصادية، ليتمكن الصناعيون والتجار والقائمون على الأنشطة الاقتصادية المختلفة من تخطيط أعمالهم.
فالحديث اليوم عن العدالة الاجتماعية، يعني أن كل الناس لهم حقوق متساوية في الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل وهذه الحقوق يضمنها الدستور، إلا أن التحديات الاقتصادية الكبيرة أثرت عليها، فباتت ظواهر مثل «الاحتكار وسوء توزيع الثروة»، تنتشر وتؤثر سلباً في مستوى العدالة الاجتماعية برأي الدكتورة لمياء عاصي، ولاسيما بعد تدني القدرة الشرائية لعموم الناس، ليبقى الحل والمسار الوحيد لنا هو تحقيق النهوض الاقتصادي، الذي سيؤدي بالنتيجة إلى رفع حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتحسين وضعه المعيشي الاقتصادي.