يعمل التأمين وفقاً للعديد من المبادئ والقواعد التي لا يستقيم هذا العمل دونها، ولا تقوم له قائمة من دون احترامها والالتزام بها من أطراف العملية التأمينية كافة.
إن الإخلال بأيّ من هذه المبادئ أو أي جزئية منها قد يحمل في طياته نية الاحتيال من أحد طرفي العقد (المؤمن له أو شركة التأمين) وربما من مقدم الخدمة التأمينية أيضاً (وكيل، وسيط، مندوب، شركة إدارة نفقات طبية….) ما يستلزم اتخاذ الكثير من الإجراءات والضوابط التي تحدّ من هذا الأمر وتجعله في أضيق حدوده وأشكاله وقيمه.
كثيراً ما يُستخدم مصطلح سوء الاستخدام كبديل عن مصطلح الاحتيال «ومحاولة لتلطيف» بشاعة هذا الفعل، كما الكثير من القيم السلبية في مجتمعاتنا، إن الاحتيال في التأمين أصبح ظاهرة عالمية وموجودة في أكثر بلدان العالم تطوراً من الناحية الاقتصادية والتأمينية، ولسنا بمنأى عن هذه الظاهرة كما أننا لا نتفرد بها، وكثيراً ما تلصق تهمة الاحتيال بالمؤمن له فقط، بينما واقعها يقول بأن جميع الأطراف يمكن أن تتورط بها وتمارسها تجاه بعضها بعضاً.
كما لا يوجد مقياس محدد لحجم وقيمة الخسائر الناتجة عن الاحتيال، ولا يتعدى الأمر حالة التقديرات المتفاوتة لذلك، من بلد لآخر، بل من جهة لأخرى ضمن البلد الواحد.
للاحتيال آثار سلبية كبيرة على قطاع التأمين، وبشكل خاص على شركات التأمين، إذ إنه يسبب زيادة في خسائرها عن الحدود المتوقعة والمدروسة وفق قدرتها على تحملها والتي تبني سياساتها الاكتتابية والاستثمارية وفقاً لها، كما أن الاحتيال يجبر شركات التأمين في سبيل مواجهته على اتخاذ الكثير من الضوابط التي تزيد من نفقاتها، وتؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث ضجر وامتعاض من كبار العملاء، بل قد تخسرهم الشركة نتيجة عدم قبولهم لهذه الإجراءات واعتبارها من قبيل انعدام الثقة بهم، كما تبذل الجهات الرقابية على قطاع التأمين في مختلف بلدان العالم جهوداً كبيرة في مواجهة الاحتيال سواء من الناحية التشريعية أم الإجرائية.
هو بحث طويل جداً في الاحتيال، أسبابه، دوافعه وطرق الوقاية منه وصولاً إلى معالجته، إلا أننا وفي إطار عزمنا الإيجاز هنا، سنقدم أمثلة واقعية عن الاحتيال في التأمين، من خلال تصنيف حالات الاحتيال وفقاً لارتباطها بخرق واحد أو أكثر من مبادئ التأمين، بحيث نصل تلقائياً إلى الإجراءات الممكنة للحدّ من هذه الظاهرة.
أولاً: المصلحة التأمينية: هذا المبدأ يعني أن يكون لطالب التأمين مصلحة مباشرة في الشيء موضوع التأمين، بحيث يتضرر بتضرره، وينتفع ببقائه سليماً، فلا يستطيع أحد أن يطلب تأمين منزل جاره ضد الحريق، إذ لا مصلحة له في هذا المنزل، بينما يستطيع مصرف أن يطلب تأميناً على حياة مقترض، لأن المصرف متضرر من وفاة المقترض ومنتفع ببقائه حياً بهدف ضمان استرداد قرضه…. والأمثلة تطول هنا.
ومن باب النية بالاحتيال، قد يلجأ طالب التأمين إلى ادعاء مصلحته في الشيء موضوع التأمين، ليقوم بتأمينه ثم يتعمّد الإضرار به للحصول على التعويض، وقد يكون خرق هذا المبدأ هو أقل مظاهر الاحتيال في التأمين نتيجة اعتماد إجراءات واضحة من شركات التأمين لضمان وجود المصلحة التأمينية والتأكد منها.
ثانياً: منتهى حسن النية: ويعني أن يلتزم طرفا التعاقد (طالب التأمين والشركة) باعتماد أقصى درجات الشفافية والإفصاح في التعامل بينهما، بحيث يدلي طالب التأمين بجميع الحقائق والأمور المتعلقة بالخطر المراد تأمينه، والعوامل المؤثرة فيه، سواء سُئل عنها أم لم يُسأل، وكذلك اعتماد حسن النية عند المطالبة بتعويض عن حادث.
كما تلتزم الشركة بشرح وإيضاح شروط العقد كافة (وبشكل خاص تغطياته واستثناءاته) من دون أي إبهام أو وجود لعبارات حمالة أوجه.
وهنا يكمن الكثير من حالات الاحتيال من خلال قيام طالب التأمين بإخفاء حقائق جوهرية أو تضليل للشركة عند معاينتها الخطر قبل تأمينه، كما في حال إخفاء عيوب سيارة، أو عدم الاعتراف بأمراض موجودة سابقة لتاريخ التأمين، عند التأمين صحياً أو تأمين الحياة.
كما أن الشركة قد تتعمد وضع شروط عقدية تسمح لها بالتهرب من سداد التعويض من دون تنبيه طالب التأمين عليها، أو وضعها بطريقة غير واضحة بخط صغير أو وضع عبارات تحمل أكثر من معنى، أو لجوئها إلى تخفيض أسعار التأمين عن سواها من الشركات في إطار المنافسة، من خلال تخفيض القيمة التأمينية أو رفع نسبة تحمل المتضرر من كل حادث من دون أن يتم تنبيه المؤمن له إلى اختلاف شروط التعاقد مع انخفاض السعر، واستغلال ضعف ثقافته التأمينية في ذلك.
أما الجانب الآخر الشديد الخطورة هنا، فهو ادعاء حادث غير موجود، كما في حال المطالبة بتعويض عن سرقة غير حاصلة أصلاً، أو عن أضرار سيارة نتيجة حادث غير موجود، أو استخدام بطاقة التأمين الصحي لشراء مواد وحاجات مختلفة، أو الادعاء بوجود المرض، واستخدام وصفة طبية وهمية لهذا الهدف، أو من خلال إعارة بطاقة التأمين لشخص آخر غير المؤمن عليه، وهو ما يمثل جزءاً كبيراً من حالات الاحتيال في التأمين الصحي في سورية، وبشكل خاص في التأمين الصحي للعاملين في الدولة.
ثالثاً: السبب القريب (المباشر): ويعني أن يكون السبب المباشر للخسارة (الناشئة عن الحادث) مغطى ضمن وثيقة التأمين وغير مستثنى.
والسبب المباشر يمكن ألا يكون السبب الأول أو الأخير في سلسلة أحداث أدت بالنهاية إلى الخسارة، وإنما هو السبب الأكثر فعالية ضمن هذه السلسلة من الأحداث.
وفي هذه الحالة يحصل الاحتيال إذا عمد المؤمَّن له (المتضرر) إلى تضليل شركة التأمين وادعاء سبب للحادث مغطى ضمن وثيقة التأمين، بينما واقع الحال أن السبب مستثنى، كما في حال افتعال حريق مستودع وادعاء أن الحريق سببه ماس كهربائي، والعكس صحيح عندما تصرّ شركة التأمين على عدم سداد تعويض بحجة عدم شموله بالعقد، علماً أن هذا الاحتمال أقل وروداً لأن عبء إثبات تغطية الخطر بالوثيقة يقع على عاتق المؤمن له.
رابعاً: مبدأ التعويض: ويتضمن إعادة المؤمن له إلى المركز نفسه (الوضع) المادي الذي كان عليه قبل وقوع الحادث بلحظة، من دون زيادة أو نقصان، وفقاً لتغطيات وشروط عقد التأمين، وبالتالي لا ينطبق هذا الشرط على تأمينات الحياة والحوادث الشخصية التي تسمى تأمينات منفعية، وبمعنى آخر «لا إثراء على حساب التأمين».
وهنا تكمن مشكلة المشاكل والموطن الأساسي للاحتيال، حيث نعتقد أن خرق مبدأ التعويض من خلال تضخيم قيم التعويضات المستحقة يمثل النسبة الأكبر من قيمة التعويضات الناتجة عن الاحتيال في أغلب فروع التأمين في سورية، حيث يلجأ المتضرر إلى تضخيم قيم فواتير إصلاح سيارته المتضررة، أو زيادة عدد وأصناف الأدوية في الوصفة الطبية بالتنسيق مع مقدم الخدمة الطبية، أو زيادة نسب العجز الناتجة عن الحادث ومدد التعطل عن العمل بالتنسيق مع الطبيب الشرعي.
خامساً: المشاركة: ويعني مشاركة عدة وثائق تأمين (في شركة واحدة أو عدة شركات تأمين) بتغطية خطر معين، ففي حال وقوع الخطر وتحقق الخسارة فإن المتضرر يحصل على مبلغ تعويض واحد (كل شركة وفق حصتها من تغطية الخطر) بحيث لا يحصل على أكثر من تعويض، إذ لا إثراء على حساب التأمين، وبطبيعة الحال لا ينطبق هذا المبدأ على التأمينات المنفعية التي ذكرناها آنفاً.
إلا أنه يحصل أحياناً ألا تعلم شركة التأمين بوجود وثيقة تأمين لدى شركة أخرى تغطي الخطر نفسه، ويتعمد المتضرر عدم الإبلاغ بذلك، بهدف الحصول على أكثر من تعويض.
سادساً: مبدأ الحلول: تحل شركة التأمين محل المتضرر (بعد تعويضه) في ملاحقة مسبب الضرر لتحصيل قيمة الخسارة منه، والأصل هنا أنه إذا حصلت شركة التأمين من مسبب الضرر على مبلغ يفوق ما سددته إلى المتضرر أن تقوم بسداد هذه الزيادة إلى المتضرر، إلا أنه قد يحصل أحياناً ألا تلتزم شركة التأمين بذلك، وهو ما لا نعتقد بحصوله في سورية، على الأقل خلال السنوات الأخيرة، بل على العكس، فإنه في حالات كثيرة لم تستطع شركات التأمين تحصيل ما سددته للمتضرر.
كما قد يحدث احتمال آخر للاحتيال هنا، بأن يحصل المتضرر على تعويضه من شركة التأمين، ونتيجة إهمال معيّن من الشركة، لا يقوم بحوالة الحق إليها في الرجوع على المتسبب، فيقوم برفع دعوى قضائية على المتسبب بالضرر للحصول على تعويض آخر.
هذا باختصار، بعض من أوجه الاحتيال في التأمين، حيث هناك الكثير من طرق الاحتيال التي يعتمدها مختلف أطراف العملية التأمينية بهدف تحقيق مكاسب (أهمها المادية).
إننا نعتقد أن الخبرة التي تمتلكها أي شركة تأمين وبشكل خاص من خلال (المكتتبين لديها، معاين الأخطار قبل تأمينها، خبراء ومسوّيي الخسائر، موظفي المطالبات…) إضافة إلى مقدمي الخدمات التأمينية (وكلاء، شركات إدارة نفقات طبية …..) هذه الخبرة كفيلة بالحد وبشكل كبير من عمليات الاحتيال ضد شركات التأمين، إلا في حال وجود مصلحة لهذه الأطراف في إساءة استخدام التأمين، كأن يكون لموظف الاكتتاب أو المطالبات أو شركة إدارة النفقات الطبية نسبة (عمولة) من عقد التأمين الذي يبيعه أو يسهم في تسويقه، وبالتالي تتكون لديه المصلحة الخاصة في تجديد هذا العقد، يتبعها مصلحته في تسهيل حصول حامل العقد على تعويضات غير مستحقة من شركة التأمين (وهو صاحب قرار في منح هذه التعويضات أو لديه تأثير في صاحب القرار)، الشيء ذاته ينطبق إذا حصلت شركة إدارة النفقات الطبية على نسبة من الفواتير الطبية التي تقوم بتدقيقها.
إن العديد من الممارسات التأمينية الخاطئة في سوقنا، والتي تحولت إلى عرف «يستصعب» الجميع الرجوع عنه، كانت أحد أسباب وجود الاحتيال.
بالمحصلة، ومما سبق، فإن أي حالة احتيال تتطلب لإتمامها تعاون عدة أطراف، وهو ما قد يظهر كأمر سلبي بشكل عام، إلا أن توافر الإرادة لضبط هذه الحالات، تجعل من تعدد الأطراف فيها أمراً إيجابياً لجهة إمكانية اكتشافها وضبطها والوقاية منها.
إن العمل على إلغاء تضارب المصالح بين الأطراف المتداخلة في العملية التأمينية (شركات، مقدمو خدمة تأمينية، مقدمو خدمة طبية، مؤمن لهم ومتضررون) هو نقطة البداية في مواجهة الاحتيال، فمتى وجدت المصلحة المشتركة في حصول التعويض وتضخيمه، وجد الدافع المادي للاحتيال، وهو ما يجب تركيز الجهود بهدف إلغائه، بغض النظر عن الدوافع الأخرى للاحتيال.