إدمان الرّاحة.. مُضِرّ للصحّة
| بقلم: طلال أبو غزالة
من الأمراض الخطيرة التي شاعت في العالم ووطننا العربي مرض «إدمان الراحة». وللتأكد من هذا ما عليك سوى أن تسير في الشارع لترى أعداد روّاد المقاهي، وتراقب عدد الساعات التي يقضونها هناك. ولو لاحظت كيف يتعامل بعض من يرتبطون بعمل وظيفي محدود الأجر مع العطل الأسبوعية والموسمية، لأدركت أن أغلبية هؤلاء لا ينظرون لهذه الإجازات على اعتبارها فرصة لإنجاز عمل آخر لزيادة دخلهم، بل هم يقضون معظم الإجازة أمام الشاشة أو في المقهى، حيث ينفقون المزيد من الوقت والمال على ما لا طائل تحته. ولا يقتصر شيوع هذا المرض بين من يمارسون الأعمال التي تتطلب جهداً بدنياً فحسب، بل بين من يبذلون جهوداً ذهنية أيضاً.
من مظاهر مرض «إدمان الراحة» انتشار تصورات خاطئة حول فكرة التقاعد. خلال مسيرتي العملية، لطالما سمعت أشخاصاً في مقتبل الأربعينيات يرددون كلاماً من قبيل أنهم قد أشرفوا على تكوين ثروة تمكنهم من التقاعد مبكراً. هؤلاء لم يقصدوا بكلامهم هذا مجرد التوقف عن العمل الوظيفي. بل قصدوا التوقف عن العمل كله للتنعم بحياة الرفاه والترفيه. كانوا يظنون أنهم بهذا الكلام يبهرون من حولهم بقدرتهم على الثراء. ولطالما شعرتُ أن من يقول ذلك لديه مشكلات مضاعفة.
إنني أرى أن من يبلغ الستين ويتقاعد عن العمل من دون عذر صحي فهو شخص يفتقر إلى الفهم الصحيح للحياة. المرء يشعر بالحياة لأنه يمارس الحياة، وهو يمارسها بالعمل. أما التقاعد فيخرجه من الحياة. هل من المصادفة أن المقاطع الصوتية التي تتكون منها كلمة متقاعد هي «مُت» و«قاعِد». أي «مت وأنت قاعد»؟. لذا أقول، لا تتوقف عن العمل ما دمت حيّاً. لا تتوقف أبداً لأن العمل يعطي حياتك معنى وهدفاً من دونهما تصبح الحياة فارغة. وكما أن قلبك لا يتوقف عن النبض، لا تتوقف عن العمل. الراحة الزائدة مضرة للصحة. ولا يجوز للإنسان أن يستريح، فالعقل لا يحتاج إلى راحة، وإذا استشعرتَ حاجةً للراحة فكلّ ما عليك القيام به هو مباشرةُ عملٍ آخر.
إن أمام من يبلغ الستين فرص عمل من نوع آخر غير العمل الوظيفي بصورته المتعارفة. وبسبب التحولات الرهيبة في الاتصالات والمعلومات، واستخدام الإنترنت، أصبحت فرص العمل غير التقليدي متوافرة ومربحة.
أما بالنسبة لمن يتحدثون عن التقاعد الكامل أي بمعنى التوقف عن العمل بكل صوره وهم في الأربعينيات أو حتى فوق ذلك، فهؤلاء يحتاجون إلى أن يعيدوا تعلم معنى الحياة والعمل.
على المستوى النفسي، أنت لن تستطيع أن تستمتع بالنوم في ليلك إلّا إذا تعبت بالعمل في نهارك. إن لدى كل إنسان جهاز استشعار غير مرئي يقيس درجة عطائه بالنسبة لقدرته على العطاء. وعندما يأتي الليل، يقدّم جهاز الاستشعار هذا إفادته للإنسان ليبين له نسبة عطائه مقابل قدرته على العطاء. ومهما كان الإنسان ماهراً في خداع غيره، فإنه لا يستطيع خداع نفسه خداعاً كاملاً. لذلك، ولدى حصوله على درجة متواضعة، ينتابه تأنيب الضمير ومشاعر الذنب والقلق. حيث يخبره جهاز الاستشعار أنه مقصّر، وكان باستطاعته فعل المزيد.
وقد تستبد به هذه المشاعر بفعل التكرار. حتى إذا اعتاد ذلك، فلن يسعه سوى الاستمرار في إلقاء اللوم على نفسه. هنا يتحول المرء إلى مدمن للكسل. والكسل أمر يمكن أن يدمنه الإنسان، وعندها يتحول تزايد اللوم الذاتي إلى إدانة دائمة للذات، تُجَرّد المرء من احترام ذاته لما يتحول إلى مرض نفسي. من هنا نجد الأمراض النفسية أكثر شيوعاً بين الكسالى. إن من يتسامح مع نفسه في التكاسل لدقائق كل يوم فسيتسامح مع نفسه في التكاسل أغلب وقته بعد سنوات. فالكسل داء قاتل يحدث أثره على نحو تراكمي وعلى المدى البعيد.
وفضلاً عن حاجتنا لتصحيح المفاهيم الخاطئة حول الراحة، نحن بحاجة إلى تعزيز فهمنا لأهمية بذل الجهد الإضافي. لا يكفي أن نطالب أنفسنا بأداء الجهد المطلوب منا سواء على مستوى الدراسة أم على مستوى العمل. علينا أن نطالب أنفسنا ببذل جهد إضافي قبل أن ننتظر غيرنا ليطلبه منا. يجب أن نبادر من تلقاء أنفسنا ببذل الجهد الإضافي، حتى وإن لم يطالبنا غيرنا بذلك. إن ثقافة الجهد الإضافي تحتاج إلى الترسيخ في عالمنا العربيّ تحديداً.
ومن تقدّموا في حياتهم العملية هم الذين قاموا بأكثر من المطلوب. لذلك، تجدني أكرر في أحاديثي المقولة التي مفادها أنك إذا عملت أكثر من قيمة أجرك، فستجد مستقبلاً أن أجرك أصبح أكبر من قيمة عملك. السعداء أكثر إنتاجاً في أعمالهم: يُسعِدون الآخرين بالعمل معهم، ويُسعَدون بالعمل مع غيرهم، وهم الأكثر إبداعاً في حل المشكلات. لقد قررت على المستوى الشخصي، أن ما يساعدني أكثر من أي شيء في حياتي، ليس كم سأعيش بل كم أستطيع أن أعمل أثناء حياتي.