هل إستراتيجية المركزي مبهمة..؟ شهادات الإيداع بالليرة السورية.. ما لها وما عليها؟
علي محمود محمد
الهدف النهائي من تبني أي سياسة نقدية في اقتصاد ما هو الحفاظ على استقرار الأسعار وعلى القوة الشرائية للعملة الوطنية، وهذا يعني في الأدبيات الاقتصادية أنه يجب على راسمي السياسة النقدية العمل على تحقيق هذا الهدف النهائي باستخدام الأدوات المتاحة لهم، كما أن السياسة النقدية في بعض الدول تقوم بوضع حدود ثابتة لمعدل التضخم بين 1% إلى 4% سنوياً حيث تختلف هذه النسبة المستهدفة من بلد لآخر حسب طبيعة كل بلد ودرجة تطوره النقدية والمالية، أي إن الحفاظ على معدل تضخم منخفض وثابت هو هدف أساسي ونهائي لأي سياسة نقدية، وهذا الأمر يفرض على صاحب القرار النقدي الإحجام عن سياسة التمويل بالعجز لكونها تسهم بزيادة العرض النقدي نظراً للعلاقة الطردية بين المستوى العام للأسعار والعرض النقدي، حيث تنعكس آثار العرض النقدي مباشرةً في المستوى العام للأسعار وهذا ما اتفقت عليه مختلف النظريات الاقتصادية، وبالطبع فليس العرض النقدي هو السبب الوحيد والأوحد لعدم استقرار المستوى العام للأسعار بل إن للاحتكار أثراً مهماً، وكذلك لرفع الضرائب وما قد تسببه من انخفاض معدل نمو الناتج الحقيقي دور في ذلك أيضاً، يضاف إلى ذلك المضاربات التي قد تحصل بعملة البلد وما يستتبعه ذلك من انخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية وتأثيرها المباشر في أسعار المستوردات ومعدل التضخم بشكل عام.
ومن ذلك يمكن القول، إن أي توجه للسياسة النقدية لمحاربة التضخم لن يتم إلا وفق سياسة نقدية إنكماشية تسهم في تخفيض العرض النقدي (أحد المتهمين بإشعال فتيل التضخم)، وهذا يوجب على صناع السياسة النقدية صوغ إستراتيجيتهم بشكل واضح وتحديد أهدافها والأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وهنا تكمن المشكلة في سورية وسواها من الدول النامية، فإتباع سياسة نقدية فعالة يتطلب جهازاً مصرفياً متطوراً وأسواقاً مالية فعالة تساعد المصرف المركزي في تحقيق أهدافه بإتباع أدواته التي يملكها.
اليوم وبعد 8 سنوات من الحرب لا يخفى على أحد ما أصاب الاقتصاد السوري من ضرر شديد بقطاعاته كافة وارتفاع المستوى العام للأسعار لمستويات غير مسبوقة وتدهور سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي لأرقام لم تعهدها القوة الشرائية لليرة إضافة إلى توقف الإنتاج، وبالمقابل لم تستطع السياسة النقدية في سورية تحقيق أهدافها النهائية المتمثلة بالمحافظة على القوة الشرائية لليرة السورية وتنمية السوق النقدية والمالية وتحقيق استقرار سعر الصرف الخارجي للنقد السوري (كما ينص قانون النقد الأساسي رقم 23 لعام 2002 في المادة الأولى منه) طوال سنوات الحرب الماضية لأسباب بعضها خارج عن إرادة المصرف المركزي نتيجةً للحرب ومفرزاتها.
وفي هذا السياق فقد أصدر مصرف سورية المركزي القرار رقم (102/م ن) بتاريخ 22/07/2018 والخاص بنظام شهادات الإيداع بالقطع الأجنبي وذلك بعد الاجتماع الذي نوقش فيه واقع السياسة النقدية وسعر الصرف وانعكاساته على حركة الإنتاج والاستيراد والتصدير برئاسة رئيس مجلس الوزراء عماد خميس بتاريخ 4/4/2018 حيث تقرر حينها إصدار شهادات إيداع بالليرة السورية وبالدولار، وهذه الخطوة أعلنت مرحلةً جديدة في السياسة النقدية السورية (وإن كانت تحتاج إلى فترة طويلة) بالانتقال من مرحلة الإصدار النقدي في تمويل العجز (التوسع في الإصدار النقدي بما لا يتناسب مع حجم الناتج المحلي الإجمالي) إلى مرحلة قد تسهم بتغطية العجز ولو بالجزء اليسير، فهذه الأداة الجديدة لن تفعل فعل الإصدار النقدي وآثاره التضخمية حكماً، وتؤمن في الوقت نفسه مصدراً رئيسياً للاحتياجات التمويلية التي يراها المصرف المركزي، إلا أنها تتطلب فترة زمنية بطبيعة الحال.
ومؤخراً أصدر مصرف سورية المركزي القرار رقم (185/م ن بتاريخ 09/12/2018) والقاضي بالموافقة على نظام إصدار شهادات الإيداع التقليدية بالليرة السورية موجهاً للمصارف التقليدية العاملة في القطر عامةً وخاصة بآجال محددة، وكان الإصدار رقم 1 الصادر بقرار مصرف سورية المركزي رقم (133/ل إ تاريخ 4/2/2019) وفق طريقة سعر الفائدة الثابت، وبدأ الاكتتاب في الإصدار بتاريخ 19/02/2019 حيث اكتتب فيه 16 مصرفاً بحوالي 1.308 شهادات تبلغ قيمة كل منها 100 مليون ليرة سورية لتبلغ القيمة الإجمالية 130.8 مليار ليرة سورية بسعر فائدة ثابت قدره 4.5% لمدة عام، وهذه الخطوة يمكن تصنيفها من قبيل قيام المصرف المركزي باستخدام أدواته غير المباشرة بالاعتماد على قوى السوق التي «عرفاً» تغير لاحقاً من حجم الاحتياطيات المصرفية وتسهم بتسيير عجلة الاقتصاد من دون قيود، وهذه الأداة غير المباشرة التي تنضوي تحت مسمى «أدوات السوق المفتوحة» تمكن المصرف المركزي من تقليص حجم المعروض النقدي لدى المصارف وهذا ما يعوّل عليه المصرف المركزي ربما من الإصدارات التي ستتالى تباعاً بحسب تصريحات مسؤولي المصرف فهي تتمتع بالمرونة وبإمكانية استخدامها مراراً، وتمكن صناع السياسة النقدية من التحكم بإدارة السيولة المصرفية بشكل أفضل.
وبذلك، فإن السلطة النقدية باتت الآن توفر للمصارف قنوات توظيف لديها بالليرة السورية وبالدولار، فالقرار رقم (110/م ن) تاريخ 02/08/2018 أجاز للمصارف العاملة توظيف فوائضها من القطع الاجنبي لدى المصرف المركزي على شكل ودائع لأجل ولمدد مختلفة تبدأ من أسبوع وحتى سنة، ومع الحديث الآن عن قرب الإعلان عن شهادات إيداع بالدولار التي كان قد صدر نظامها كما ذكرنا بالقرار رقم (102/م ن) يمكن المصارف أن تودع ودائعها لدى المركزي بما يتناسب مع التزاماتها تجاه مودعيها أو أن توظفها بشهادات إيداع دولارية.
نقاش
إن نقطة النقاش التي تتطلب توضيحاً وشرحاً من أصحاب القرار النقدي تتمحور حول أن إستراتيجية المصرف المركزي تعتبر مبهمة للمراقبين، فالمصرف المركزي لم يحدد إن كانت إستراتيجيته انكماشية أم توسعية، فالغرض من طرح شهادات الإيداع هو جمع السيولة الفائضة لدى المصارف تمهيداً لتمويل العمليات المطلوبة من المصرف المركزي دون اللجوء إلى الإصدار النقدي، وفي الوقت نفسه نرى أن المصرف المركزي يشجع على الإقراض وزيادته من المصارف على اعتبار أن توظيف هذه السيولة في شهادات الإيداع ستخفض من التكلفة المرجحة لأموال المصارف ما يدفعها إلى تخفيض فوائد الإقراض ما ينعكس بالنهاية على تكلفة المنتج وبالتالي على المستوى العام للأسعار، أي إن المصرف المركزي يصرح أن هدفه ضبط العرض النقدي وجمع السيولة وفق أداة يستخدمها بإطار انكماشي، ويدعو في الوقت نفسه إلى زيادة الإقراض عبر سياسة توسعية، فهذه النقطة تتطلب مزيداً من الشرح والتوضيح والشفافية، فالخشية تتمحور حول أن ضخ السيولة في السوق عبر تسهيلات ائتمانية قد يُساء استخدامها من بعض المقترضين في حال كانت الدراسات الائتمانية غير سليمة أو دقيقة أو أنها لم تراع ضوابط الإقراض المثلى، كما أن عدم استقرار سعر الصرف وتعرضه لخضات خلال الأشهر الأربعة الماضية والفارق الذي نشهده بين سعر الصرف الرسمي والسعر في السوق الموازية أعاد للمجتمع السوري الخوف من استمرار تراجع السعر بعد أن استقر لفترة تجاوزت العام عند حدود معينة، وهذا التخوف قد يدفع البعض للقيام بالمضاربات مجدداً أو تحويل ادخاراته من الليرة إلى الدولار مجدداً، فسعر الصرف هو مؤشر ثقة المجتمع حالياً بفعالية مؤسسة مصرف سورية المركزي.
ومن هنا يمكن القول إن هذا التوجه قد يناسب بعض المصارف التي تمتاز بانخفاض تكلفة الأموال لديها كالمصرف التجاري السوري مثلاً، ولكنه قد لا يناسب بعض المصارف الأخرى التي تعاني ارتفاع التكلفة المرجحة لأموالها حيث تختلف التكلفة من مصرف لآخر حسب طبيعة أعمال المصرف وتنوع خدماته وطبيعة ودائعه، كما أنه قد يناسب المصارف الأكثر انتشاراً وتفرعاً وقدماً وخصوصيةً، ولا يناسب المصارف حديثة العهد في السوق السورية أو التي لم تتح لها فرص الانطلاق والتفرع المخطط له بسبب الحرب، كما معدلات الفائدة الدائنة بوضعها الراهن قد يعتبر زيادة في التكلفة على المصارف.
أما إن كان هدف مصرف سورية المركزي من حصيلة اكتتابات شهادات الإيداع الانتقال إلى تفعيل أدواته المباشرة المتمثلة «بالإقراض الموجه» عبره أو عبر أحد المصارف العامة، فهذا يعني أنه سيقوم بمنح تمويلات لقطاعات معينة دون سواها وفقاً للسياسة الاقتصادية العامة للدولة، وهذا يتطلب منه دراسة وافية ودقيقة للفائدة المرجوة من هذه القطاعات ودورها في خروج الاقتصاد من عنق الزجاجة، والمثال على ذلك هو قائمة إحلال المستوردات التي أعلن عنها مجلس الوزراء السوري والتي تقدر بنحو 40 مادة، حيث إن التصريحات الحكومية تتحدث عن رؤية لدعم الإنتاج لتوفير بدائل للمستوردات بهدف تلبية حاجة السوق بدلاً من السلع التي يتم استيرادها، ففي هذه الحالة فإن قيامه بإقراض وتمويل منتجي هذه الأصناف بفوائد مدعومة سيكون ذا عائد مهم للاقتصاد برمته وتوفيراً للاستنزاف في مراكز القطع الأجنبي لاستيرادها.
مدة وفائدة
من ناحية أخرى فلا بد من التنويه بأن مدة استحقاق شهادات الإيداع هي عام واحد، حيث إنها تستحق بتاريخ 21/02/2019 وهذا يعني أن على المصرف المركزي أن يكون على أهبة الاستعداد لسداد مبالغ اكتتابات الإصدار الأول مع فوائدهم (المخصومة مسبقاً) البالغة 5.886.000.000 ل. س (يعادل 13.562.212 دولاراً على السعر الرسمي 434) في حال رغبت المصارف في الحصول على قيمة الشهادات ولم تمددها، وهذه نقطة غاية في الأهمية في علاقة الثقة بين المصرف المركزي والمصارف بشكل خاص، والمصرف المركزي والمتعاملين (أصحاب الودائع) بشكل عام، إلا إن كان توجه المصرف المركزي إعلان إصدارات متتالية من شهادات الإيداع بحيث يقوم بتسوية قيمة الشهادات المطالب بها من المصارف من حصيلة الاكتتابات اللاحقة.
وفي هذا السياق فإن الفائدة الممنوحة حالياً 4.5% ستكون محل ارتفاع مستمر في الإصدارات التالية لأنه مع توظيف أغلب السيولة الفائضة لدى المصارف فإن هذه المصارف مطالبة بالتنافس لجذب الإيداعات، وهذا يتطلب أن تكون فائدة شهادات الإيداع مرتفعة نوعاً ما لتبقى ذات جدوى للمصارف للاستمرار بالتوظيف فيها، وهذا يجب أن يكون محل دراسة المصرف المركزي بعناية لتكلفتها عليه.
ختاماً، يمكن القول إن جمع السيولة النقدية وضبط العرض النقدي عبر شهادات الإيداع الموجهة للمصارف (والصكوك الإسلامية للمصارف الإسلامية لاحقاً) لن يحقق الغاية المرجوة منها إلا عند تفعيل الأداة المالية (أذون وسندات الخزينة) وطرحها للاكتتاب العام بفوائد مناسبة فهي استثمار خال من المخاطر يمكن أن ينتج عنه اكتتابات لتمويل مشروعات معينة إنتاجية أو طاقوية، وبهذه الحالة نستطيع أن نجمع كتلة نقدية جيدة تسهم في تمويل مشروعات كبرى قد لا يمكن تمويلها عن طريق المصارف أو عن طريق الاستثمار الخارجي وخاصة في ظل الحديث مؤخراً عن جرعة عقوبات جديدة تطول كل من يسهم في إعادة إعمار البلد، كما أن سندات الخزينة قد تكون بمدد زمنية 5 أو 10 سنوات ما يعطي مرونة أكبر في إدارة السيولة وتوظيفها، فشهادات الإيداع بمددها المعلنة وفق الإصدار الأول (سنة) لن تكون قادرة على تمويل المشروعات آنفة الذكر، وبهذه الحالة (شهادات إيداع وسندات خزينة) تكون عملية ضبط العرض النقدي أكثر فعالية من مجرد طرح شهادات إيداع للمصارف العاملة، فالغاية تتعدى تشغيل هذه السيولة المتراكمة لدى المصارف ودفع فوائد عليها لتصل إلى مشروع وطني هدفه زيادة الادخار وإدارة أكثر عملانية وواقعية للسيولة، فسورية تعاني ضعف الثقافة المصرفية وهناك نسبة مهمة من المواطنين الذين لا يتعاملون مع المصارف ويفضلون ثقافة الكاش عن الإيداع وهؤلاء من الضرورة بمكان تشجيعهم على الادخار أو الاكتتاب بسندات خزينة، ليُصار فيما بعد إلى استخدام حصيلة الاكتتابات بسندات الخزينة وشهادات الإيداع في مشروعات حيوية كما سبق الإشارة إليه.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن إصلاح وتقوية وضع الاقتصاد السوري ليس على عاتق المصرف المركزي فقط، فهو يتطلب تكامل كل السياسات الاقتصادية معاً في إطار السياسة العامة للحكومة، كما أن الاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد هي أبرز مسببات ترنح الاقتصاد السوري التي ليست وليدة الأزمة إنما هي متراكمة منذ زمن ليس بالقريب.