شؤون محلية

وفق المعطيات الراهنة – شعار «منزل لكل أسرة» يحتاج من 40 إلى 100 سنة لتحققه مؤسسة الإسكان!

د. رشا سيروب

يعد السكن أحد أهم السلع الأساسية ويشكل المكون الثاني من حجم إنفاق الأسرة السورية، لذلك فإن الإصلاحات الجيدة لنظام الإسكان لمصلحة الفئات منخفضة الدخل سواء من حيث توفير سكن منخفض السعر أم إيجار منخفض السعر؛ من شأنه أن يخفف إلى حد كبير من الفقر، وهو أحد مكونات الأمان الاجتماعي.
ولا يقتصر السكن على توفير سقف يأوي المواطن، بل سكن لائق يحقق توافر الشروط الصحية والبيئية وتوافر البنية التحتية من حيث مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء والطرق وغيرها، إضافة إلى موقعه وحجمه.
ويعتبر قطاع الإسكان من أكثر القطاعات المتضررة من الحرب، وأصبح ضرورة ومطلباً أساسياً لنسبة كبيرة من السكان، ما حدا بالحكومة إلى رفع شعار (منزل لكل أسرة واجب وطني)، بحيث يتم توفيره بتكلفة مقبولة بسعر 5 ملايين ل.س كي يلبي حاجات الفئات الفقيرة والمتوسطة للتخفيف ﻣـن ﺣـدة أزمة السكن.
لكن، هل 5 ملايين ل.س هي تكلفة مقبولة للفئات الأكثر فقراً والأكثر حاجة للسكن؟ وهل هذا السكن (الميسور التكلفة) يمكن اعتباره سكناً مستداماً ولائقاً؟ العديد من التساؤلات يطرحها هذا الشعار التي نخشى أن تكون كلاماً غير مسؤول ويبقى حبراً على ورق.
هنا، يجب أن نشير إلى أن معظم من كان يندرج ضمن الطبقة المتوسطة هم الموظفون في القطاع الحكومي وأصحاب الدخل الثابت، وبسبب الحرب انتقلت هذه الفئة من الطبقة المتوسطة لتتموضع في ثنايا الطبقة الفقيرة، وبذلك انقسم الاقتصاد إلى طبقتين فقيرة وأخرى غنية، الأولى غير قادرة عن تأمين 5 ملايين ل.س، لأنه ستحتاج افتراضياً إلى 15 عاماً لتؤمن هذا المبلغ من دخلها (بفرض أنها ادخرت كامل الدخل دون إنفاق «بنس واحد»)، والثانية لا ترضى أن تقيم في مساكن اجتماعية فهي تبحث عن ضالتها في ماروتا سيتي والخمس شامات وأشباهها.

سعر المنزلقيمة القرضالقسط الشهريالراتب الشهري
سيناريو«1»5,000,0002,500,00025,400 ل.س63,400 ل. س
سيناريو «2»10,000,0005,000,000 50,700 ل. س 126,800 ل. س

إسكان من دون تمويل

أدت الحرب إلى تقليص مدخرات الأفراد واندثارها لدى آخرين، لذلك من الصعب الاعتماد على مدخرات الأفراد المقيمين في سورية، لأن يتمكنوا من شراء أي عقار سكني من دون اللجوء إلى القروض من المصارف سواء العامة أم الخاصة، علماً بأن شروط الإقراض في سورية لا تسمح باقتطاع أكثر من 30%-40% من دخل الفرد لتسديد الدفعات الشهرية للقرض المتمثلة بالقسط والفوائد، ولا يتجاوز سقف القرض 5 ملايين ل.س بحيث يغطي كحد أقصى بين 40%-70% من قيمة العقار التي تختلف وفقاً لسياسة كل بنك.
يبين الجدول أدناه الأقساط الشهرية الواجب سدادها للمصرف عند اللجوء إلى الاقتراض والحدّ الأدنى للراتب كي يتمكن طالب القرض من الحصول عليه، متجاهلين أي نفقات أخرى للحصول على القرض (نفقات فتح ملف ورسوم وبراءات ذمة وغيرها من نفقات)، وعلى فرض أن مدة القرض خمس عشرة سنة بفائدة 9%، سنجد أنه وفقاً لحاسبة القروض على موقع المصرف العقاري السوري، أن الحد الأدنى للراتب يتجاوز 63000 ل.س وهي تتجاوز سقف الراتب لأعلى شريحة رواتب في سورية:

وبالعودة إلى حاسبة القروض لتقدير الحدّ الأقصى للقرض الذي يمكن أن يحصل عليه طالب القرض وفقاً لوسطي الرواتب في سورية (30,000 ل.س) وباعتماد المعايير السابقة نفسها (15 سنة وفائدة 9%) سنجد أن سقف القرض يقل عن مليوني ليرة باقتطاع شهري 12000 ل. س.
بناء على المعطيات أعلاه، نتساءل هل يكفي مليونا ل.س لتمويل شراء منزل؟ وكيف يمكن للأسرة أن تكمل بقية الشهر براتب صاف 18000 ل.س؟
ووفقاً لسياسة الإقراض الحالية ومستوى الرواتب والأجور وتقلص المدخرات الشخصية، يمكن الجزم أن ذوي الدخل الثابت وموظفي القطاع العام (الفئة الأكثر تضرراً من الحرب) وأيضاً موظفي القطاع الخاص الذين يعملون من دون عقود أو مسجلين برواتب الحد الأدنى هم «خارج خطة الإسكان»، وسيتحول شعار (سكن لكل أسرة) إلى حبر على ورق، وهذا يستلزم إجراء تعديل للعديد من السياسات ووضع قوانين تمكّن الأفراد من الحصول على سكن بتكلفة معقولة، على أن توجه هذه التشريعات لمصلحة الفئات الفقيرة والأشد فقراً والمهمشة.

الإسكان المستدام والسكن اللائق

أسئلة كثيرة تترافق مع شعار «سكن لكل أسرة»، وخاصة ما يتعلق بمساحة السكن الذي سيباع بـ5 ملايين ل.س، إذ إنه وفقاً لبيانات هيئة تخطيط الدولة فإن تكلفة المتر المربع الواحد عام 2015 بلغ 50000 ل.س (علماً بأن التكاليف عن الفترة ذاتها وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء تتراوح بين 35000 و41000 ل.س للمنفذ من القطاع الخاص و22000 و34000 ل.س للسكن المنفذ من القطاع العام).
لسنا هنا بصدد إظهار التناقض في الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية التي تشير إلى احتمالية سوء التخطيط لعدم دقة الأرقام، لكن الغاية من ذكر تكلفة المتر المربع لنرى هل ينطبق على هذا السكن شروط السكن اللائق بما يلبي حاجة الأسرة المكونة من خمس أفراد (وفق المفهوم المتفق عليه وسطي عدد أفراد الأسرة في سورية)؟ وهل يحقق هذا السكن شروط الاستدامة؟
وفقاً لتقديرات السوق فإن تكلفة المتر المربع الواحد تتجاوز 80000 ل.س، ومن ثم فإن مساحة السكن المتوقع عند سعر 5 ملايين ل.س لن تتجاوز 62 متراً مربعاً.
الحق في السكن، الذي يشار إليه بـ«الحق في السكن الملائم»، يشترط توافره بتكلفة معقولة، إذ ينبغي أن يكون السكن والتكاليف المرتبطة به متناسبة مع مستويات الدخل (سواء سكن أم إيجار)، بما يكفل عدم تهديد تلبية متطلبات الحياة المعيشية، غير أن القدرة على تحمل التكلفة ليس بالأمر الكافي، حيث إن المساكن «ميسورة التكلفة» لا يمكن اعتبارها مستدامة إذا ما أدت إلى منعكسات سلبية على البيئة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لهذا يجب أن تتضمن «التكلفة الميسورة» تكاليف شروط تحقيق الاستدامة، ومن ثم الحق في السكن يتطلب توافر مساحة كافية تضمن لشاغليه سلامتهم وحمايتهم من العوامل الطبيعية والمخاطر البنيوية، وموقع مناسب يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل وتوافر المرافق الصحية والتعليمية، وتوفير الخدمات والمرافق الأساسية بما يضمن الحصول المستدام على المياه الصالحة للشرب والطاقة والتهوية والإنارة الكافية وغيرها من المرافق والبنى التحتية.
إلى ذلك، هل يضمن شعار «سكن لكل أسرة» الحق لكل فرد بالسكن اللائق، والتحول إلى الإسكان المستدام؟
قد يقترح البعض أنه لا ضرورة للالتزام بهذه الحقوق، على اعتبار أن سورية تواجه حرباً وتعاني ظروفاً اقتصادية صعبة بما يتجاوز قدرتها على تحمل تكاليف ضمان شروط السكن اللائق والمستدام.
هنا، يجب التأكيد أنه عندما يتم الحديث عن إعادة الإعمار سورية لبعد الحرب، فليس المقصود بها إعادة بناء الحجر والعودة به إلى ما كان عليه الوضع في سورية قبل الحرب، بل إعادة بناء الإطار الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع وإعادة تهيئة الظروف المواتية لإقامة مجتمع يعمل في زمن السلم، وباختصار العمل للمستقبل وليس بناء على الماضي.

السياسات الداعمة لسياسة الإسكان

إن أي سياسة وإستراتيجية للإسكان لا تأخذ بالحسبان معطيات الواقع والتهيئة لمستقبل سليم، لا يمكن أن يكتب لها النجاح، وسوف تظهر آثارها السلبية في المستقبل بطريقة قد لا تسمح مستقبلاً بمعالجتها، لذلك لا يمكن الحديث عن إمكانية نجاح أي سياسة إسكانية من دون أن تترافق مع سياسات داعمة وضامنة لنجاحها، والتي تتمثل في سياسات الإقراض والتمويل وسياسة الرواتب والأجور والسياسة الضريبية والإعانات والدعم وغيرها من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
يتطلب ذلك تعديل سلم الرواتب والأجور بما يسمح بالحصول على التمويل الكافي من الجهاز المصرفي، وتعديل سياسة الإقراض والتمويل بحيث لا تكون سياسة إقراض واحدة وثابتة، بل سياسة مرنة وفقاً لشرائح وفئات اجتماعية محددة تأخذ بالحسبان الفئات الأضعف (الأسرة التي تعيلها امرأة، المسنون، مصابو وجرحى الحرب وذوو الإعاقة، من تهدمت منازلهم في الحرب والمهجرون، أسرة الشهيد الذي كان معيلاً لها، والفئات الأكثر فقراً) ليتمكنوا من الحصول على قروض بتكلفة مقبولة واجتماعية، من دون إغفال تقديم إعانات خاصة بالسكن لأولئك الذين يتعذر عليهم الحصول على مساكن بتكلفة معقولة، وقد تأخذ الإعانات عدة أشكال، منها تحمل فوائد القروض أو تخفيضات على الفوائد، أو معونة مالية مباشرة خاصة للسكن أو تخصيص أراضِ من أملاك الدولة لغايات سكنية فقط، وكل هذا يستدعي تضافر وتشاركية الأطراف المعنية بتوفير السكن الاجتماعي كافة، من دون إغفال أن ذلك سوف يرفع أسعار السكن والإيجارات نتيجة زيادة الطلب على السكن، لذلك لا بد من وضع ضوابط وحدود لأسعار العقارات والإيجارات، شأنها شأن أي سلعة معيشية، واتباع سياسة عقارية سليمة تضمن عدم تحويل شراء العقار من حاجة سكنية إلى غاية استثمارية، منها وضع سقوف للإيجارات وفرض ضرائب على الشقق الفارغة.

هل حقاً يمكن تأمين الحاجة المتزايدة للسكن؟

وفقاً لتصريحات رئيس الاتحاد العام للتعاون السكني فإن عدد المساكن المدمرة كلياً وجزئياً يقدر بنحو 1,5 مليون سكن، ووفقاً لبيانات البناء والتشييد عن عام 2010 فإن عدد المساكن المشغولة والخالية هي 4.129 ملايين مسكن، وهذا يعني أن عدد المساكن المطلوبة لإسكان 22 مليون مواطن (وسطي معدل الأسرة 5 أفراد) يقدر بـ 1770 ألف شقة سكنية أي مليون وسبعمئة وسبعون ألف شقة سكنية، وإذا أخذنا بالحسبان إعادة تنظيم منازل السكن العشوائي التي وصلت إلى 157 منطقة سكن عشوائي في سورية، سيرتفع الرقم إلى أكثر من مليوني وحدة سكنية يجب إحداثها وتشييدها.
تبين أهداف الخطة السنوية للمؤسسة العامة للإسكان الاستمرار بتنفيذ المساكن المباشر بها قبل عام 2019 أن عدد المساكن المتعاقد على تنفيذها  حوالي 27,518 مسكناً موزعة بحسب الفئات والمحافظات، ومن المتوقع المباشرة بمساكن جديدة في المحافظات الآمنة (19,730) مسكناً في المحافظات كافة، وإنجاز وتسليم حوالي 5164 مسكناً.
أي إن مجموع المساكن التي من المفترض أن تسلم (في حال افترضنا أن 19730 مسكناً تمت المباشرة بها وتسليمها عام 2019) يبلغ 52412 مسكناً.
وتشير بيانات المؤسسة عن عدد المساكن المنجزة منذ إحداث المؤسسة (أي منذ عام 2014) وحتى نهاية الربع الرابع من العام 2018 بلغ 74441 شقة سكنية، بوسطي 18610 شقق سنوياً.
فإذا كان شعار (سكن لكل أسرة واجب وطني) وفقاً لمدة الإنجاز الفعلية للؤسسة العامة للإسكان، فإننا سنحتاج إلى أكثر من 100 سنة حتى يتحقق الشعار، ووفقاً لخطتها نحتاج إلى ما يقرب من 40 سنة (إذا نفذت بالكامل).
لكن بالتاكيد المؤسسة العامة للإسكان ليست هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن البناء والتشييد في سورية، فهناك القطاع الخاص (من مقاولين وشركات تطوير عقاري وأفراد غير مرخصين) والاتحاد العام للتعاون السكني.
ويبين الشكل أدناه نسبة المساكن التي تم تشييدها من القطاعات المختلفة:

نسبة المساكن التي تم تشييدها وفقاً للقطاع

يلاحظ من الشكل أن القطاع الخاص استحوذ على أكثر من ثلاثة أرباع سوق الإسكان في سورية، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل سوف يشيد القطاع الخاص المساكن ليبيعها بسعر التكلفة؟ وهل سيشيد مساكن مستدامة وتتوافر فيها جميع شروط السكن اللائق؟
في ظل إحجام شركات التطوير العقاري عن العمل في السكن الاجتماعي ومع محدودية الموارد والأراضي للاتحاد التعاون السكني، سيبقى القطاع الخاص عموماً وغير المنظم على وجه الخصوص هو المحدد لسعر المنازل في ظل غياب رقابة وضبط من المؤسسات الحكومية ذات الصلة أو مجالس المدن والبلديات.
كي لا يصبح شعار «سكن لكل أسرة» مجرد حبر على ورق، مطلوب بالإضافة إلى سياسات داعمة لسياسة الإسكان؛ أن تتدخل الحكومة كلاعب رئيسي في سوق العقارات، للحدّ من فوضى الأسعار وجنونها، وبما يضمن نجاح هذا الشعار، بانتظار صدور الإستراتيجية الوطنية للإسكان علّها تجيب عن تساؤلاتنا وتنفي شكوكنا ومخاوفنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى