البدايات من السياسات القطاعية
|عامر إلياس شهدا
لا يخفى على أحد ضعف التنسيق بين الوزارات والتداخل في المهام والصلاحيات، حيث تعتبر أحد مكامن الضعف التي يعود سببها إلى أن السياسات العامة والسياسات الوزارية تفتقد لحلقة وسيطة بينهما وهي السياسات القطاعية وهنا يطرح السؤال المهم: كيف نخطط وكيف نحدد سياسات قطاعية؟
إن البدايات غير الموفقة تقود إلى نتائج غير موفقة، رغم أن هوية الاقتصاد قد تم تحديدها وهي اقتصاد السوق. وهذا الاقتصاد يحتاج إلى سياسات تحدد الأهداف والمبادئ العامة التي توجه القرارات والسلوك داخل المؤسسات والهيئات والمنظمات، وتترك مجالاً للتفسير والتكيف بناء على الظروف.
إن مجالات التفسير التي تتركها السياسات تعتبر أحد عوامل خلق الخلل والضعف بعملية التنسيق بين كل الإدارات في الدولة. لهذا فان رسم السياسات القطاعية تعتبر عملية استراتيجية تهدف إلى وضع إطار عمل لتنمية قطاع معين ضمن الاقتصاد أو المجتمع. يتطلب ذلك تحليلاً شاملاً للقطاع، تحديد أولويات واضحة، ووضع سياسات تحقق الأهداف المرجوة. وتراعي الأبعاد الاجتماعية والبيئية بجانب البعد الاقتصادي.
هذه العملية تبدأ في تحديد القطاعات (الصحة، التعليم، الزراعة، الماليه، النقدية، التمويل… إلخ)، ومن ثم تحليل الوضع الراهن من خلال جمع البيانات ودراسة المؤشرات الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية المتعلقة بالقطاع. وتحديد نقاط القوة والضعف وتحليل التحديات والفرص داخل القطاع، وتحديد مدى مساهمة القطاع في الاقتصاد أو المجتمع، ومدى توافقه مع السياسات الوطنية العامة، دون إغفال تحديد الأهداف الاستراتيجية قصيرة وطويلة الأجل حيث تكون الأهداف واقعية، قابلة للقياس، وموجهة نحو النتائج. على أن يكون هناك حرص على التوافق مع الرؤية الوطنية والتأكد من أن الأهداف القطاعية تدعم الخطط الوطنية ورؤية التنمية المستدامة.
كل ذلك يسهل عملية صياغة السياسات ووضع إطارها وتحديد أدواتها ووسائلها اللازمة لتحقيق أهدافها. بعد خوض حوارات مشتركة مع الجهات الحكومية، القطاع الخاص، والمجتمع المدني لضمان قبول السياسات. كل هذا يسبق وضع خطط تنفيذية تحدد الأولويات الزمنية والموارد اللازمة، وتخصيص الميزانيات والكفاءات البشرية لتنفيذ البرامج والمشروعات. وتأسيس شراكات وتعاون بين القطاع العام والخاص لتنفيذ هذه السياسات بشكل فعال. على أن يتم توفير عامل المتابعة وتقييم الأداء من خلال وضع مؤشرات لقياس التقدم نحو تحقيق الأهداف. وعدم الاكتفاء بذلك بل يتم مراجعة السياسات وتعديلها بناء على المتغيرات أو النتائج المحققة ونشرها عبر تقارير دورية توضح أداء القطاعات ومدى صحة السياسات المعتمدة فيه.
كل ذلك سيقود بالنهاية إلى تخطيط قائم على الأدلة الذي يقتضي استخدام الدراسات والتحليلات لتجنب القرارات العشوائية. وهذا يتطلب التكيف مع المتغيرات من خلال خلق مرونة في تعديل السياسات بناءً على التحديات أو الفرص الجديدة.
السؤال أين نحن من ذلك اليوم أما ما هو مطلوب من تغيير في هيكلية الاقتصاد؟ نقاشات في جزئيات قوانين، دعوة لوضع خطط لمشاريع تنموية معينة على حساب مشاريع تنموية أخرى، الاهتمام بقطاع بعينه وإهمال بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، كل هذه الأمور لن تفضي إلى تغيير في هيكل الاقتصاد وإنما سينتج عنها مفهوم تنموي متهور غير متوازن سيظهر على المدى الطويل. إضافة إلى تراجع في الفعالية الاقتصادية الحقيقية الناتجة عن الاستمرار باقتصاد شبه منغلق. والانشغال عن وضع البنى التحتية الضرورية لوضع السياسات القطاعية التي تخلق العوامل الصحيحة لتلافي التنمية المتهورة وإخراج الاقتصاد من الدائرة الشبه مغلقة.
في الواقع العملية ليست سهلة فهي تواجه حزمة من المحرمات إضافة إلى ضعف في الخبرات والكوادر المؤهلة للقيام بالمهام المطلوبة لتغيير هيكلية الاقتصاد. التي تقتضي البدء بحوار حول معالجة المعاناة من تشوهات مستوى الأسعار والأجور وهذان الأمران لا يرتبطان بقوانين فالتشوهات التي يعانيان منها سببها المحرمات ومنها تحرير أسعار الصرف التي تؤدي إلى كشف عيوب كبيرة على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي. فتغيير هيكلة الاقتصاد تتطلب عدم الاستمرار في السيطرة على أسعار الصرف بناء على اعتقاد خاطئ يقول: إن الاستمرار بهذه السيطرة سوف يبقي الأمور على حالها، مع أنه على العكس من ذلك فإن تحرير أسعار الصرف يؤدي إلى كشف النواقص وبالتالي العمل على تفاديها وإصلاحها.
من هنا نجد أن النقاشات الدائرة حول التسعير لا ترتبط بقانون أو آلته وإنما بسعر الصرف أي بسياسة نقدية وآليات نقدية للتحرير. وهنا نشير إلى أن التخوف من الحوض بهكذا حوار أو وضع سياسة وآليات يعتبر مبرراً فهو بحاجة إلى خبرات نقدية ومصرفية لإدارة عملية تحرير أسعار الصرف وهي في الواقع غير متوافرة بالشكل المطلوب على اعتبار أنها من المتطلبات الأساسية في عملية الانتقال الاقتصادي وتغيير هيكلة الاقتصاد.
لكن إذا تجاوزنا هذا الضعف وقمنا بصياغة السياسات القطاعية فهكذا أمر سيسهل كثير من عملية الانتقال الاقتصادي ويخفف من انعكاساته الحادة على الاقتصاد والمجتمع.