الذهب إلى أين؟
| د. علي محمد
لفت أنظار المستثمرين والجمهور الانخفاض الذي شهده سعر المعدن الأصفر خلال الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، والذي استمر في منحاه التنازلي لغاية 17/11/2024، فقد شهد سعر الذهب أكبر تراجع أسبوعي منذ العام 2021 حيث بلغت الخسائر الأسبوعية نحو 4.65 بالمئة، لتسجل الأونصة نحو 2561 دولاراً في العقود الفورية للذهب يوم 16/11/2024 و25701 دولار في العقود الآجلة تسليم شهر كانون الأول، ولدى المقارنة بالفترة القريبة الماضية فقد شهد السعر تراجعاً بأكثر من 220 دولاراً مقارنةً بالذروة التي حققها في 12 أيلول الماضي، وهذا يعبر عن حجم الضغوط على الذهب العائدة لعدة أسباب يأتي في مقدمها ارتفاع الدولار الأميركي وتراجع التوقعات بشأن خفض أسعار الفائدة الأميركية.
ففي هذا الصدد، ارتفع الدولار الأميركي مؤخراً نتيجة التوقعات بشأن تشديد السياسة النقدية، حيث سجل مؤشر بلومبيرغ للدولار الفوري أعلى مستوى له في عامين ودفع الدولار للصعود، ما يعني ارتفاعاً بتكلفة السلع المقومة بالدولار بالنسبة للمشترين والمستثمرين خارج الولايات المتحدة الأميركية، ما يسهم (تاريخياً وحالياً) بانخفاض جاذبية الذهب كملاذ آمن لكونه يصبح أكثر تكلفة مقارنةً بالعملات والسلع الأخرى.
وترافق ذلك باستمرار التوقعات المتعلقة بعدم تخفيض أسعار الفائدة ولاسيما بعد تصريحات الرئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول بعدم التسرع في خفض أسعار الفائدة، ما أدى لانخفاض احتمالات خفض الفائدة بنسبة 25 نقطة أساس في شهر كانون الأول إلى احتمال 59 بالمئة مقارنةً بـ83 بالمئة في وقت سابق، ما يعني بلغة الاستثمار ارتفاعاً في عوائد السندات المرتفعة على حساب انخفاض جاذبية الذهب.
كل ما سبق زاد من تقليص رهانات صناديق التحوط ومديري المحافظ الاستثمارية على ارتفاع سعر الذهب، حيث انخفضت المراكز الشرائية الصافية بنسبة 11 بالمئة وهو الأقل منذ نحو 5 أشهر لتبلغ 197.362 عقداً، فبحسب مجلس الذهب العالمي شهدت صناديق الذهب المتداولة (ETFs) تدفقات خارجة بلغت نحو 809 ملايين دولار (12 طناً من الذهب تقريباً) بعد شهر استثنائي من التدفقات الإيجابية، وكانت التدفقات الخارجة في أميركا الشمالية هي الأكثر تأثيراً في السوق، وتلاها التدفقات الخارجة في آسيا والتي لم تؤثر بشكل كبير ما يعني استمرار الطلب من المستثمرين الآسيويين على المعدن النفيس، وهذا يدعم الطلب عليه مستقبلاً، إضافة لذلك فقد انخفض صافي مراكز المضاربة طويلة الأجل في بورصة COMEX بمقدار 74 طناً من الذهب، ما يعني تحول اهتمام المستثمرين نحو أصول أكثر مخاطرة (كالأسهم والعملات المشفرة) من ناحية، ومن ناحية ثانية انخفضت حدة التحوطات التي سادت ما قبل الانتخابات الأميركية التي انتهت بفوز الرئيس ترامب في الانتخابات والتوقعات بشأن خططه الاقتصادية المقبلة التي سيركز فيها على تعظيم أرباح الشركات وتنشيط الاقتصاد الأميركي ككل، والذي ساهم هو الآخر بتراجع فوري بأسعار الذهب فاقت 8 بالمئة خلال أيام قليلة تلت الانتخابات الرئاسية.
ولكن، وفي حال صدقت التوقعات التي كنا قد أوردناها في عدد الاقتصادية بتاريخ 16/11/2024 حول احتمالية ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية بسبب سياسات ترامب الاقتصادية والتجارية (كخفض الضرائب وفرض رسوم جمركية مرتفعة)، فإن ذلك يعزز من الطلب على الذهب للتحوط من التضخم، ويجبر في الوقت نفسه الفيدرالي الأميركي على خفض الفائدة بشكل أسرع وعدم البقاء في موقع عدم التسرع بخفض أسعار الفائدة، فكما هو معلوم، بقاء سعر الفائدة عند هذا المستوى وارتفاعه في المستقبل يؤدي إلى زيادة تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب لكون الذهب لا يمنح حامله أو المستثمر به أي عوائد نقدية مباشرة مثل السندات أو الودائع المصرفية التي تمنح فوائد مجزية.
كما أن ارتفاع العجز المالي الأميركي قد يضغط على التصنيفات الائتمانية الأميركية ويدفع المستثمرين إلى زيادة الطلب على الذهب مجدداً والعزوف عن ضخ الأموال في الاستثمار بالسندات الأميركية.
وكذلك فإن استمرار البنوك المركزية والفيدرالي الأميركي باتباع السياسات النقدية الميسرة والعمل على تخفيض سعر الفائدة مجدداً في ظل التوقعات المرتقبة لمعدلات التضخم، مع ما نشهده من استمرار التوترات العالمية والعوامل الجيوسياسية التي تدفع بطبيعة الحال لزيادة الطلب على الذهب كملاذ آمن، مع استمرار حيازة الذهب من البنوك المركزية العالمية كما هو خلال السنوات القليلة الماضية، فإن ذلك سيدعم الاتجاه الصعودي للذهب مجدداً، وهذا ما سنتحدث عنه في المادة القادمة ولاسيما مع الارتفاع الذي شهده سعر الذهب في المعاملات الفورية يوم 18/11/2024 بنسبة 1 بالمئة ليصل إلى 25872 دولاراً للأونصة.