مهزلة ضعف الرواتب والأجور… باقية وتستمر..!.. تصحيح سلم الأجور خطوة نحو بناء اقتصاد سوري مستدام رفع الأجور كأداة لتحفيز الإنتاجية.. وضعفها يؤدي لضعف النزاهة الوظيفية.. المطالبة بزيادة في «متممات الأجور» أصبحت أشبه بترقيع جرح غائر..!
|هني الحمدان
يتهيأ السوريون لملامسة نتائج تحولات السياسة الجديدة للحكومة تجاه العديد من الملفات، لكن في عمق هذه اللحظات، يقف الموظفون البائسون وقد نفدت طاقتهم على التحمل، بعد أن استنفدت الحرب ما في جيوبهم وأكلت مدخراتهم. فيما تتصاعد أصوات على وسائل الإعلام من مسؤولين يزعمون أن تحسين أجورهم سيضر بالاقتصاد وسيزيد من العجز والتضخم المالي، وكأنهم يلقون اللوم على من هم في الرمق الأخير من الصبر.
وبينما يجتمع ممثلو العمال مع الحكومة في محاولات متكررة للتفاوض على زيادة الأجور، فإنه لا تأتيهم سوى وعود. حتى إن محاولة المطالبة بزيادة في «متممات الأجور» أصبحت أشبه بترقيع جرح غائر، وكأنك تقدم مكملات غذائية لمريض في غرفة الإسعاف تنزف يده المكسورة منذ زمن بعيد. أين احترام عقولنا وكرامتنا؟ كما يصف الباحث الاقتصادي محمد السلوم هذا المشهد.
لقد مرت دول عدة بحروب وانهيارات اقتصادية، لكنها استطاعت أن تلملم جراحها، وتجدد الثقة بينها وبين مواطنيها، فكانت تعطي العاملين أجوراً تضمن لهم الحياة الكريمة ولو بالحد الأدنى. لم تُبقِ هذه الدول على عمالها في دائرة الحاجة؛ بل حرصت على توفير رواتب كافية، وارتقت بعد ذلك لتشجيع الادخار والاستثمار الفردي، كإحدى الخطوات التي تحفز الاقتصاد وتدفعه نحو التعافي.
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها موظفو القطاع العام، تتزايد المطالبات بضرورة رفع الأجور. وفي هذا السياق، تبرز تجربة اليابان كنموذج يُحتذى، حيث لعبت سياسات رفع الأجور واستثمارها في رأس المال البشري دوراً محورياً في نهضتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، يستعرض المحلل الاقتصادي محمد السلوم كيفية الاستفادة من التجربة اليابانية لتعزيز الاقتصاد السوري وتحقيق تنمية مستدامة.
أداة للتحفيز
اعتمدت اليابان سياسة رفع الأجور كجزء من إستراتيجيتها لإعادة البناء والنهوض بالاقتصاد بعد الحرب. ولم تعتبر الحكومة اليابانية أن الأجور مجرد تكلفة، بل أدركت أنها استثمار في الإنتاجية الوطنية، إذ أدت الأجور الكافية إلى رفع مستوى معيشة العمال وزيادة استهلاكهم للمنتجات المحلية، ما حفز النشاط الاقتصادي وخلق طلباً أكبر على السلع والخدمات. نتيجة لذلك، أصبحت الأجور أداة رئيسية في تنشيط الاقتصاد، بدلاً من كونها عبئاً يؤدي إلى التضخم كما يُعتقد في كثير من الأحيان.
«في سورية، يمكن أن تكون زيادة الرواتب بداية لنمو اقتصادي حقيقي. فعندما يحصل الموظفون على أجر يكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية، يزداد استهلاكهم، وهذا يسهم بدوره في تحفيز القطاعات الإنتاجية وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي، بدلاً من الاعتماد فقط على الدعم الحكومي المباشر».
إعادة هيكلة الأجور
لتمكين الادخار وتشجيع الاستثمار
إحدى الركائز الأساسية التي ساعدت اليابان على النمو المستدام كانت قدرتها على تمكين العمال من الادخار، إذ صمم هيكل الأجور بحيث يتيح للعمال توفير جزء من دخلهم واستثماره في مشروعات صغيرة أو ادخاره لمواجهة الأزمات. وقد ساهم ذلك في زيادة السيولة النقدية المحلية ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما خلق ثقافة التخطيط المالي الشخصي والاستثمار المستدام لدى الأفراد.. فكيف يقتنع أي متابع براتب موظف سوري لا يتجاوز بالمتوسط 350 ألف ليرة فقط، بوقت لا تكفيه هذه الكتلة النقدية لتأمين غذاء ليومين..؟!!
ويضيف السلوم: «الادخار يعزز الأمان المالي ويوفر السيولة التي يمكن إعادة استثمارها في الاقتصاد. إذا تمكّن العامل السوري من ادخار جزء من دخله، فسيتمكن من تمويل مشروعات صغيرة أو دعم احتياجات مجتمعه، وهذا يشكل دعماً مستداماً للاقتصاد الوطني».
الاستقرار الاجتماعي ومكافحة الفساد
ساهمت سياسات رفع الأجور في اليابان في خلق بيئة عمل مستقرة وخالية من الضغوط المالية التي تدفع العمال للبحث عن دخل إضافي بطرق غير قانونية. فالعمال الذين يحصلون على أجر كافٍ يعيشون بكرامة ويقل اعتمادهم على وسائل غير مشروعة لتحسين معيشتهم، ما يقلل من مستويات الفساد ويزيد من الشفافية داخل المؤسسات. وقد أثبتت اليابان أن تحسن الأجور يمكن أن يكون رافعة للاستقرار الاجتماعي والأمان الوظيفي.
ويشير السلوم إلى أن «ضعف الأجور في سورية يؤدي إلى ضعف النزاهة الوظيفية، إذ يجد العديد من الموظفين أنفسهم مضطرين لقبول العروض غير القانونية لتعويض دخلهم ورفع الأجور سيخفض من ضغوط الفقر، ويقلل من التبعات السلبية مثل الفساد الإداري، ما سيؤدي في النهاية إلى بيئة عمل أكثر استقراراً ونزاهة».
الاستثمار في رأس المال البشري
كأولوية اقتصادية
اعتبرت اليابان أن الاستثمار في رأس المال البشري ضرورة لبناء اقتصاد قوي ومستدام. وقد اعتمدت على رفع كفاءة العمال وتوفير تدريب مستمر لهم، بهدف تطوير مهاراتهم وتعزيز الإنتاجية. وكانت هذه الإستراتيجية ناجحة في بناء جيل من العمال المهرة الذين ساهموا بشكل مباشر في تقدم الصناعة والاقتصاد الياباني. ولم تكن الزيادة في الأجور هي الهدف الوحيد، بل كانت جزءاً من خطة شاملة لدعم الكفاءات الوطنية وإعداد كوادر قادرة على مواجهة التحديات.
«فالاستثمار في رأس المال البشري هو حجر الأساس لأي اقتصاد قوي. فمن خلال تدريب وتأهيل العمال وتوفير دخل مناسب لهم، يمكن للبلد أن يبني قاعدة اقتصادية متينة، حيث سيكون هؤلاء العمال قادرين على الابتكار والتطوير، مما يعزز الإنتاجية ويقود إلى نمو اقتصادي مستدام».
بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين
كما ساعدت سياسات رفع الأجور في اليابان على تعزيز الثقة بين المواطنين والدولة، حيث شعر العمال أن الحكومة تستجيب لمطالبهم وتسعى لضمان حياة كريمة لهم. وخلقت ثقافة التعاون والالتزام المتبادل.
يؤكد السلوم بقوله: «عندما تثق شريحة واسعة من الشعب في سياسات الدولة الاقتصادية، فإنها تتعاون على دعم الاقتصاد وتطويره. إن تحسين دخل الموظفين يجب أن يكون جزءاً من إصلاحات اقتصادية أوسع، تركز على بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين.
يجب أن يشعر العامل السوري أن الدولة تقف بجانبه في مواجهة الظروف الصعبة، وأن تحسين الأجور هو جزء من إستراتيجية تهدف لتحقيق الازدهار للجميع، وهذا سيسهم بدوره في استقرار المجتمع وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني».
العمل مدى الحياة
اعتمدت هذه السياسات على مبدأ «العمل مدى الحياة» حيث يُمنح العمال أماناً وظيفياً ما يعزز التزامهم. يرتكز هذا المبدأ على ضمان حد أدنى من الأجور يكفل كرامة العيش ويغطي الاحتياجات الأساسية، وتظهر أهمية هذه الفلسفة خصوصاً في القطاعات الحيوية مثل القضاء والتعليم، لتوفير خدمات نوعية وذات مصداقية تمس حياة المجتمع بأسره.
يضيف السلوم: «فلسفة العمل مدى الحياة يمكن أن تطبق، وإن تحقيق مستوى معيشي لائق للعاملين في القطاعات الحساسة ليس ترفاً، بل ضرورة لتحقيق أداء فعّال ومستدام».
موارد سورية: فرص للنمو والازدهار
يختم السلوم «يمتلك السوريون كفاءات عالية في الداخل والخارج يمكن أن تكون محركاً للتطوير، إضافة إلى الموارد الطبيعية التي يمكن استثمارها بطرق مستدامة»، إن بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتحفيز السوريين المغتربين على المساهمة في إعادة بناء اقتصاد البلاد، سيفتح المجال لتحقيق انتعاش اقتصادي شبيه بالتجربة اليابانية.
«إن ما حققته اليابان لم يكن وليد الحظ، بل نتيجة جهد وتخطيط مستمر، واستثمار واعٍ في رأس المال البشري مع التزام جماعي بمسار التنمية حيث أدرك اليابانيون أهمية ترشيد استهلاكهم وتوجيه مواردهم نحو استثمارات صناعية وتكنولوجية؛ فبدلاً من التبذير، ركزوا على الإنفاق المُنتج.