النقود تاريخياً «2/2»
| د. عابد فضلية
كلية الاقتصاد-جامعة دمشق
ذكرنا سابقاً بأن الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان)، قد قرر التحرر من النقود البيزنطية (الذهبية)، وكذلك من النقود الأخرى (الساسانية) و(الفارسية)، فأمر (سنة 691-692م) بضرب الدينار الذهبي العربي الدمشقي الإسلامي، فرد الإمبراطور الروماني (جستنيان الثاني) على ذلك بسك عملة جديدة يظهر على أحد وجهيها صورة رأس السيد المسيح (عليه السلام) وعلى وجهها الآخر صورته وهو يحمل صليباً ضخماً، فرد عليه الخليفة سنة (693م) بإصدار دينار عربي جديد، عليه رسمه بلباسه التقليدي العربي وعمامته واضعاً يمناه على مقبض سيفه، وأصدر تشريعاً بوجوب استخدام هذه العملة الجديدة ومنع التداول بأي عملة أخرى تحت طائلة الإعدام، علماً أن النقد العربي الإسلامي الخالص الخالي من الرموز البيزنطية، هو الدينار الأموي الذي ضرب في دمشق (سنة 697م)..، وهكذا فقد تطورت النقود بشكل متسارع إلى عصرنا هذا.
وعوداً على ذي بدء، نشير إلى أن الإنسان البدائي عاش منذ بدء الخليقة على جمع الثمار والصيد، وكان زعيم العشيرة (أو المشاعة أو القبيلة) هو الذي يوزع المنتجات بين أفرادها، وكانت العشيرة تشكل وحدة اقتصادية مغلقة. لاحقاً، ومع تحسن أدوات العمل وازدياد الإنتاج ظهرت فوائض في بعض المنتجات ونقص في بعضها الآخر لدى العشيرة الواحدة، الأمر الذي دفع وشجع العشائر والجماعات المتفرقة على التبادل فيما بينها بمقايضة السلع الفائضة لدى عشيرة ما بالسلع التي تحتاجها من فائض عشيرة أخرى.
لذا ظهرت المقايضة نتيجة ذلك، وبسبب توافر الفائض لدى المنتجين الزراعيين ولاحقاً لدى الحرفيين في المشاعات والقبائل المتجاورة، وبدأت بمبادلة سلع بسلع أخرى بين طرفين كل منهما يحتاج إلى سلعة الآخر (كيس قمح مقابل رأس من الماشية)، وبسبب الصعوبات التي واجهت مقايضة سلعة بسلعة بين طرفين، وأهمها:
احتمال عدم التقاء رغبة أحد الطرفين بما يملكه الطرف الآخر الراغب في المقايضة.
عدم إمكانية تقسيم الكثير من السلع للحصول على كمية قليلة من سلعة أخرى (مثل عدم إمكانية تقسيم الثور من مالكه الذي يذهب إلى سوق المقايضة نظراً لحاجته إلى فأس).
احتمال عدم التقاء الطرفين المتناسبة احتياجاتهما في المكان والزمن المناسبين.
صعوبة (وحتمية) إحضار السلع إلى السوق.
لذلك تطورت المقايضة:
– من خلال إيجاد طرف ثالث أو أكثر، حيث يبادل الطرف الأول السلعة التي يمتلكها مقابل سلعة لا يحتاجها مع الطرف الثاني، ثم يُبادل الطرف الأول هذه السلعة التي لايحتاجها مع طرف ثالث يمتلك السلعة التي يحتاجها، أي إن احتاج صاحب القمح فأساً ولم يكن يرغب صاحب الفأس بالقمح، بل يحتاج إلى اللبن، فيذهب صاحب القمح إلى السوق فيبادل قمحه باللبن، ويعود ويبادل هذا اللبن بالفأس.
*- من خلال أشخاص يمتلكون الإمكانيات والكثير من السلع والمواد، والذين راحوا آنذاك يلعبون أكثر فأكثر دور التجار، حيث كان أحدهم يقايض بحصوله على ثور (على سبيل المثال) ويعطي لصاحب الثور كميات متباينة من عدة أنواع من السلع التي يحتاجها (مثل القمح والشاي والذرة والفؤوس والجلود، وغيرها).
– (ولاحقاً) بإيجاد معادل عام للقيمة والتبادل، مثل (الإبل والأغنام) في دول المشرق العربي و(رزم الشاي) في الصين و(الماعز) في إفريقيا و(الثيران) في أوروبا و(الملح والفراء.. إلخ) في بقع أخرى من العالم، وكان اختيار المعادل العام يتم بحسب أهمية ومنفعة وتوافر هذا المعادل في البقعة التي جرى استخدامه فيها، علما أنه تم اعتماد أكثر من معادل في البقعة الجغرافية نفسها، كما لم يبق المعادل هو ذاته بين حقبة زمنية وأخرى لاحقة، وبالتالي فقد كان المعادل العام يخضع (في كل بقعة وفي كل فترة زمنية) لاعتبارات اقتصادية واجتماعية وللعادات والتقاليد، حيث أن ما استخدمه الصينيون لم يكن (بموجب هذه المحددات) صالحاً لاستخدامه من قبل الهنود، وما استخدمه العرب لم يكن صالحاً لاستخدامه من الأوروبيين.، وهكذا.
وبالتالي فقد أسهم استخدام المعادل العام للقيمة بتسهيل المقايضة وتطوير التبادل والعلاقات التجارية بين المجتمعات، الأمر الذي شجّع التخصص ببعض الأنشطة وحفز الإنتاج الواسع، وخاصةً بعد أن تطور هذا المعادل على مدى قرون طويلة إلى أجزاء من المعادن الثمينة، ولاحقاً إلى عملات معدنية مسكوكة لدى المملكة السومرية في بلاد ما بين النهرين (سنة 3500 ق. م)، لتتطور المقايضة إلى تعامل نقدي كما نعرفه اليوم.