لا أعتقد أن اثنين قد يختلفان على أن تحسين المستوى المعيشي للمواطن يجب أن يحظى بالأولوية للحكومة الجديدة، يُضاف لها العمل على إرساء القواعد الواجبة لانطلاقةٍ ما في عملية إعادة الإعمار ولاسيما إعادة الإعمار الإنتاجية الاستثمارية، فواقع الحالة المعيشية للمجتمع ومؤشرات الاقتصاد السوري تتطلب إنجاز هذه الأهداف بشكل جدي متسارع في هذه الفترة الحساسة من عمر الحرب على سورية، ولاسيما في ظل التبدلات الإقليمية والعالمية، وفي ضوء مستجدات الحرب في أوكرانيا وغزة ولبنان، مع ما ستفضي له نتائج الانتخابات الأميركية في الخامس من تشرين الثاني المقبل وتباين الرؤى بين الجمهوريين والديمقراطيين، والأهم من ذلك كله هو ما تفصح عنه التقارير التي تتحدث عن أن أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر وسط الأزمات المتتالية التي تعصف بالاقتصاد وبالمجتمع السوري والتي تزداد يوماً بعد يوم.
كل ما ذُكر يجعل الموضوع الأكثر حساسيةً هو عودة عجلة الإنتاج بقوة وزيادة حجم الإنتاج والاستثمار مستفيدين من القرارات العديدة التي صدرت في سبيل تشجيع ذلك خلال السنوات الست الماضية في محاولة لتهيئة البيئة التشريعية نحو الاستثمار والإنتاج، ولاسيما قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021 وتعديلاته، فلا وقت لنسف قرارات سابقة والبدء بحزمة قرارات جديدة على الصعد كافة من الصفر، حيث لا بد من البناء على ما قُدّم وأُسس سابقاً اختصاراً للوقت والجهد الحكومي، مع ضرورة أن تكون البيئة التشريعية مرنة وقابلة للتعديل بشكل فوري بناءً على متطلبات الواقع من ناحية، ومتطلبات قطاع الأعمال (فيما يخص الشأن الاقتصادي) من ناحية ثانية، وذلك من خلال النقاشات والحوارات حول كل التشريعات بما يناسب العمل والاستثمار ويجعل استكمال البيئة التشريعية خلال فترة زمنية قصيرة جداً.
كما أن التركيز الحكومي يجب أن يصبّ على تضافر السياسات النقدية والمالية والتجارية والاستثمارية، بما يضمن تحسين الإيرادات الحكومية والتي ستقابل بكل تأكيد بزيادة في النفقات الحكومية مع تزايد الإنتاج وتزايد متطلبات مرحلة إعادة الإعمار، لحين الوصول إلى تقليص عجز الموازنة العامة للدولة سنوياً سواء من خلال زيادة الايرادات العامة أو استمرار إصدار سندات الخزينة بعيداً عن الإصدار النقدي قدر الإمكان ولاسيما أن حجم العجز المقدر في العام الحالي 2024 يعتبر كبيراً جداً.
وفي هذا الصدد فإن كل ما سبق سيسهم بكل تأكيد في تفعيل الاستثمار ومن ثمّ زيادة الادخار وزيادة الكتلة النقدية القابلة للاستثمار وتفعيلها في الاقتصاد بشكل متزايد، ما سيؤثر إيجاباً في معدلات التضخم من جهة تخفيضها نوعاً ما، وكذلك في سعر صرف الليرة بما يدعم استقراره بفعل عوامل الإنتاج وليس فقط من خلال سياسة نقدية هادفة إلى تثبيته بشكل محض بل بشكل أكثر ديمومةً واستقراراً.
وبمجرد الوصول لهذه المرحلة فإن الاستهلاك سيزداد بكل تأكيد، وسينعكس إيجاباً على الإنتاج، وهذه نقطة إيجابية أيضاً تجعل من دائرة الإنتاج والادخار والاستهلاك تتسع وتسير بخطا ثابتة وخصوصاً إن ترافقت زيادة الإيرادات العامة بضخ زيادة في الرواتب والأجور لتحسين واقع حال محدودي الدخل في القطاع العام والخاص، فعندها ستكون بمنزلة محرك اقتصادي موجه نحو الاستهلاك الذي سيحرك العجلة الإنتاجية بكل تأكيد.
وفي هذا السياق، لابد للحكومة الجديدة من تطبيق الحوكمة السليمة لجميع القطاعات التي يتكون منها الجهاز الحكومي وذلك لكل الوزارات والمؤسسات والشركات من خلال مجالس إدارة كفوءة تتمتع بحرية واستقلالية تستطيع توجيه دفة هذه المؤسسات والشركات لبر الأمان، على أن تكون هذه المجالس معززةً بخبراء ومختصين من خارج الفلك الحكومي يدلون بأفكارهم الهادفة لريادة المؤسسة أو الشركة التي عُيّنوا في مجالس إداراتها، مع رفع كفاءة الرقابة الداخلية والتدقيق الداخلي في كل هذه المؤسسات والشركات التابعة للجهاز الحكومي وصولاً لتقليل الفساد من ناحية، وزيادة الإنتاجية من ناحية أخرى.