حلب.. نخاع الاقتصاد السوري الشوكي
|د. علي محمد
أثبتت الحرب ومفرزاتها خلال ثلاثة عشر عاماً أن انهيار الصناعة في المدينة الأقدم في العالم «حلب» التي يتجاوز عمرها 12,200 عاماً لم يكن حدثاً عابراً في الحرب على سورية، وليس بحدث اقتصادي يتطلب دورة اقتصادية أو أكثر ليعاود مستواه، وكذلك لم يكن انهيارها مماثلاً للمنهجية نفسها التي اتبعت في باقي المحافظات السورية، بل كان ما حدث في حلب «اقتصادياً» هو الأكثر إيلاماً والأشد نزفاً في جسد الاقتصاد السوري مُسبّباً (إلى جانب سواه من الأسباب) تراجعاً في الإنتاج بقطاعاته كافة، وخسارةً للكيانات الاقتصادية الضخمة وللسلع الرأسمالية (الآلات، خطوط الإنتاج، إلخ)، ونزوحاً لرأس المال خارج حلب وسورية كلها نتيجةً للتدمير الذي لحق بأكثر من 90 بالمئة من المصانع والمعامل، وقيام رؤوس الأموال المهاجرة بالإبداع الاقتصادي في دول الجوار وسواها من دول المنطقة والعالم، كما سبب ذلك فقداناً لليد العاملة الخبيرة بشتى المناحي والقطاعات، فحلب التي كانت تسمى مدينة «صناعة المليون» نسبةً إلى مليون عامل في مصانعها، ربما لا يتعدى اليوم من يعمل فيما تبقى من معاملها وورشها سوى مئة ألف بشكل تقريبي، فبعض التقارير والإحصائيات الصادرة في العام 2020، كانت تتحدث عن انخفاض الورشات والمصانع في حلب من نحو 40 ألف ورشة ومصنع إلى نحو ألف فقط، وخلال السنوات الأربع التالية استمر النزيف على حاله ولو بغياب الأرقام الرسمية والتقديرات، لكن العدد بكل تأكيد أقل، وبالسياق نفسه كانت تقارير البنك الدولي تتحدث في ذروة الحرب في العام 2015 عن تهاوي القطاع الصناعي في سورية إلى (ناقص 27 بالمئة)، حيث كان التهاوي الصناعي الحلبي بنسبة قد تقارب النصف نظراً لاشتداد الحرب في حلب وتصاعد وتيرتها الاقتصادية والعسكرية آنذاك.
ولا نبالغ إن قلنا إنَّ ما ذكرناه آنفاً ساهم بلا شك بتراجع الليرة السورية وارتفاع بمعدلات التضخم وانخفاض بحجم الإيرادات العامة للدولة ومعها تقلص الموازنة بشكل عام وارتفاع العجز، ولا داعي لسرد تأثير كل ما سبق في الحالة المعيشية للمواطن السوري والنزيف المستمر للكوادر البشرية نتيجة ارتفاع معدلات البطالة في عموم سورية.
وبناءً عليه، حلب تحتاج إلى دفعة استثمارية تنموية، وهذا يعني دعماً حكومياً كبيراً ومشاركةً واسعة من رجال الأعمال والصناعيين السوريين لإعادة ألق الصناعة الحلبية، وهذا يتطلب بطبيعة الحال ألا يكون عدم توافر الطاقة معوقاً للعمل والإنتاج، ولا يعني أن يكون ضعف الإمكانيات الحكومية ذريعةً للإهمال والتراخي، فتحسين واقع خدمات المناطق الصناعية في حلب هو أمر بدهي ولاسيما أننا نتحدث عن أعمال الخدمات العامة من تزفيت وإنارة وشبكات هاتف وماء، وصيانة شبكات الكهرباء وحماية تردداتها خوفاً من تضرر الآلات العاملة عليها، وتخفيضاً للكلف التي يتكبدها الصناعي، بما يعزز من تنافسية المنتج محلياً وعالمياً، وبالحديث عن الكهرباء فلابد من أخذ ملف الكهرباء وتكلفته على محمل الجد الحكومي، فعندما ترتفع أسعار الطاقة الكهربائية للقطاع الصناعي بنحو 50 ضعفاً مقارنة بأسعارها عام 2020، فيجب ألا نتوقع إقلاعاً لمصانع حلب المتهالكة، ولا تخفيضاً لتكلفة منتجات حلب المتواضعة، ولا نفاذاً قوياً للصناعة الحلبية في دول العالم ولا عقوداً تصديرية ضخمة، وهذا من أبرز مطالب صناعيي حلب سواء في منطقة الشيخ نجار وسواها، فلا يعقل أن يكون الكيلو واط الساعي في سورية نحو 16,5 سنتاً أميركياً على حين تبلغ تكلفته 2,5 سنت في مصر و12 سنتاً في تركيا و7 سنتات في السعودية كما بين كتاب غرفة صناعة حلب الموجه للحكومة السورية بتاريخ 26/03/2024.
ويُضاف إلى ما سبق التسريع بإقلاع منطقة الليرمون كمنطقة تنموية في حلب وريفها، ودراسة وتنفيذ بعض المطالبات التي تُطلق حول حاجة حلب لإنشاء مرفأ جاف، وذلك بعد الدراسة الوافية لها من حيث جدوى ذلك وأهميته ومردوده على الإنتاج في حلب تحديداً ولسورية بشكل عام.
إن حلب تستحق الكثير، وعلينا تقديم كل ما تحتاجه، فهي النخاع الشوكي لاقتصادنا.