1,1 مليون من العاطلين عن العمل ليس لديهم خبرات سابقة و55 بالمئة معدل الفقر الشديد … د. سيروب لـ«الاقتصادية»: التعافي المبكر سياسة اقتصادية اجتماعية وليس مرحلة من أجل أن يكون التعافي المبكر مُستداماً.. تقدير الموارد المحلية بشكل أفضل وخريطة تنموية وتمويل ميسر
| بارعة جمعة
اثنا عشر عاماً من الحرب على سورية، كانت كفيلة بتحويل الصراع من سياسي إلى اقتصادي – إقليمي، ومن ثم الخوض في تفاصيل اقتصادية مرهقة، دفعت بالكثير من الراغبين للعودة والبدء بمشاريع خاصة بهم لحسابات أكبر مما هو متوقع، فغدا توجّه المجتمـع الدولي إلى إدارة الأزمة لعجزها عن حلها، وبالتالي الخوض في تجربة التعافي المبكر كبديل عملي ونهج متكامل، للانتقال من مرحلة الإغاثة إلى التنمية المُستدامة، وعودة تشغيل القطاعات الاقتصادية في سورية، للحد من الأزمات التي يعيشها الشعب السوري، التي سجلت ازدياداً في نسب الفقر، في ظل العقوبات الاقتصادية، وغياب الظروف والمناخات السياسية والاقتصادية الداعمة للدخول في مرحلة إعادة الإعمار.
إلا أن مفهوم التعافي المُبكر لا يزال موضع نقاش متزايد داخل سورية، وفي أروقة المنظمات الدولية، كما يفتقر إلى تعريف دقيق وموحد في ظل تعقيدات العقوبات الدولية، لكون أنشطته تتداخل بين المشاريع الإنسانية وإعادة الإعمار، وذلك وفق الطرح الذي قدمته الباحثة الاقتصادية والدكتورة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق رشا سيروب، ضمن حلقتها النقاشية والبحثية عن مفهوم التعافي المبكر بما يتوافق مع السياق السوري، انطلاقاً من الاعتبارات المحلية، التي أكدتها في حديثها لـ «الاقتصادية»، عن متطلبات التعافي المبكر بصفته سياسة اقتصادية لا مرحلة انتقالية.
تبدل الإستراتيجيات
لم يعد مخفياً على أحد تراجع دور المنظمات الإغاثية في سورية، التي سجلت في تقارير عدة لها شكاوى عن نقص التمويل لها، كان آخرها إعلان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن ضعف قدراته على الاستجابة الإنسانية في سورية، وعدم تجاوز تمويل المنظمة نسبة 24 بالمئة من المبلغ المطلوب في 2024، أي نحو 960 مليون دولار من أصل 4,07 مليارات دولار، طلبت الأمم المتحدة توفيرها لمساعدة أكثر من 10 ملايين محتاج في جميع أنحاء سورية، وتحول دعم هذه المنظمات للحرب الأوكرانية على روسيا، ومن بعدها حرب غزة أي دعم كيان العدو، أمام حاجة سورية للدعم بما يُقارب الـ4 مليارات دولار.
من هنا انطلقت الباحثة الاقتصادية د. رشا سيروب في طرحها عن مبدأ العمل في سورية، ولاسيما بعد تغيير كل من الداعمين والمانحين لإستراتيجياتهم، بعد قيام المنظمات الدولية سابقاً من خلال المنظمات المحلية بدعم بعض المشاريع الصغيرة أو تقديم منح مالية لتوسيع مشاريع أخرى.
فالجميع بات يدرك أهمية التعافي المبكر في سورية، والخوض في غمار العمل ضمن الموارد المتاحة وعدم انتظار المنظمات الدولية وفق رؤية د. سيروب، من مبدأ أن التعافي هو سياسة اقتصادية اجتماعية وليس مرحلة أو عملية أو نهج كما يعرفه البعض، بل يجب المضي به مدفوعاً بموارد محلية على طريق تحقيق التنمية المُستدامة.
صندوق التعافي المبكر
سورية لم تعد ضمن أولويات الأطراف الدولية الداعمة، تعود د. رشا سيروب لتأكيد الواقع الحالي، وسط تقييد المانحين دعمهم بأهداف سياسية معينة، ودور العقوبات في زيادة صعوبة الوصول لضمانات حصول بعض منظمات المجتمع المدني المحلي على التمويل الخارجي، لذا برزت الحاجة لصياغة مفهوم إجرائي للتعافي المبكر بما يتناسب مع الواقع السوري، عبر تفعيل دور المجالس والإدارات المحلية لإحداث صندوق التعافي المبكر ووضع الخطط وتقدير الاحتياجات والموارد لكل منطقة، من هنا تبدأ مرحلة العمل وفق د. سيروب، باعتماد الصندوق في تمويله على موارد غير تقليدية وبعيداً عن الموازنة العامة للدولة، والاستفادة من الحوالات القادمة للبلاد، التي يتم تسعيرها على سعر السوق السوداء، عبر استثمار فارق السعر لتمويل الصندوق.
هو نهجٌ جديد، يعالج احتياجات الإنعاش التي تنشأ خلال المرحلة الإنسانية من حالة الطوارئ باستخدام آليات إنسانية تتماشى مع مبادئ التنمية، كما يشكل الصندوق برأي د. سيروب أداةً تمويلية لخطة مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر، ولجميع الفرص الاستثمارية المُحتملة بما يسهم بمخرجات أكبر داعمة لمشاريع كبيرة.
أكثر جدوى
البعض قد يسأل: لمَ التوجه إلى مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر؟.. تجيب الدكتورة رشا سيروب، شارحةً العوائد من تمويل ودعم مثل هذه المشاريع، التي ستنعكس على المجتمع ككل، وسط تراجع نسبة التوظيف إلى 23,7 بالمئة وارتفاع عدد النساء المُعيلات لأسرهن بنسبة 43,1 بالمئة، مقابل ازدياد بطالة الإناث مقارنة بالعامين السابقين، بالإضافة لانخفاض قوة العمل نتيجة الهجرة والإحباط بنسبة 60 بالمئة.
من هنا كان التوجه لهذه المشاريع، التي ستلجم الفجوة الكبيرة بين الدخل والإنفاق برأي د. سيروب، والتي بلغت نسبة 12 بالمئة، مع وصول نسبة الفقر الشديد لـ55 بالمئة وانخفاض نسبة الشريحة التي تتقاضى أجراً أعلى من 300 ألف شهرياً إلى نسبة 15 بالمئة، وبلوغ وسطي إنفاق الأسرة شهرياً مبلغ 2,5 مليون ليرة سورية، لذا كان من الواجب برأي د. سيروب التركيز على الملكية المحلية وتعزيز القدرات واستهداف الفئات الأكثر هشاشة بهذه المشاريع، التي يجب أن تقوم على ثقافة اعتماد المجتمعات المحلية على نفسها وتطوير قدرات الأفراد والمؤسسات نحو الاستدامة في الموارد، وتوفير الفرصة للحصول على دخل من خلال العمل في وظيفة أو إقامة مشروع تضمن كرامة الأفراد ومساعدتهم للتعافي وتحقيق التماسك الاجتماعي.
كما تأتي أهمية هذه المشاريع، لكون 36,5 من أصحاب العمل يعملون لحسابهم فقط دون تشغيل أي أحد معهم، بالإضافة إلى أن إيجاد فرصة عمل في المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر تعادل 10-50 مرة من فرصة عمل واحدة في المشروعات الكبيرة، التي تقارب تكلفتها الـ500 مليون ليرة سورية، وتلجأ للاقتراض من البنوك أيضاً وفق د. سيروب، داعية إلى توجيه القروض إلى مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر التي تسهم بإيجار فرص عمل أكثر، إلى جانب كونها تعمل بموارد محلية وتدفع عجلة الاقتصاد وتقضي على حالة التكيف السلبي السائدة في المجتمع، التي نتجت عن الفقر الشديد، الذي أدى بدوره مظاهر سلبية أبرزها تسرب الأطفال من المدارس والتي بلغت 33 بالمئة، وتوجه الأطفال للعمل الذي ازداد بنسبة 5 بالمئة، والتوجه للزواج المبكر وشيوع مظاهر التسول أيضاً.
أهمية بالغة وتحديات كبيرة
«خلق فرص عمل، توليد الدخل، خفض معدلات البطالة، اكتساب مهارات وخبرات عملية»، أهم النتائج الاجتماعية المرجوة من المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر وفق قراءة د. سيروب، إلى جانب تقليل الفجوة بين الدخل والنفقات والتخفيف من حالات التكيف السلبي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، أما ما يحمله الشق الاقتصادي فهو استغلال الموارد المحلية وتقليص الاستيراد، وتحقيق نمو اقتصادي فعال، ما يستدعي تبسيط الإجراءات لطرح فرص استثمارية، وإعطاء كل من لديه فكرة مشروع فرصة تنسيق أوضاعه وتبسيط إجراءات التراخيص، بمنح صاحب المشروع رقم عمل بعيداً عن مطالبته بسجل تجاري أو تكليفه بدفع نسب ضرائب، الأمر الذي يجعل من هذه الأفكار واقعاً برأي الدكتورة رشا سيروب، داعية مجالس الإدارة المحلية بعرض الفرص المتاحة واختيار الأقرب للتطبيق وضمان الفائدة منها، التي ستوفر لاحقاً متطلبات عمل المشروعات الكبيرة وصلة الوصل بين المحليات المختلفة أي التشبيك بين الاقتصادات المحلية.
كما تتسم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر بالفائدة للاقتصاد كله، عكس ما تقدمه المشاريع الحالية باقتصار فائدتها على الشخص ذاته، ما يرتب على الجهات المرتبطة بها فهم الاحتياجات وتقدير الموارد المحلية بشكل أفضل، ووضع خريطة تنموية لها، توفير التمويل الميسر، بناء شبكات الأعمال.