كنا قد تناولنا في عدد «الاقتصادية» 18/08/2024 الأسباب النفسية التي تسهم في التهرب الضريبي لدى المكلفين، والتي كان من أبرزها انخفاض الشعور الأخلاقي للمكلف تجاه الالتزام الضريبي، والذي يؤازره وجود خلل في الإدارات الضريبية المكلفة تحصيل الحقوق والضرائب المستحقة للخزينة العامة نتيجة ما تعانيه هذه الإدارات من ضعف الأداء والكفاءة والخبرة، إضافة إلى انتشار الفساد بين كوادرها لعدة أسباب منها انخفاض الشعور بالمسؤولية بضرورة التدقيق في معاملات وأرقام المكلفين من جهة، أو ضعف حوافزهم ورواتبهم وسط متطلبات المعيشة المرتفعة من جهة أخرى، وغيرها من الأسباب التي تنضوي تحت مسمى الأسباب الفنية والإدارية للتهرب الضريبي، وبذلك تتكامل الأسباب للتهرب الضريبي والتي تتوج بانعدام الثقة بين المكلفين (نتيجة انخفاض الوعي الضريبي لديهم وضبابية تطبيق ومآل الضريبة وفق وجهة نظرهم) وبين الإدارة الضريبية (نتيجة انخفاض الأداء).
في هذا الصدد، وفي ظل شح الأرقام والبيانات المتوافرة في سورية حول حجم التهرب الضريبي، فقد كانت تشير التقديرات إلى أن حجم التهرب الضريبي في العام 2010، وعلى سبيل المثال تتراوح بين 200 مليار ليرة سورية إلى 400 مليار ليرة سورية بما يعادل نحو 10-20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ حينها نحو 3000 مليار ليرة سورية، أما في أحدث الأرقام، فقد صدرت تصريحات لوزارة المالية السورية في العام 2019 عن تنظيم نحو 1000 ضبط تهرب ضريبي بمبلغ تجاوز 160 مليار ليرة سورية، وهذه الضبوط تشمل أرقام الأعمال المتهرب منها التي لم يتم الإفصاح عن مدى تحصيل الضريبة المستحقة المترتبة أم لا، أما حجم الأعمال المتهربة ضرييياً في العام 2021 فقد بلغت قرابة 3,200 مليارات ليرة سورية و100 مليون دولار بحسب تصريحات الوزارة، ما يعادل حينها نحو 4,000 مليار ليرة سورية بمبلغ ضرائب مستحقة (طُلب تسويتها من قبل المكلفين) تعادل نحو 1,000 مليار ليرة سورية وسطياً، وهذا المبلغ يشكل حينها نسبة 25 بالمئة من كتلة رواتب وأجور القطاع العام لسنة 2021 البالغة وقتها 4,400 مليارات ليرة سورية، وهذه النسبة لا يستهان بها لكونها قادرة وحدها على زيادة كتلة الرواتب والأجور مثلاً بذات النسبة سنوياً وذلك بافتراض عدم الحصول على مصادر إيرادات أخرى، أما بالنسبة لحجم الأعمال والأرباح المخفية فقد أفادت التقديرات ذاتها بتنظيم 814 ضبطاً بمبيعات وأرباح مخفية بواقع 1,838 مليار ليرة سورية، وهذا يعني تهرباً ضريبياً بضرائب مستحقة مضبوطة بنحو 500 مليار ليرة سورية في العام 2021 والذي لا معلومات عن القيام بتحصيله أم إن الأمر في عهدة القضاء.
ما تقدم يبقى في إطار أرقام التهرب الضريبي التي تم كشفها أو ضبطها أو طُلب تسويتها لعام ما، ولا نتحدث عن حجم التهرب الضريبي المستمر منذ عقود سنوياً، وتبقى الأرقام المذكورة بعيدة عن الحجم الحقيقي للتهرب الضريبي الذي يصعب تقديره، بينما تفصح النشرات الإحصائية الرسمية عن أن حجم إيرادات الضرائب والرسوم المقدرة في موازنة العام 2022 (على سبيل المثال لكونها البيانات الأحدث التي تم نشرها رسمياً) تعادل 3,133,000 ملايين ليرة سورية، وفي حال افترضنا أن نسبة التهرب الضريبي بالمتوسط تعادل نحو 15 بالمئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي للعام 2021 البالغ حينها 25,970,000 مليون ليرة سورية، فإننا أمام تهرب ضريبي تقريبي يقارب ضعف مبلغ التحصيلات الضريبية المقدرة للعام 2022، أي بنحو 4,000,000 ملايين ليرة سورية في العام 2022، ويتكرر ذات المبلغ سنوياً (بل ربما مع ارتفاع مطرد)، وهو مبلغ ضخم مقارنةً بحجم الاقتصاد السوري كرقم فقط، أما إذا أخذنا آثاره غير المباشرة بعين الاعتبار فإننا أمام تأثير كبير جداً بدءاً من التكاليف التي تتكبدها الحكومة لمحاربته (تمويل أجهزة المكافحة، تمويل عملية مراجعة الحسابات والتدقيق، إلخ) مروراً بالإضرار بفروع الإنتاج كافة ولاسيما تلك التي يُوجّه لها الإنفاق الاستثماري المتواضع، انتهاءً بعجز الموازنة العامة المستمر والتمويل بالعجز وما لذلك من آثار تضخمية كبيرة.